الأحد 9 فبراير 2025
لقد شهد العالم، في العقود الأخيرة، تحولاً ملحوظاً في العلاقات الدولية، حيث أصبحت القارة الأفريقية ساحة للمنافسة بين القوى الكبرى. وبينما سعت الدول الغربية إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا عبر سياسات المساعدات والتنمية، اتبعت الصين نهجًا مختلفًا يقوم على تقديم بدائل تنموية وتجارية تُظهرها حليفا يعتمد عليه. يُعد هذا التوجه جزءًا من استراتيجية أوسع لتعزيز "القوة الناعمة" الصينية، التي تُعرّف بأنها القدرة على التأثير من خلال الجذب الثقافي والاقتصادي بدلاً من الإكراه العسكري أو الاقتصادي.
تعد الصين، منذ عام 2017، "منافسًا استراتيجيًا طويل الأمد" للولايات المتحدة، وقد بدأ هذا التنافس يبرز في عدة محافل دولية، مثل إعلان حلف شمال الأطلسي في ديسمبر/ كانون الأول 2019 حول تحديات نفوذ الصين. في هذا السياق، يُعد منتدى التعاون الصيني الأفريقي(FOCAC) الذي تأسس في عام 2000 واحدًا من الأدوات الرئيسة التي استخدمتها الصين لتعزيز حضورها في أفريقيا، حيث تم إنشاء أو تحديث أكثر من 10,000 كيلومتر من السكك الحديدية، وإنشاء ما ينيف عن 100,000 كيلومتر من الطرق، و100 ميناء في القارة.
لقد تحولت القارة الأفريقية، على هذا النحو، إلى مختبر تُجرَّب فيه الاستراتيجيات الصينية المختلفة، حيث أصبحت الصين المستثمر الأكبر في البنية التحتية الأفريقية، والشريك التجاري الأساسي للعديد من دول القارة. ومع ذلك، فإن هذا التوسع لم يكن مجرد مبادرة اقتصادية فحسب، بل كان مدعومًا أيضًا بمشاريع ثقافية وإعلامية تهدف إلى تعزيز صورة الصين على المستوى الشعبي.
تقدم أنجيلا لويس، في هذا السياق، في كتابها الجديد "التلفزيون الصيني والقوة الناعمة في أفريقيا" الصادر عن روتليدج عام 2024، دراسةً مهمة تتناول فيها تأثير الصين في أفريقيا من خلال عدسة الإعلام التلفزيوني. يتناول الكتاب النمو الكبير الذي شهدته شركة "ستار تايمز" في السنوات الأخيرة، وهي شركة صينية تقدم خدمات التلفزيون المدفوع، ولديها حوالي ثلاثين مليون مشترك، وتوفر خدمات التلفزيون عبر الأقمار الصناعية لعشرين دولة أفريقية؛ تشمل أسواقها مجموعات ديموغرافية تُعتبر غير اقتصادية من قبل مقدمي خدمات التلفزيون الغربيين، تجمع بين الترفيه مثل: الدراما الصينية ومحتوى الكونغ فو المدبلج إلى اللغات الأفريقية، بالإضافة إلى البرامج الحكومية الصينية، الشيء الذي يجعلها أداة دبلوماسية عامة جزئياً على الأقل. في الوقت نفسه، تقدم شبكة "ستار تايمز" قنوات جديدة باللغات المحلية، وتوسع الوصول إلى التلفزيون في المناطق الريفية، وتدعم العلامات التجارية لكرة القدم الأفريقية.
يناقش الكتاب جميع جوانب "ستار تايمز": كيف تتماشى مع برامج المساعدة التنموية الصينية؛ من حيث هيكلها بوصفها شركة خاصة رغم تمويلها من قبل البنوك الصينية؛ وكيف ينظر إليها المهنيون الإعلاميون في غانا وكينيا وزامبيا استنادًا إلى أبحاث مقابلات موسعة. يظهر الكتاب، بشكل عام، كيف أن هذه التوسعات الكبيرة للإعلام الصيني الدولي تسهم بشكل كبير في التنمية في أفريقيا بطريقة مثيرة للمخاوف المحلية، وفي الوقت نفسه ترسخ الصورة العالمية للصين في أفريقيا.
يعتمد الكتاب على معطيات غنية مستخلصة من منشورات إعلامية حول "ستار تايمز" بين عامي 2015 و2020، بالإضافة إلى مقابلات ميدانية أجرتها المؤلفة في غانا وكينيا وزامبيا. تقدم لويس، من خلال هذه المصادر، تحليلًا معمقًا بخصوص: كيف يمكن للشركات الخاصة أن تعمل بوصفها أدوات دبلوماسية تُجسد الأهداف الصينية في أفريقيا، مع إبراز التفاعل بين المصالح الصينية والأهداف المحلية الأفريقية.
يتكون الكتاب من ستة فصول، تشمل مقدمة وخاتمة. تبدأ لويس بمناقشة الإطار النظري الذي تصف من خلاله شركة "ستار تايمز" بمثابة جهة "هجينة": شركة خاصة تهدف إلى تحقيق الربح، لكنها ترتبط بالحكومة الصينية من خلال شراكات بين القطاعين العام والخاص. تستعرض الكاتبة كيف ساهمت برامج الشركة، وإتاحتها للتلفزيون وفرص العمل، في تشكيل التصورات الأفريقية عن الصين، بما في ذلك الآراء حول المساعدات الصينية لأفريقيا، التي تظهر الصين كبديل جذاب للغرب.
تخصص الكاتبة مساحة لمناقشة منهجية الكتاب وأسباب اختيارها لفترة الدراسة بين 2015 و2020، حيث شهدت هذه المرحلة تحول "ستار تايمز" إلى متعاقد رئيسي مع الحكومة الصينية. توضح أيضًا أنها اعتمدت على مقابلات لفهم مدى تقبل المجتمعات الريفية الأفريقية لمبادرات الشركة.
في سياق أوسع، تسلط لويس الضوء على مفهوم العلامة التجارية وكيف لا يمكن اختزال الدبلوماسية العامة في كونها مجرد أداة دعائية، إذ إن الجمهور غالبًا ما يكون أقل تقبلًا لوسائل الإعلام الحكومية المباشرة. كما تشير الكاتبة إلى أن دراسة حالة "ستار تايمز" تُظهر توافقًا واضحًا بين الشركة والصين، مما يعكس تقاربًا في بناء صورة إيجابية للدولة والشركة معًا.
تتناول لويس المشروع الطموح "الوصول إلى التلفزيون الفضائي في 10,000 قرية"، الذي وفر بنى تحتية فضائية وطاقة شمسية للقرى الأفريقية التي كانت تفتقر إليها. من خلال مقابلات مع سكان القرى، مثل قرية ساينا في كينيا، يتضح أن المبادرة قوبلت بإشادة كبيرة. نعم، لقد أشاد السكان بجودة المحتوى والأسعار المناسبة التي وفرتها الشركة، رغم أن التغطية الإعلامية - كما تشير لويس - كانت إيجابية، لكنها تأثرت بعناصر دعائية.
تعرض الكاتبة كذلك تحليلًا للطريقة التي قدمت بها الصحافة الأفريقية والدولية شركة "ستار تايمز". لقد ركزت العديد من المقالات على الدور الإيجابي للشركة في دعم صُنّاع الأفلام الأفارقة، مقابل التقليل من إبراز ارتباطها بالحكومة الصينية، مما خلق صورة إيجابية للشركة، لكن دون تسليط الضوء الكافي على علاقاتها بالصين.
تتطرق الكاتبة إلى عنصر آخر من استراتيجية "ستار تايمز"، وهو الدبلوماسية الرياضية، حيث تصف كيف أثرت رعاية الشركة للفرق الرياضية المحلية على تحسين صورتها في أوساط المشاهدين والصحفيين الرياضيين، رغم بعض الفضائح المرتبطة بالتمويل. تؤكد لويس أن هذه الرعاية تملك إمكانات لتحقيق فوائد طويلة الأمد، سواء من حيث حقوق البث أو الملكية الفكرية. وتشير إلى أن مصداقية الدبلوماسية العامة تتطلب مشاركة فعلية في اتخاذ القرارات، مع ضرورة منح مساحة أكبر للوكالة الأفريقية.
في خاتمة الكتاب، تقدم لويس استنتاجًا مفاده أن "ستار تايمز" تمثل رمزًا ناجحًا لانخراط الصين في أفريقيا، حيث تستفيد كل من الصين والدول الأفريقية من خدمات الشركة. ومع ذلك، تشير الكاتبة إلى أن السلطة النهائية تبقى بيد بكين، مما يعزز فكرة أن الشركات مثل "ستار تايمز" هي أدوات للقوة الناعمة الصينية.
كما تُظهر الكاتبة كيف نجحت الصين في الابتعاد عن الأنماط التقليدية للدعاية الحكومية المباشرة، من خلال دمج الشركات الخاصة في استراتيجية "الخروج إلى الخارج" التي تشجع الشركات الصينية على الانخراط في الأسواق العالمية. كما أن تحليلها يعكس تقبلًا إيجابيًا لوسائل الإعلام الصينية في أفريقيا، رغم التحديات المحتملة التي قد تواجهها في المستقبل مع توسع مشاريعها وزيادة قاعدة مشتركيها.
ورغم نجاح الكتاب في تقديم تحليل عميق لتأثير "ستار تايمز"، تشير لويس إلى بعض القيود في دراستها، بما في ذلك تركيزها على شركة واحدة فقط وإجراء مقابلات في قرية واحدة. تقترح الكاتبة أن إجراء دراسات أوسع تشمل شركات ومشاريع أخرى قد يوفر صورة أكثر شمولية للعلاقات الثقافية والسياسية بين الصين وأفريقيا. كما أن الكتاب لا يتناول بشكل كافٍ المعارضة الأفريقية للتأثيرات الأجنبية، مثل الانتقادات النيجيرية للأفلام الصينية التي يقال إنها بدأت تحل محل الثقافة المحلية.
لقد شهدت الدراسات المتعلقة بالعلاقات الصينية-الأفريقية نموًا كبيرًا في العقدين الماضيين، مما ساعد على تشكيل حقل دراسي جديد يعكس التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية بين المنطقتين. إحدى المبادرات البارزة التي تكشف عن الدور المتزايد للصين في أفريقيا هو مشروع "التلفزيون الفضائي"، الذي يبرز كيفية تقديم الصين خدمات حيوية للمناطق الريفية المحرومة. وعلى الرغم من الانتقادات التي تتهم الصين باستخدام مشاريعها كوسيلة للهيمنة الاقتصادية والثقافية، يبقى هذا المشروع شاهدًا عمليًا على تعاون جديد بين الصين وأفريقيا.
تسلط أنجيلا لويس في اطروحتها الضوء على مشروع "ستار تايمز"، الذي نجح في تقديم خدمات التلفزيون الرقمي في أكثر من 9600 قرية في 23 دولة أفريقية. وقد أصبح هذا المشروع بمثابة أداة للدبلوماسية العامة الصينية، حيث تم توفير هوائيات فضائية وبنية تحتية مجانية لفترة معينة في إطار صندوق المساعدة الجنوب-جنوب. رغم النجاح المبدئي، يواجه المشروع تحديات في بيئات اجتماعية وسياسية معقدة، حيث توقف العديد من السكان عن استخدام الخدمة بعد انتهاء الفترة المجانية بسبب ارتفاع رسوم الاشتراك.
رغم ذلك كله، تُظهر التقارير أن العديد من المشاريع في أفريقيا تمولها الصين، لكن غالبًا ما تعاني من سوء التخطيط والتنفيذ، مثل محطة كهرمائية في أوغندا تحتوي على أكثر من 500 عيب. كما يُتهم الصين بفرض سيطرتها على المشاريع في حال فشل الدول في سداد ديونها، مما يزيد من الاعتماد على الاستثمارات الصينية دون تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة. هذا الوضع يأتي في الوقت الذي تواصل فيه الصين توسيع نفوذها في أفريقيا، بينما لا تزال الولايات المتحدة تكافح لتعزيز وجودها في القارة، رغم إطلاق "مبادرة أفريقيا المزدهرة" في 2019 لمواجهة هذا التوسع. مع تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة مرة ثانية، تباينت التقديرات حول توجهاته تجاه القارة. أولاً، قد تستمر سياساته الانعزالية في إطار "أمريكا أولاً"، مما يفتح المجال للصين لتعزيز نفوذها في أفريقيا، كما حدث في ولايته الأولى. في المقابل، يرى البعض أن ترامب قد يعيد النظر في استراتيجيته تجاه أفريقيا نتيجة لتزايد النفوذ الصيني، مما يجعله يتبنى سياسة أكثر انخراطًا لمواجهة هذا التوسع.
من جهة أخرى، تشير بعض التحليلات إلى أن ترامب قد يركز على المصالح الاقتصادية في أفريقيا، خاصة في ظل احتياج الدول الكبرى للموارد الطبيعية والمعادن الاستراتيجية التي تتمتع بها القارة. وفي هذا السياق، قد تعزز واشنطن وجودها في المناطق الغنية بهذه المعادن، مع التركيز على بعض الدول الأفريقية.
على الرغم من هذه التوجهات المحتملة، تجدر الإشارة إلى تحركات الصين الاستباقية في القارة، حيث توسيع التعاون العسكري، وتقديم تكنولوجيا المدن الذكية، والتوسع في الاستثمار في البنية التحتية عبر مبادرة "الحزام والطريق" يتزايد. هذا التوسع يعزز من الهيمنة الصينية في القارة ويثير قلق واشنطن.
في سياق تحركات واشنطن في القارة، يتوقع أن تقلل إدارة ترامب من تمويلها الخارجي، بما في ذلك في مشاريع الصحة والتنمية في أفريقيا، رغم استمرار التركيز على مكافحة الإرهاب، حيث سيظل دعمها العسكري لعدد من دول أفريقيا، مثل غانا ونيجيريا، في إطار مكافحة الجماعات الإرهابية.