الاثنين 17 مارس 2025
قد يكون الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، لا يشبه أحدا في تفكيره وسلوكه، مما يستدعي التساؤل حول ما يمكن أن يجمع رجلا ترعرع في كنف نظام الحكم، مثل غورباتشوف، وأحد الأثرياء الذي أفني جزء كبيرا من حياته في سوق العقارات، ومفاوضات البيع والشراء في عالم الرأسمالية المتوحشة في منهاتن، ثم صعد إلى سدة الحكم لأقوى إمبراطورية في العالم، ليديرها باستراتيجية البيع والشراء مع الجميع.
بالرغم من ذلك، فإن طريقة التفكير عند دونالد ترامب والخطوات التي يتخذها تترك وراءها أثرا بالغا، من الممكن أن يغير مسار التاريخ من جديد، بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في 1945، وربما تجذر هذه السياسيات بقراءة أوسع.
دشن ميخائيل غورباتشوف، قائد الاتحاد السوفياتي عام 1985 سياسات جديدة، تهدف لإصلاحات جوهرية تمس مقومات الاتحاد السوفياتي منذ ستين عاما. تضمنت هذه السياسات التي عرفت باسم البيريسترويكا، وتعني إعادة الهيكلة، تحريرا أكثر للسوق وتحفيزا للاستثمار الخارجي، كما تبنى سياسات أكثر انفتاحا ولامركزية، فأرخى قبضة هيئات الحزب الشيوعي والمؤسسات البيروقراطية العليا لصالح ممثلي الدولة والحزب في المناطق المحلية. وفي السياسة الخارجية تبني غورباتشوف توجها يقدم المصالح الاقتصادية والسياسية على المبادئ الأيدولوجية للحزب.
تمثل الهدف من إعادة الهيكلة في تحفيز الاقتصاد، وإعادة عظمة الاتحاد السوفياتي الذي بدا مترهلا حينها، في نظر غورباتشوف ومساعديه، دون التخلي عن المبادئ الأساسية للشيوعية. لكن من خلال هذه الإصلاحات، كان غورباتشوف يعمل على تفكيك الأسس الأيديولوجية للحكم الذي تأسس عليه الاتحاد، ودعم كيانه لعقود، فتداعى النظام بتسارع أكثر من خطوات الإصلاحات تلك، وبشكل يصعب تداركه، مما أدى الي انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط الكتلة الشرقية برمتها بفعل البيريسترويكا التي ربما سرًعت فقط من وتيرة الانهيار.
منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، انحصرت السيطرة المطلقة للعالم في يد الولايات المتحدة، كقطب أوحد في العالم، تسير النظام الدولي وفق مصالحها وحلفائها. في واقع الأمر، أصبحت الولايات المتحدة الدولة الرائدة والمهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية التي مرت عليها ثمانون عاما، منذ أن أنهتها الولايات المتحدة بإسقاطها، ولأول مرة وآخرها، قنبلتين نوويتين على اليابان، فصارت بعدها قائدة لأحداث تاريخية كبري غيَّرت مجرى التاريخ من إنهاء الحرب، وإنهاء سياسات الاستعمار الاحتلالي التي سادت في القرون الثلاثة التي سبقت تلك الحروب العالمية.
كما قادت الولايات المتحدة، مع حلفائها المنتصرين في الحرب، إنشاء منظمة الأمم المتحدة باعتبارها حاضنة للشرعية الدولية، والتي تنضم إليها جميع الدول فيما بعد، ويتم قبول عضويتها دون أن تبدي رأيا في اللوائح المؤسسة لها. كما تخضع جل صلاحيات المنظمة لمجلس الأمن الدولي الذي تحتكر سلطته الخمس الدائمة، وهي قادة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب بالإضافة الي الصين.
على خلاف الاتحاد السوفياتي، قامت الولايات المتحدة على أسس السوق الحرة والسياسة الديمقراطية المنفتحة وحكم القانون. تجذرت هذه الأسس وترسخت في النمط المؤسساتي الثابت والصلب، المتمثل فيما عرف "بالدولة العميقة" التي تشبه دولة الظل المتنفذة تحت السلطات التنفيذية والتشريعية المنتخبة.
يشير مصطلح الدولة العميقة إلى مجموعة أو شبكة من موظفين ومسؤولين حكوميين غير منتخبين منتشرين في كثير من المؤسسات الكبرى، من وزارتي الدفاع والخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية وغيرها، وتمارس هذه الشبكة نفوذا على السياسيين المنتخبين لتوجيه السياسات الخارجية والداخلية، وفق الأطر المؤسسة للولايات المتحدة، ووفق المصالح الاستراتيجية والنمطية السائدة للحكم.
في العلاقات الخارجية، اعتمدت الولايات المتحدة في امتداد هيمنتها على المسرح الدولي على استراتيجيات متوازية للإخضاع والسيطرة، من بينها استخدام القوة العسكرية أو التلويح باستخدامها، واستراتيجية المنح والدعم الاقتصادي كقوة ناعمة لبسط النفوذ. كما اعتمدت على سياسة التحالفات المتنوعة ركيزة في علاقتها الدولية، فالولايات المتحدة نادرا ما خاضت حروبا دون أحلاف، ولم تفرض عقوبات على دولة أخرى دون أن تنساق معها جموع من الدول في تشديد تلك العقوبات.
مكنت هذه السياسات الولايات المتحدة من الهيمنة المطلقة، ولم يخرج من نفوذها غير عدد محدود من دول معزولة، اعتبرت ناشزة ومنبوذة دوليا؛ ناهيك عن سيطرة الولايات المتحدة على جميع الممرات المائية ذات الأهمية الاستراتيجية، كما يمكن اعتبار البحرية الأمريكية لوحدها امبراطورية المحيطات.
يقود هذه القوة العملاقة اليوم دونالد ترامب الذي تعددت أوصافه، غير أنه لا يمكن وصفه "برجل دولة" على أية حال. يسخر كثير من السياسيين التقليديين والأكاديميين ووسائل الإعلام من سلوك الرجل الفج، في التعامل مع الجميع، وأفكاره المبعثرة والسطحية في معظم الأحيان، أثناء معالجته القضايا المحلية والدولية وقضايا المناخ والاقتصاد العالمي. وصفه بعض السياسيين، ومن بينهم مساعدون سابقون له، بالجهل العميق، لكن الرجل جريء، وشديد الاعتداد بنفسه، وواثق بأفكاره "العظيمة والرائعة التي لم يسبقه أحد في طرحها وتنفيذها". بالنسبة له، وإن بدت شديدة السطحية والسذاجة، فهو الذي اتهم منظمة الصحة العالمية بضعف الكفاءة، وبالتفريط في مكافحة وباء كورونا المستجد (كوفيد١٩) في معرض نصائحه حول إمكانية علاج المصابين بالمرض عن طريق حقن معقمات اليدين في رئتي المريض، و هو تساؤل لا بد أن راه هو نابعا من عبقرية خاصة، و إن اعتبره علماء الأوبئة و المؤسسات العلمية تصريحات غير مسؤولة منبعها الجهل.
على الرغم من ذلك، فإن دونالد ترامب ليس رجلا بلا رؤية وأجندة، فهو يعارض البيروقراطية الأمريكية، وهي المؤسسات الفاسدة التي يديرها موظفون دائمون غير منتخبين، كما يرفض كلا من نظام التعليم الرسمي وسياسة تعزيز التنوع في أمريكا والمتحولين جنسيا، كما يعارض أيضا الإجهاض والديمقراطية الأمريكية وغيرها من السياسات التي يعتبرها من إنتاج الليبراليين واليسار المتطرف.
لم تكن ولايته السابقة سلسة له، حيث اصطدم مع كثير من المؤسسات الأمريكية، وتعرض خلالها لمحاولتين من إجراءات العزل في مجلس النواب. كما واجه العديد من القضايا الجنائية بعد تركه المنصب، لكنه عاد هذه المرة، بقوة أكبر من أي وقت مضي، إذ سيطر الجمهوريون، ومن أنصاره الشخصيين، على مجلسي الشيوخ والنواب، وبمعاونة مساعدين له أكثر حماسا منه في تنفيذ سياساته الجريئة والمجنونة أحيانا، مثل الملياردير إيلون ماسك وآخرين من صقور اليمين المتطرف.
أطلق فور تسلمه السلطة سلسلة من أوامر تنفيذية، زعزعت الوضع العالمي والأمريكي، منها تعليقه عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي كانت تلعب دورا رائدا في المساعدات الإنسانية وبرامج التنمية في كثير من أنحاء العالم. كما انسحب من منظمة الصحة العالمية التي لعبت؛ ولا تزال؛ دورا محوريا في الرعاية الصحية في الدول النامية، وفي كبح جماح كثير من الأوبئة في العالم والقضاء على بعضها. وانسحب دونالد ترامب أيضا من اتفاقيات مهمة لعالمنا اليوم، مثل معاهدة المناخ.
كما أثار قلقا دوليا بسياساته العدائية غير القابلة للتنبؤ، وأسلوب الابتزاز للدول من خلال تهديده المستمر بفرض رسوم جمركية، ومطالبة أراضي من بعض الدول، كما استهدف البعض بتغيير المعالم الجغرافية لصالح الولايات المتحدة. اصطدم في الوهلة الأولى مع حليفة أمريكا الأقرب، كندا، ومع المكسيك، وبنما والدنمارك، كما فرض عقوبات قاسية على المحكمة الجنائية الدولية وطاقمها، تنديدا لتحقيقها في جرائم الحرب في غزة، وإصدارها مذكرة التوقيف في حق مسؤولين إسرائيليين منهم بنيامين نتنياهو.
في خطوة أكثر زلزالا، يطالب ترامب اليوم بغزة التي يراودها لنفسه كزعيم استعماري من القرون الوسطي، يطالب بها، بكل برودة الأعصاب، بعد إفراغها من أهلها، في تهجير أشبه ما يكون بتصفية عرقية، ليقيم على أنقاضها عقارات ومنتجعات تملكها الولايات المتحدة.
في تعاطيه مع استراتيجية الحلفاء الأمريكية، استأنف ترامب سياسة اللامبالاة تجاه الحلفاء، بما فيهم أعضاء حلف الشمال الأطلسي، كما عاود المطالبة بدفع التكاليف مقابل ما يراه "حماية" أمريكية لسيادة هذه الدول ومصالحها.
يعتبر الرئيس ترامب كل هذه السياسات بأنها تغيير وإصلاحات يقوم بها لإعادة هيكلة أمريكا، ليجعلها عظيمة من جديد أو لاستعادة عظمتها، وفق وصفه، فالرجل يرى نفسه إصلاحيا أو ثوريا من منظوره الشخصي، حيث يقوم بما لم يقم به أحد قبله، كأنه ينفذ بيريسترويكا غير واضحة المعالم في تفكيك المؤسسات الأمريكية والدولة العميقة، وترشيد السياسة الخارجية لتخدم المصالح الأمريكية في تصوره الموصوف بالسطحية.
لكن كما فعل ميخائيل غورباتشوف سابقا، فإن دونالد ترامب يعمل على تفكيك ذات الأسس التي قامت عليها عظمة أمريكا، فهو يستهدف حكم القانون، ونظام المؤسسات والديمقراطية داخل الولايات المتحدة. وفي العلاقات الدولية، يقضي على قوتها الناعمة المتمثلة في المساعدات وبرامج التنمية ونشر قيم الحرية والديمقراطية، ويحتقر القوانين والمنظمات الدولية التي بادرت الولايات المتحدة إلى تأسيسها لتخدمها، أو بالأحرى لتجسيد واستدامة انتصارها بعد الحرب العالمية الثانية. كما يشتت حلفاء أمريكا، ويثير القلق في دول كانت تعتمد في الأمس القريب على الولايات المتحدة في ضمان سيادتها كحليف وثيق، فباتت اليوم تخشى من ذات قوة الولايات المتحدة، وتشك من مطامعها في أراضيها ومصالحها الحيوية.
من خلال قراءة مجمل مآلات التوجهات الأمريكية بزعامة دونالد ترامب وفريقه اليميني، يبدو واضحا أن الرجل لا يعيد عظمة أمريكا التي صارت الأخطبوط المتمدد في كل أنحاء العالم، منذ أكثر من ثمانية عقود، بل يعيدها إلى أمريكا. كما فعل غورباتشوف الذي فكك الاتحاد السوفييتي، وأعاده إلى حدود روسيا القيصرية، دون أن يقصد ذلك في البيريسترويكا، فمتى نتوقع انحسار أمريكا؟ ولمن ستترك الفراغ الهائل الذي سوف تتركه وراءها؟ وهل سيبدأ انكماشها بحروب عالمية، كما حصل مع صعودها أم ستضمحل الإمبراطورية بهدوء مثل الاتحاد السوفييتي؟ أسئلة كانت ستبدو مبكرة مع زعامة غير ترامب لأمريكا.