تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

عدّاؤو كينيا: من مضمار الذهب إلى دبلوماسية تحسين صورة الدولة

5 أكتوبر, 2025
الصورة
عدّاؤو كينيا: من مضمار الذهب إلى دبلوماسية تحسين صورة الدولة
Share

منذ عقود، رسّخت كينيا مكانتها أرضا للعدّائين، حيث تحوّل مضمار ألعاب القوى إلى ساحةٍ لصياغة الرموز الوطنية. ولم يعد الركض الكيني مجرد إنجاز رياضي، بل رصيدًا من القوة الناعمة، يوظَّف في الداخل لتعزيز الوحدة الوطنية، وفي الخارج لتحسين صورة الدولة على الساحة الدولية. فبين الميداليات الذهبية التي تحصدها في البطولات الكبرى، والمبادرات الأممية التي تستثمر رمزية عدّائيها، تتجلى تجربة كينيا بوصفها نموذجًا لانتقال الرياضة من حدود المنافسة إلى فضاء الدبلوماسية، حيث تتقاطع السياسة والاقتصاد والهوية في معركة أوسع لبناء النفوذ والتأثير.

كينيا وتوظيف العدّائين في بناء القوة الناعمة

حصدت كينيا في بطولة العالم لألعاب القوى التي استضافتها طوكيو، واختُتمت في 21 أيلول/سبتمبر 2025، إحدى عشرة ميدالية، من بينها سبع ذهبيات وفضيتان وبرونزيتان، لتحتل المركز الثاني بعد الولايات المتحدة. وقد بلغت مكافآت العدّائين نحو 604 آلاف دولار (ما يعادل 78 مليون شلن كيني)، وهو ما يسلّط الضوء على حجم العوائد المباشرة للرياضة في اقتصاد البلاد.

تُعد كينيا إحدى القوى الرياضية البارزة عالميًا في سباقات المسافات الطويلة والمتوسطة، إذ حصد رياضيوها ما مجموعه 124 ميدالية أولمبية، من بينها 39 ذهبية حتى أولمبياد باريس 2024، وهو رصيد يفوق ما حققته أي دولة أفريقية أخرى. ولا يختزل هذا التفوق في كونه مجرد إنجاز رياضي، بل يمثل تراكمًا تاريخيًا عزّز من صورة كينيا باعتبارها موطنا للجري، ورسّخ حضورها الرمزي على الساحة الدولية.

"إذا فزتُ بسباق، سيذهب هؤلاء الأطفال إلى المدرسة العام المقبل. وإن لم أفز، فلن يذهبوا هم أيضًا"

يرجع هذا التميز، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة كامبريدج، إلى تفاعل جملة من العوامل؛ من بينها الطبيعة الجغرافية للمرتفعات الكينية التي توفر بيئة تدريب طبيعية، والبنية الجسدية المميزة للرياضيين، إضافة إلى نمط الحركة المبكر في الحياة اليومية والعوامل الوراثية. غير أنّ اختزال هذه الظاهرة في تفسيرات بيولوجية أو جغرافية فقط، يغفل البعد الأعمق المتمثل في كيفية توظيف هذه النجاحات ضمن مشروع وطني أشمل، سواء لبناء الهوية الجماعية أو لتعزيز المكانة الدولية عبر ما بات يُعرف بـالدبلوماسية الرياضية.

تبرز الأهمية الحقيقية لهذه الإنجازات في ما تكشفه من رصيدٍ متزايد من القوة الناعمة، إذ باتت نيروبي أكثر وعيًا بقدرتها على توظيفه في سياستها الخارجية. فلم تعد انتصارات العدّائين الكينيين تُقرأ بوصفها نجاحات فردية فحسب، بل تحوّلت إلى رافعة دبلوماسية تعكس صورة دولة قادرة على المزاوجة بين الإنجاز الرياضي والمساهمة في القضايا العالمية. ويؤكد ذلك ما خلصت إليه أطروحة دكتوراه بجامعة نيروبي من أنّ الرياضة مثّلت ركيزة أساسية في بناء الوحدة الوطنية وصياغة الهوية الجماعية، فضلًا عن دورها في إبراز كينيا لاعبا محوريا في شرق أفريقيا.

يتجلي هذا البعد الدبلوماسي في مبادرات دولية متعددة، إذ قررت منظمة اليونسكو في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 تعيين العداء الكيني إيليود كيبشوجي سفيرًا للنزاهة والقيم لمدة عامين، في خطوة تعكس إدراك المجتمع الدولي لرمزية شخصيات رياضية باتت تمثل قيمًا أخلاقية بقدر ما تجسد إنجازات رياضية.

قبل ذلك، أعلنت الأمم المتحدة عام 2005 اختيار العداء الكيني بول تيرغات، الذي عُرف آنذاك كأسرع رجل في العالم لمسافة الماراثون، سفيرًا لبرنامج الأغذية العالمي لمكافحة الجوع. وقد سخّر تيرغات مكانته لرفع مستوى الوعي بالبرنامج في فترة حرجة اتسمت بضعف التمويل في كينيا وتشاد وغامبيا. تجاوز هذا الدور حدود الرياضة، إذ برز رياضيون كينيون سفراء ثقافيين يربطون بين الساحات الرياضية والدوائر السياسية والاقتصادية.

بين الرمزية العالمية وغياب الاستراتيجية

وظّفت نيروبي عام 2019 قوتها الناعمة في الرياضة عبر إدماج رموزها الأولمبية في حملتها الدبلوماسية للحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن. وقد برز العداء الأسطوري إيليود كيبتشوجي كواجهة لهذه الاستراتيجية، حين قُدِّم ضمن الوفد الرسمي في نيويورك في مشهد جسّد انتقال إنجازات الرياضيين من مضمار المنافسة إلى السياسة. ويعكس هذا التوجه إدراكًا متزايدًا لدى النخبة الكينية لقيمة الرياضة كأداة للسياسة الخارجية، ليس فقط بوصفها رمزًا للمكانة الوطنية، بل كوسيلة لترسيخ صورة كينيا كفاعل دولي يتجاوز حدوده الجغرافية.

لا يجب إغفال البعد الأعمق المتمثل في كيفية توظيف هذه النجاحات ضمن مشروع وطني أشمل، سواء لبناء الهوية الجماعية أو لتعزيز المكانة الدولية عبر ما بات يُعرف بـالدبلوماسية الرياضية

تتجلى صورة الدبلوماسية الرياضية حين أشاد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالعدّاء الكيني إليود كيبتشوج، الذي نجح في كسر حاجز الساعتين في سباق الماراثون، وبالعدّاءة بريجيد كوسغي، بوصفهما مثالًا ملهمًا لقدرة الإنسان على الصمود. غير أنّ هذه الرمزية العالمية، على أهميتها، لم تُترجم بعد إلى استراتيجية دبلوماسية متكاملة. إذ يشير ماتشاريا مونيني، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الدولية للولايات المتحدة الأميركية في كينيا، إلى أنّ البلاد ما تزال تكتفي بتلقّي رسائل المباركة والإشادة، في حين كان بإمكانها استثمار إنجازات العدّائين كأداة فاعلة لتحسين صورتها الدولية، وتعزيز مكانتها الدبلوماسية.

ينفي وكيل وزارة الخارجية الكيني، ماتشاريا كاما، أن تكون بلاده قد قصّرت في استخدام عدائيها كدبلوماسين لتحسين صورة البلاد، واصفًا مثل هذه المزاعم بأنها "غير صحيحة ولا تليق بإنجازاتهم العظيمة". ويرى كاما أنّ الرياضيين الكينيين لا يحتاجون إلى تعيينهم رسميًا سفراء للرياضة، لأنهم بالفعل رموز كبرى على الصعيد الدولي، وقد أثبتوا أنفسهم سفراء بحق.

لكنّ المسؤول ذاته يقرّ في الوقت نفسه بوجود فجوة تستدعي المعالجة، مؤكدًا أنّ هناك الكثير مما يمكن فعله لتعزيز هذا الدور، قائلاً: "أرى أنه من الجيد أن نجد طرقًا للعمل مع الكينيين العظماء الذين حققوا إنجازات أثرت العالم، وأثبتوا جدارتهم". هذه الإشارة تكشف عن إدراك رسمي محدود، لكنه متزايد بضرورة الانتقال من مجرد الاحتفاء بالإنجازات الفردية إلى تسخيرها ضمن سياسة خارجية منهجية، بحيث تتحول الرياضة من رأس مال رمزي معزول إلى أداة فاعلة في الدبلوماسية الدولية.

الركض في كينيا: رافعة للتنمية المحلية

يتجاوز الركض في كينيا بعده الرياضي الضيق، ليصبح جزءًا من البنية الاجتماعية والاقتصادية، لا سيما في مدينة إلدوريت الواقعة في وادي الصدع. فالرياضة هناك لا تُعد مجرد هواية أو مصدرًا للسمعة الدولية، بل تشكّل ركيزة أساسية للمعيشة اليومية. إذ يوفّر الفوز في البطولات العالمية مداخيل تمكّن العائلات من تسديد رسوم المدارس، وتمنح المزارعين القدرة على دعم إنتاجهم في بلد عانى مرارًا من موجات عنف عرقي وتهميش اقتصادي.

برز العداء الأسطوري إيليود كيبتشوجي كواجهة لهذه الاستراتيجية، حين قُدِّم ضمن الوفد الرسمي في نيويورك في مشهد جسّد انتقال إنجازات الرياضيين من مضمار المنافسة إلى السياسة

في إلدوريت ومحيطها، تحوّلت عائدات العدّائين إلى مشاريع تنموية ملموسة، من مبانٍ ومستشفيات وعيادات، إلى مجمعات سكنية ومراكز تسوّق ومحطات وقود. وتشير التقديرات إلى أن نحو 500 مليون شلن كيني (حوالي 7.57 مليون دولار) تتدفّق سنويًا إلى الاقتصاد الكيني من جوائز البطولات الخارجية. ويختزل أحد العدّائين هذه العلاقة بين الرياضة والتنمية الاجتماعية بقوله: "إذا فزتُ بسباق، سيذهب هؤلاء الأطفال إلى المدرسة العام المقبل. وإن لم أفز، فلن يذهبوا هم أيضًا"، في إشارة واضحة إلى الدور المباشر للرياضة في إعادة إنتاج دورة الحياة اليومية وتحفيز التنمية المحلية.

تؤكد التجربة الكينية أنّ الرياضة، لم تعد مجرّد ساحة للتنافس أو منصة لإحراز الميداليات، بل تحوّلت إلى أداة فاعلة في صياغة الهوية، وتعزيز الاقتصاد المحلي، وفتح آفاق جديدة للدبلوماسية. غير أنّ هذا الرصيد الرمزي، على أهميته، يظل مهدّدًا بالهدر ما لم يُدمج في استراتيجية وطنية متكاملة، تستثمر إنجازات العدّائين ليس فقط في تحسين صورة الدولة، بل أيضًا في خدمة أهدافها التنموية والدبلوماسية. فبين مضمار الذهب وساحات السياسة العالمية، تقف كينيا أمام لحظة اختبار حقيقية: إمّا أن تظل إنجازاتها محصورة في إطار الرمزية العابرة، أو أن ترتقي بها إلى مستوى دبلوماسي مستدام، يعزّز مكانتها في عالم يتنافس على القوة الناعمة بقدر ما يتنافس على القوة الصلبة.