تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
كتب

دبلوماسية القرن الأفريقي والخليج: لعبة النفوذ والاقتصاد

29 سبتمبر, 2025
الصورة
دبلوماسية القرن الأفريقي والخليج: لعبة النفوذ والاقتصاد
Share

في زمن تتسارع فيه التحولات العالمية وتتشابك فيه المصالح بين القوى الكبرى والإقليمية، يظل القرن الأفريقي ساحة تختزل الكثير من الصراعات والفرص معًا. تحولت هذه البقعة الجغرافية، التي تجمع بين موقع استراتيجي على أهم الممرات البحرية، وثروات داخلية غير مستغلة إلى مسرح تتقاطع فيه السياسة بالاقتصاد، والدبلوماسية بالأمن. ما يميز هذا الإقليم أنه لا يخضع لقواعد اللعبة التقليدية، بل يفرض معادلات جديدة تتجاوز التصورات الكلاسيكية عن الدولة والسيادة. وهنا يأتي كتاب The Horn Engaging the Gulf ليضيء هذه التوازنات المعقدة، كاشفًا كيف تتقاطع خيوط الداخل والخارج في رسم لوحة جيوسياسية تحمل في طياتها ملامح المستقبل الإقليمي والدولي؟

التحولات الجيوسياسية وتأثيرها على دبلوماسية القرن الأفريقي

يشهد القرن الأفريقي تحولات جيوسياسية متسارعة مرتبطة بالتغيرات التي تمر بها المنطقة الأوسع، خصوصًا مع تراجع الهيمنة الأمريكية التقليدية وصعود قوى دولية جديدة مثل الصين وروسيا. هذا الانحسار أتاح لدول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية وقطر، مساحة أكبر لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في الإقليم. وقد انعكس ذلك في استثمارات استراتيجية في الموانئ والبنى التحتية، إلى جانب الدعم السياسي والعسكري لبعض الأطراف. هذه الدينامية الجديدة أعادت تشكيل خريطة النفوذ التقليدية في المنطقة، وفتحت الباب أمام توازنات أكثر تعقيدًا تزيد من هشاشة الاستقرار الإقليمي.

لا يقتصر المشهد على القوى الخارجية فحسب، بل إن دول القرن الأفريقي نفسها ــ مثل إثيوبيا والصومال وإريتريا أصبحت فاعلاً أساسيًا يمتلك استراتيجيات دبلوماسية خاصة. هذه الدول لا تُختزل في صورة الضحايا أمام التدخلات الأجنبية، بل تتعامل بمرونة مع القوى الخليجية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. على سبيل المثال، تستفيد إثيوبيا من المنافسة الخليجية لتعزيز موقعها الإقليمي، بينما تستخدم إريتريا موقعها الاستراتيجي ورقة تفاوض مع مختلف الأطراف. يعكس هذا التفاعل ديناميكية قوة تتجاوز النظريات الواقعية التقليدية، فهي غالبًا ما تركز على صراع القوى الكبرى دون إبراز أدوار اللاعبين المحليين.

هذه الدينامية الجديدة أعادت تشكيل خريطة النفوذ التقليدية في المنطقة، وفتحت الباب أمام توازنات أكثر تعقيدًا تزيد من هشاشة الاستقرار الإقليمي

في السياق العملي، يتجلى هذا التشابك في الحروب والنزاعات المحلية، وأبرزها الحرب في إقليم تيغراي، حيث لعبت التدخلات الخليجية والتركية دورًا مباشرًا وغير مباشر في تمويل وتسليح بعض الأطراف. الدعم بالأسلحة والتقنيات لم يكن مجرد أداة عسكرية، بل ارتبط أيضًا بمصالح اقتصادية واستراتيجية أوسع، مثل السيطرة على طرق التجارة البحرية أو الموانئ الحيوية. هذا التداخل بين البعد الاقتصادي والعسكري يعكس عمق التعقيد في القرن الأفريقي، حيث تتشابك المصالح الخارجية مع الحسابات الداخلية للدول، لتشكل شبكة من العلاقات يصعب فصلها أو فهمها بمعزل عن السياق الجيوسياسي الأوسع.

العامل الاقتصادي كأداة للدولة وخطة النفوذ في القرن الأفريقي

أصبح العامل الاقتصادي أداة مركزية في رسم معادلات النفوذ داخل القرن الأفريقي، حيث تحولت استثمارات دول الخليج إلى وسيلة لتعزيز الحضور السياسي إلى جانب المكاسب المالية. يبرز الكتاب مثال تطوير ميناء "أبو أما" في السودان ليعكس هذا التوجه، إذ لم يعد الاستثمار مجرد مشروع تجاري، بل أصبح وسيلة لضمان السيطرة على ممرات حيوية للبحر الأحمر وخطوط التجارة الدولية. هذه المشروعات تفتح مجالًا أمام الخليج لتأمين مصالحه الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه تضع دول القرن الأفريقي في شبكة معقدة من الاعتماد الاقتصادي والسياسي.

تركز الإمارات بشكل أكبر على مشروعات الموانئ والتنمية الزراعية والأمن، وهو ما يمنحها أدوات مباشرة للتأثير على السياسات الداخلية في بعض الدول

تتباين استراتيجيات دول الخليج في تعاملها مع القرن الأفريقي، ما يعكس اختلاف أولوياتها وأدوات نفوذها. فالسعودية تميل إلى الاستثمار في قطاعات التعليم والتمويل كجزء من دبلوماسية ناعمة تسعى إلى بناء علاقات طويلة الأمد. على النقيض، تركز الإمارات بشكل أكبر على مشروعات الموانئ والتنمية الزراعية والأمن، وهو ما يمنحها أدوات مباشرة للتأثير على السياسات الداخلية في بعض الدول. هذا التنوع في المقاربات يوضح أن المنافسة الاقتصادية بين دول الخليج تتداخل مع أهداف سياسية وأمنية، بما يعمّق التوازنات المعقدة في الإقليم.

ورغم الجذور التاريخية التي تربط الخليج بالقرن الأفريقي من خلال الروابط الثقافية والدينية والتجارية، فإن الدور الاقتصادي الحالي يضيف بعدًا تنافسيًا قد يهدد استقرار المنطقة. إذ إن تكثيف الاستثمارات لا يقتصر على تعزيز التنمية أو التعاون، بل يكشف أيضًا عن سباق محموم بين القوى الخليجية للسيطرة على مراكز النفوذ الحيوية. هذا التنافس يضعف من قدرة دول القرن الأفريقي على الحفاظ على سيادتها الاقتصادية والسياسية، ويجعلها أكثر عرضة للتأثر بتقلبات التوازنات الإقليمية. ومن هنا يبرز التساؤل حول ما إذا كانت هذه الاستثمارات تشكل فرصة للتنمية أم عبئًا على الاستقرار طويل المدى.

الفاعلون المحليون ودورهم في رسم العلاقات الدولية

يكسر الكتاب الصورة النمطية التي تنظر إلى الدول الصغيرة والضعيفة في القرن الأفريقي كضحايا لتدخلات القوى الخارجية، وخصوصًا الخليجية منها. فهو يبرز الدور الفاعل لمجموعة من الأطراف المحلية، بدءًا من الجماعات المسلحة والقبائل وصولًا إلى الأحزاب السياسية، في إعادة صياغة مسار العلاقات الخارجية. هذه القوى ليست مجرد أدوات بيد الأطراف الخارجية، بل تدخل في عمليات تفاوض ومساومة تُعيد توزيع موازين النفوذ. وبذلك يظهر أن الديناميات الداخلية قادرة على تحدي الهيمنة التقليدية، وإنتاج مسارات مستقلة أو بديلة.

من الأمثلة البارزة على ذلك الدور، ما يقوم به الفاعلون غير الحكوميين في الصومال أو السودان، حيث يتحكمون في جزء من إدارة النزاعات وفي آليات تلقي الدعم الخارجي. بعض هذه الجماعات تلقت دعمًا مباشرًا من دول خليجية، سواء عبر التمويل أو التسليح أو عبر قنوات سياسية غير رسمية. هذا الدعم لا يغيّر فقط ميزان القوى داخل هذه الدول، بل يفرض تحديًا على مفهوم السيادة التقليدية التي تحتكرها الدولة. بذلك يصبح التدخل الخارجي مشروطًا بقدرة الفاعلين المحليين على استخدامه أو توجيهه بما يخدم مصالحهم الداخلية.

هذه القوى ليست مجرد أدوات بيد الأطراف الخارجية، بل تدخل في عمليات تفاوض ومساومة تُعيد توزيع موازين النفوذ. ما يظهر أن الديناميات الداخلية قادرة على تحدي الهيمنة التقليدية، وإنتاج مسارات مستقلة أو بديلة

يظل كتاب "The Horn Engaging the Gulf" منارة معرفية تضيء على تعقيدات وخصوصية علاقات القرن الأفريقي مع دول الخليج، مشدداً على أن هذه العلاقات تتجاوز المعايير التقليدية للدبلوماسية الواقعية لتشمل تأثرات عميقة للفاعلين الإقليميين والمحليين. كما يقدم الكتاب دعوة لفهم أوسع وأكثر ديناميكية للعلاقات الدولية في المنطقة، حيث تتشابك القوة والسياسة والاقتصاد في فضاء متعدد الأبعاد. يحمل هذا العمل عبرة مهمة لمن يرغب بفهم حقيقي لتوازنات القوة المتغيرة وكيفية استثمار النفوذ والعلاقات الاقتصادية في صناعة القرار السياسي على مستوى الإقليم.