تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 17 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

دولة غير مرئية

3 يوليو, 2025
الصورة
The invisible country
Share

لا يمكن النظر إلى زيارة رئيس صوماليلاند، عبد الرحمن محمد عبد الله "عرو"، إلى الدوحة بوصفها مجرد محطة دبلوماسية عابرة. فهي تُمثّل، في جوهرها، لحظة فارقة في مسار كيان سياسي ظلّ على مدى أكثر من ثلاثة عقود يُراكم حضوره في هامش النظام الدولي، دون أن يُفلح في كسر الحاجز المتمثل في غياب الاعتراف الرسمي. وما يلفت الانتباه في هذه الزيارة ليس فقط خصوصية التوقيت، بل طابعها المركّب الذي يعكس إدراكًا من صوماليلاند لأهمية تنويع شركائها، واختراق فضاءات سياسية بدت - حتى وقت قريب - مغلقة أمام تطلعاتها. فاختيار الدوحة، بما تمثله من ثقل دبلوماسي مرن، ومن سجل حافل في الوساطات، يُعبّر عن نضج نسبي في رؤية هرجيسا لما يعنيه الانخراط الذكي في معادلات الإقليم، بعيدًا عن الخطاب الاستعطافي، وبمنأى عن رهانات العزلة أو الصدام مع الثوابت الدولية.

إن صوماليلاند، التي تأسّست على أنقاض الانهيار الصومالي مطلع التسعينيات، لم تعد مجرّد تجربة محلية ذات طموحات استقلالية، بل غدت، بحكم التحولات الجيوسياسية، جزءًا من الحسابات الدولية في القرن الأفريقي. غير أن جذورها السياسية تعود إلى لحظة الاستقلال الأول عن الاستعمار البريطاني، في 26 يونيو/حزيران 1960، حيث اختارت، بفعل زخم الحماسة القومية في تلك الحقبة، الاندماج الطوعي مع الصومال الذي نال استقلاله من الاستعمار الإيطالي في الفاتح من يوليو/حزيران ذات العام، لتشكيل دولة موحدة، تُجسد حلم "الصومال الكبير" كإطار جامع لكل الصوماليين في القرن الأفريقي.

مثّل هذا المشروع القومي حينها أفقًا تحرريًا يعلو على الهويات المحلية، لكن سرعان ما انهار تحت وطأة تغوّل الدولة العسكرية المركزية، وتحوّلت الوحدة المنشودة إلى بنية قهرية، أنتجت انتهاكات واسعة، خصوصًا في الشمال (صوماليلاند حاليًا)، ما أدى إلى إعادة النظر في جدوى المشروع نفسه. لذا، فإعلان استعادة الاستقلال مطلع التسعينيات لم يكن عملية انفصالية بالمعنى التقليدي، بل كان ردًا سياسيًا على الاخفاق المدوي للمشروع الاندماجي.

لا يمكن فصل الموقع الجيوسياسي لصوماليلاند، المطل على خليج عدن قرب مضيق باب المندب، عن التحولات الجارية في النظام الدولي، فحضورها يتقاطع مع أولويات أمن الملاحة البحرية العالمية، في ظل تصاعد التوتر في البحر الأحمر، وتحوّل القرن الأفريقي إلى ساحة تنافس مكشوفة بين قوى إقليمية ودولية.

صوماليلاند ليست دولة، وفق معيار الاعتراف الدولي، لكنها أيضًا ليست مجرد كيان انفصالي ينتظر "تفضلا سياديًا"، فهي تمارس مهام "الدولة" كأمر واقع. ونجحت، إلى حدّ بعيد، في بناء مؤسسات سياسية وأمنية ناجحة رغم غيابها عن المنظومة الدولية

من هذا المنظور، فإن زيارة "عرو" إلى الدوحة تأتي في لحظة تعيد فيها الولايات المتحدة، ومعها قوى غربية أخرى، تقييم خياراتها الأمنية واللوجستية في الإقليم، وهذا ما تجلّى في زيارة قائد "أفريكوم" إلى ميناء بربرة في التاس عشر من الشهر الماضي، بوصفه بديلًا عمليًا، مقارنةً ببعض القواعد الأمريكية التقليدية مثل جيبوتي. لكن هذا الانفتاح التدريجي على صوماليلاند لا يعني، بطبيعة الحال، تخلّي تلك القوى عن التزاماتها المعلنة تجاه "وحدة الصومال"، وإن كان يشير إلى براغماتية متزايدة في التعامل مع الوقائع الماثلة على الأرض.

في المقابل، تبدو الدوحة، التي لطالما راكمت خبرات في العمل الدبلوماسي غير التقليدي، خيارًا مناسبًا لصوماليلاند، سواء بوصفها منصة محتملة لإعادة تفعيل مسار التفاوض مع مقديشو، أو باعتبارها نافذة تتيح لهذا الكيان مساحة للتفاعل مع النظام الإقليمي. فالمرونة التي تتميز بها السياسة الخارجية القطرية - بحكم تجربتها في ملفات دارفور وجيبوتي والصومال ذاته - تمنحها قدرة نسبية على فتح قنوات تواصل هادئة، وتجنّب الاصطفافات الحادة التي تعيق كثيرًا من المبادرات الأخرى.

ينبغي التأكيد هنا أن صوماليلاند لا تسعى -على الأقل في المرحلة الراهنة- إلى انتزاع اعتراف رسمي بأي ثمن، بل إلى تطبيع متدرّج مع واقعها السياسي، يسمح لها ببناء شراكات أمنية وتنموية، ويمنحها حقّ الحضور في صيغ التعاون الإقليمي والدولي، على نحو لا يصطدم مباشرة بموقف المجتمع الدولي، لكنه يخفف من وطأة الإقصاء. فصوماليلاند ليست دولة، وفق معيار الاعتراف الدولي، لكنها أيضًا ليست مجرد كيان انفصالي ينتظر "تفضلا سياديًا"، فهي تمارس مهام "الدولة" كأمر واقع. ونجحت، إلى حدّ بعيد، في بناء مؤسسات سياسية وأمنية ناجحة رغم غيابها عن المنظومة الدولية. غير أن الاعتراف، كما نعلم، ليس شأناً قانونيًا فحسب، بل يعكس خضوع مفهوم السيادة لمنظومة دولية تحكمها اعتبارات سياسية، وتُحدَّد في ضوء موازين القوى والمصالح الاستراتيجية.

على هذا الأساس، يمكن فهم تموضع صوماليلاند ككيان عالق في المنطقة الرمادية من النظام الدولي، فهي دولة وُلدت مرتين: الأولى من رحم الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، والثانية عند رفضها الانخراط في انهيار الدولة الصومالية في التسعينيات، وإعلانها الخروج من الوحدة من طرفٍ واحد. ومع ذلك، فإنها لا تزال مقصية من مشهد السيادة الدولية؛ فلا المجتمع الدولي يعترف بها، ولا النظام الإقليمي يمنحها مساحة تفاوض جاد. إنها، باختصار، دولة موجودة ولكنها غير مرئية، لا لخلل في بنيتها أو مشروعها، بل لأنها لم تُثر شهية القوى الكبرى، ولم تُمثّل تهديدًا أو ورقة تفاوض ضرورية في معادلات القوى الإقليمية والدولية. هذا وحده كفيل بتفسير عزلتها المتواصلة؛ فهي لا تطالب إلا باستعادة حدود ما قبل 1 يوليو/تموز 1960. ومع ذلك، تُجبر على التفاوض مع مقديشو كما لو أنها حركة انفصالية مستجدة. أما المجتمع الدولي، الذي لا يفتأ يكرر عبارات "السيادة" و"الوحدة"، فيدرك تمامًا أن هذه الوحدة لم تعد قائمة منذ أكثر من ثلاثة عقود، لكنه يواصل التعامل معها كفرضية معلّقة في انتظار معجزة لا يأتي بها الزمن، شأنها في ذلك شأن العديد من القضايا المؤجلة في النظام الدولي.

في قلب المفارقات المزمنة في المسألة الصومالية، تعود بين الفينة والأخرى سردية "الصومال الكبير" لتطفو على السطح، لا بوصفه مشروعًا سياسيًا قابلًا للتحقق، بل كحنين مؤدلج يتوسل التاريخ لتجاوز انسداد الحاضر. ذلك الحلم الذي يشمل الأوغادين الإثيوبية، والإقليم الشمالي الكيني، وجيبوتي، إلى جانب صوماليلاند. لكنه، كما وصفه بنديكت أندرسون في إطار نقده لفكرة القومية، ليس أكثر من مشروع متخيل، يُغذي الحنين، ويمنح شعورًا بالهوية، مع الافتقار إلى شروط الفعل السياسي والتسوية الواقعية. واستدعاء سردية "الصومال الكبير"، كما تخيلته الأحزاب القومية الصومالية في منتصف القرن العشرين، لا يختلف كثيرًا -في شاعريته واستحالته- عن حلم الوحدة العربية في تجربة جمال عبد الناصر: مشروع رنّان في الخطابة، نبيل في النوايا، مستحيل في الجغرافيا والسياسة.

يمكن فهم تموضع صوماليلاند ككيان عالق في المنطقة الرمادية من النظام الدولي، فهي دولة وُلدت مرتين: الأولى من رحم الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، والثانية عند رفضها الانخراط في انهيار الدولة الصومالية في التسعينيات، وإعلانها الخروج من الوحدة من طرفٍ واحد

فقد ولّى الزمن الذي يسمح بإعادة هندسة الخرائط بالقوة، ويُتفرض اليوم التعامل مع إفرازات دولة ما بعد الاستعمار بواقعية سياسية؛ فلا جيبوتي ستعود إلى مظلة صومالية، ولا "الأوغادين" سينفصل عن إثيوبيا، ولا الشمال الكيني سينقلب على نيروبي، وكذلك الحال مع صوماليلاند التي اختارت، منذ أكثر من ثلاثة عقود، طريقًا مختلفًا. بل الأدهى أن كثيرًا من الصوماليين حتى داخل حدود سلطة الفيدرالية الصومالية لا يعيشون تحت سلطة الدولة، ولا يتطلعون لفعل ذلك. فلماذا يُفترض أن صوماليلاند، ذات المسار المختلف كليًا، ستعود إلى حضن دولة بالكاد تقاتل من أجل الاحتفاظ بهيكلها الشكلي؟

وهنا تبرز المفارقة الأكبر: إن الدولة القائمة في الصومال باتت شكلًا خارجيًا بلا مضمون سيادي في الداخل، و"مقبرة" لمحاولات بناء الدولة المدفوعة خارجيًا، كما وصفها أليكس دي وال. هي دولة تُنتج حكومات هشّة كل أربع سنوات، تحت إشراف المجتمع الدولي، وحراسة قوات أجنبية، وبعثات متعددة الجنسيات. أما الداخل، فمقسّم إلى كاتونات عشائرية متنازعة، تختبئ خلف خطاب الفيدرالية. ومع ذلك، فإن هذه الدولة، بما تحمله من هشاشة وظيفية، تحظى بشرعية دولية مُنحت لها منذ عام 2013، بوصفها شريكًا أمنيًا في الحرب على الحركات الجهادية.

في المقابل، يُطلب من صوماليلاند، أن تنتظر وتتفهم وتتمرن على خيبة الأمل. فمقديشو لا تملك مشروعًا سياسيًا لاستعادة صوماليلاند، لكنها تحتفظ، وللمفارقة، بحق الاعتراض على إبرام صوماليلاند اتفاقيات خارجية. وفي الأثناء، تتواصل المفاوضات والمحادثات منذ عام 2012، في دورات مفرغة من لندن إلى إسطنبول، ومن أديس أبابا إلى جيبوتي ثم أبو ظبي، من دون اتفاق واحد قابل للتطبيق، ولا إطار تفاوضي يحترم الحد الأدنى من الواقعية. فكل جولة تفاوض تفترض، مسبقًا، أن الصراع مجرد خلاف إداري بين إقليم متمرّد ودولة مركزية، بينما الأمر في جوهره صراع تاريخي بين مشروعين سياسيين متباينين. سرديتان متقابلتان لا تعترف إحداهما بشرعية الأخرى؛ فمقديشو متمسكة بفكرة "استعادة الإقليم"، فيما تُصرّ هرجيسا على خطاب "الاستقلال المستعاد". بهذا التناقض الجوهري، يتحول التفاوض إلى ما يشبه ما وصفه يورغن هابرماس: تحاور بلا اعتراف متبادل، يفتقر إلى الشروط التداولية للحوار العقلاني. فهو ليس سعيًا إلى تسوية، بل ممارسة شكلية تُعيد إنتاج الإنكار المتبادل في هيئة تفاوض.

صوماليلاند، التي لا تملك ما تساوم به سوى استقرارها، متروكة في هوامش المشهد الدولي. ففي عالمٍ يكافئ من يهدد، ويخشى من يملك أدوات التخريب، تُدفع الكيانات التي لا تثير القلق إلى التهميش

لكن أكثر ما يثير الانتباه -وربما الحرج- هو سلوك النخبة الحاكمة في هرجيسا، وترهل خطابها، التي دأبت منذ ثلاثة عقود على تسويق سردية الاعتراف الموعود، كما لو أن المجتمع الدولي يحتاج فقط إلى أن يسمع قصة صوماليلاند مرة أخرى، ليُعيد النظر في شرعية مقديشو. هذه النخبة لا تُتقن فن خداع الذات فحسب، بل مارسته حتى أصبح نمطًا من الاستيهام السياسي. خطابتها الموجهة للداخل؛ تعبوية ومشحونة، لكنها في غالب الأحيان، تقف أمام الخارج بلا سردية ولا أدوات حقيقية. وتكتفي بالتقاط الصور الدبلوماسية قبل العودة إلى الديار، وإطلاق عبارات من نوع: "أبدى الشركاء اهتمامًا"، و"فتحنا قنوات مهمة"، وصار "الاعتراف قاب قوسين".

النتيجة أن صوماليلاند، التي لا تملك ما تساوم به سوى استقرارها، أضحت متروكة في هوامش المشهد الدولي. ففي عالمٍ يكافئ من يهدد، ويخشى من يملك أدوات التخريب، تُدفع الكيانات التي لا تثير القلق إلى التهميش. ومع ذلك، فإن الاستقرار ليس بلا معنى، بل هو فرصة لم تُستثمر بعد. فرغم أن صوماليلاند نجت من الفوضى دون مظلة دولية، إلا أنها لم تحوّل هذا النجاة إلى قيمة استراتيجية تفاوضية. والرهان الحقيقي لها اليوم ليس الاعتراف، بل التحوّل إلى ضرورة استراتيجية لا يمكن تجاوزها، خصوصًا في ملفات البحر الأحمر والموانئ وسلاسل الإمداد في القرن الأفريقي.

تزداد أهمية هذا الرهان حين يوضع في سياق قرنٍ أفريقيٍّ يسوده التشظّي. فالدول المحيطة -من إثيوبيا التي تتآكل أطرافها، إلى السودان الممزق، إلى إريتريا المعزولة- لا تُقدّم نموذجًا جذابًا. في مقابل هذه الصورة، لا تبدو صوماليلاند استثناءً فقط، بل تعبيرًا عن مسار بديل؛ بناء الدولة من دون رعاية دولية أو وصاية أجنبية.

على المستوى الدولي، لم يعد معيار المبادئ ما يُحرّك أدوات التدخل، بناءً على ثقل الملفات وموقعها من خرائط المصالح. والمنطقة بأسرها، بما في ذلك الصومال، لم تعد ملفًا راهنًا. وحدها خطوط الملاحة والطاقة ما تزال تحرّك الاهتمام الدولي، ومع ذلك، يُدار هذا الاهتمام بأدوات أمنية لا سياسية. هكذا، وجدت صوماليلاند نفسها أمام فرص مواتية، لكنها لا تملك خطابًا سياسيًا قادرًا على اقتناصها. فالأمل بات يُعلّق على زيارات ثنائية، ووفود عسكرية، ولقاءات تنظر فيها واشنطن إلى بربرة خيارا بديلا عن جيبوتي في التوازنات الإقليمية. وقد بدا لقاء قائد "أفريكوم" بمسؤولي صوماليلاند أكثر دلالة من لقاءات الرئيس "عرو" في عواصم الجوار، لأن هذه الأخيرة، وإن فتحت أبواب البروتوكول، لا تمنح اعترافًا، بينما الأولى، وإن لم تعترف، فإنها تتعامل مع الكيان كأمر واقع.

إن صوماليلاند لا تحتاج إلى مناشدات، بل إلى أن تُفرض نفسها كضرورة في جداول الأعمال الدولية، وأن تجعل تغييبها مكلفًا في حسابات الإقليم، باستخدام ما تملكه من أوراق حسب مقتضى الحاجة. فما لم تتحوّل هرجيسا إلى بند دائم على طاولات الفعل الإقليمي والدولي، ستظل دبلوماسيتها تدور في الفراغ، وتغادر العواصم بلا أوراق ثبوتية تُترجم حضورها السياسي إلى اعتراف فعلي.