تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

ديمقراطية في السودان.. وداوني بالتي كانت هي الداء

13 سبتمبر, 2025
الصورة
ديمقراطية في السودان.. وداوني بالتي كانت هي الداء
Share

يتم الترويج للديمقراطية بأنها المنتج الحداثي النهائي الكفيل بوضع إجابة مقنعة لصيغة المشاركة. تُعرّف الديمقراطية (Democracy) بأنها مشاركة من انطبقت عليهم شروط المواطنة -أيا كانت- في اختيار ممثليهم وقادتهم عبر الانتخاب الحر، والتي ينبغي أن تصاحبها عملية ملازمة تسمي الدمقرطة (Democratisation)؛ وهي مجموعة من القواعد الأساسية والبنى والممارسات لحماية وضمان استقلالية العملية الديمقراطية واستمرارها.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الديمقراطية أيا كان نوعها، تبقى في مستواها العملي مجرد عملية ميكانيكية (عدد أصوات ونسب تمثيل)، نجمت عن جوانب اجتماعية واقتصادية محددة. لذلك، فإن الخلفية الثقافية والنشاط الاقتصادي لمجتمع ما هي المحدد الرئيسي لناتج التمثيل الديمقراطي.

لكن قبل المضي قدما في طريق الديمقراطية وإشكالاته هناك شرط رئيس، وهو شرط المجتمع ذي البنية المتماسك، والذي تجاوز على الأقل في مرحلة ما من تاريخه فرضية عودة الحرب الأهلية والاحتراب القبلي داخل مكوناته، فالعملية الديمقراطية في في جوهرها تنافس بين قوى اجتماعية، تتبارى لوضع الملامح العامة لصيغة الدولة.

في حالة المجتمعات الهشة، كما في دولنا وخصوصا السودان، فإن الآثار الجانبية للصيغة الديمقراطية عادةً ما تكون شديدة الخطورة، وقد تعمق للصراع والاستقطاب. في العالم الثالث هناك شواهد، لا حصر لها، تؤكد انتشار الفساد في الأنظمة الديمقراطية، وفشل المؤسسات والاختطاف الكامل للدولة من تحالف قوى اجتماعية ونخبة سياسية عبر سيطرتها على القطاعات الحيوية، وتوظيف الامتيازات الحصرية لحشد الأصوات والتنافس.

عن جوهر الصراع

في حالة السودان هنالك ثلاثة عوامل رئيسية في خريطة الصراع السياسي (وهو اجتماعي في جوهره)؛ الإسلام والاستعمار والتنوع الإثني. فالسودان مرت عليه ممالك إسلامية، مثل: مملكة سنار (1504-1821) ومملكة الفور (1603-1874) استمرت كلاهما لمئات السنين، وسقطت مع غزو المستعمر التركي والإنجليزي في بدايات القرن التاسع عشر والعشرين، وبالتالي فإن الهوية الإسلامية وتواجدها في الصيغة الاجتماعية أصبحت من صميم التشكيل الثقافي وبنية الوعي للغالبية من التكوينات الاجتماعية، وهو ما أفضى لاحقا إلى ظهور فئات اجتماعية طرقت سبيل الإسلام من باب الدين والدولة، واعتبرت أن استبعاد الإسلام من سؤال الدولة نكوصا عن الدين، وأن من تمام الإسلام وكماله تضمينه في صيغة الدولة والمشاركة السياسية.

وضعت هذه الحدود العديد من المجموعات العرقية والثقافية في حالة صراع، بسبب تقسيمها إلى عناصر سياسية متباينة

تشكلت في المقابل قوى اجتماعية حديثة ملامحها بواسطة المستعمر وأدواته من تعليم ووظائف، انقسمت هي نفسها بعد خروج الاستعمار، وتبنت مشاريع سياسية متباينة. وكان التنوع السكاني وسيطرة الوجود العربي المسلم نسبيا على الفعل السياسي الحاضر، بسبب وجود المستعمر التاريخي في مناطقه، كان ذلك أيضا من مكامن الصراع الرئيسية، حيث تبنت الأقاليم الطرفية السردية الماركسية التي صورت التفاوت في التنمية بين أقاليم الوسط والأطراف على أنه صراع طبقي بين فئات اجتماعية، وكونت مليشيات مسلحة تحولت إلى جيوش ممولة من الخارج حاربت الجيش المركزي لعقود، وجعلت من المركزية الأفريقانية هوية مركزية ينبغي تبنيها ضد الهوية الإسلاموعروبية في نموذج أقرب لما حدث في زنجبار.

لا ينبغي القفز على حقيقة أننا في عالمنا الثالث لم نكن طرفا في ترسيم حدودنا، وأن ما ورثناه من المستعمر هو وحدات إدارية وظيفية سُميت اصطلاحا بالدول، وهي ناتج تقسيم تشابكات ومساومات القوى العظمى فيما بينها. وضعت هذه الحدود العديد من المجموعات العرقية والثقافية في حالة صراع، بسبب تقسيمها إلى عناصر سياسية متباينة. ينبغي أيضا عدم القفز على حقيقة أن الديمقراطية التمثيلية بصيغتها الحالية لم ترضيتها المجتمعات، كما في بلدان نشأتها وتطورها، فقد تم استيرادها، وفُرضت قسرا لتقسيم الأوزان الاجتماعية.

الديمقراطية وتأجيج الصراع

في الحالة السودانية كان أول تمرين ديمقراطي عقب الاستقلال مطلع 1956، حين قامت حكومة برلمانية منتخبة، سيطرت عليها نخبة مسنودة بقوى اجتماعية تقليدية لم تدم أكثر من عامين، وانتهت بتسليم السلطة من رئيس الوزراء إلى قيادة الجيش، بسبب استحالة الوصول إلى بيئة برلمانية سوية تسمح للحكومة بالعمل، وربما لقطع الطريق عن حجب الثقة وظهور تحالف مناوئ. في كلتا الحالتين فإن التراشق والممارسة السياسية الكيدية وغياب مظاهر التنمية كانت جميعها سمات المشهد السياسي العام.

استمرت الحالة السودانية بعد ذلك في حلقة مفرغة من حكومات عسكرية تنتهي بانتفاضات شعبية، تليها حكومات انتقالية تعقبها حكومات ديمقراطية ائتلافية، وأصبحت المعركة كلية هي معركة السلطة لا المجتمع، وأصبحت السيطرة على الدولة هي مفتاح إدارة الصراع، فازدادت عزلة المجتمع وتخلفه.

مرت على السودان ثلاث حقب ديمقراطية سُمّيت بالديمقراطية الأولى والثانية والثالثة، بحسب تسلسلها الزمني، جميعها أتت عقب انتفاضات شعبية تبعتها حكومات انتقالية سريعة قامت بإجراء الانتخابات، اشتركت جميعها في السمات والملامح العامة، من وجود نفس الأحزاب والكتل، إن لم تكن بنفس الشخوص. فكل حكومة ائتلافية جديدة كانت تطرح برنامجا سرعان ما يصطدم بتحديات الواقع، وعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الأساسية، بسبب التباين الشديد في الرؤى والسياسات، وعادة ما يتم فيه توظيف فشل السياسات نفسه من أجل فك الارتباط أو إعادة تشكيل تحالفات ضمنية جديدة.

المعركة هي معركة السلطة لا المجتمع، وأصبحت السيطرة على الدولة هي مفتاح إدارة الصراع

تفاقم ذروة الصراع لتصل الحكومات إلى الشلل التام الذي ينتهي باستلام الجيش للسلطة، إما طواعية في حالة الديمقراطية الأولى أو عبر انقلاب عسكري، بإيعاز حزبي في التجربتين الثانية والثالثة، والتي كانتا نتاجا مباشرا لصراع برلماني، تم فيه حل الحزب الشيوعي السوداني في الديمقراطية الثانية، وطرد نوابه من البرلمان في سابقة غير دستورية. فكان رد الحزب بعدها بسنوات عبر انقلاب عسكري، وهو نفس سيناريو الديمقراطية الثالثة، حيث تم حشد ائتلاف لكتل حزبية برلمانية نجم عنه إخراج كتلة الإخوان المسلمين من الحكومة، فكان ردهم سريعا بعد أشهر فقط عبر انقلاب عسكري.

الديمقراطية طريق وعرة

الناظر إلى ما صارت إليه مآلات التجربة الديمقراطية السودانية يجد نفسه أمام معضلة مركبة. فبالإضافة لعدم التوافق وغياب العمل المشترك نحو تنفيذ أي برنامج سياسي واضح المعالم والأهداف، وقيام الأحزاب السياسية بالاستثمار في جراح القوي الاجتماعية بدلا عن تضميدها، كانت هناك أيضًا قوى سياسية حاضرة لا تسندها قوي اجتماعية تضمن لها التواجد الفاعل عبر التمثيل النيابي، فنتج عن ذلك معضلة شبيهة بالدجاجة أولا أم البيضة.

تم إفراغ الديمقراطية بصورتها الراهنة في السودان من غاياتها، وتحويلها لأداة أخرى من أدوات الصراع، وهي عديمة الجدوى بوجود الطبقة السياسية الحالية

إذا كانت هناك قوى اجتماعية أصيلة غائبة عن التمثيل السياسي، وقوى سياسية فاعلة بلا حضور اجتماعي، ونخبة مسيطرة ترفض العمل الجماعي، فكيف يمكن لهذه التوليفة الغريبة أن تحقق أي صيغة ديمقراطية ذات جدوى- والنتيجة بالطبع- هي توسيع الهُوّة بين الحضور الاجتماعي والفعل السياسي.

هذا إن تجاوزنا أيضا حقيقة أن غالبية الأحزاب الفاعلة نفسها تتم داخلها عملية التنافس والتمثيل والصعود للقيادة بصورة نمطية تقليدية أقرب إلى نموذج القبيلة، حيث تنفرد شخصيات بعينها أو أسرة واحدة برئاسة الحزب حتى الممات دون عملية تجديد طوعية بل يكون الباعث الرئيس لاختيار قيادة جديدة هو عادة موت القيادات القديمة أو مرضها، وفاقد الشيء لا يعطيه.

لقد تم إفراغ الديمقراطية بصورتها الراهنة في السودان من غاياتها، وتحويلها لأداة أخرى من أدوات الصراع، فكرست التشظي والكراهية والحرب، وهي عديمة الجدوى بوجود الطبقة السياسية الحالية، وستظل العملية في حالة ركود يشجع باستمرار على تكاثر الحروب والأزمات.

يفرض هذا على السودانيين اليوم وليس غدًا أن يتجاوزوا كليا مشاريع الديمقراطية النيابية التي لا تناسب خصائصهم الاجتماعية، وأن يبحثوا بجدية عن صيغة أخرى أكثر توافقية، وأن يستثمروا في هندسة نموذج ديمقراطي جديد أكثر تحيزًا للمجتمعات (دمقرطة محلية)، خصوصا في ظل انتشار السلاح الذي يجعل من الممارسة الديمقراطية عبثاً سياسياً غير مجدي، يكرس لوجود طغمة فاسدة، ويوسع الصراع السياسي لينقله إلى صراع اجتماعي، وهو ما حدث بالفعل بعد سقوط البشير، واندلاع حرب 15 أبريل/ نيسان الحالية.