تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 20 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

"دبلوماسية الجامعات الأفريقية": أنفاس فرنسا الأخيرة في أفريقيا!

8 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

على بعد خطوات قليلة من أحد أهم معاقل الثقافة الفرنسية تاريخيًا في القاهرة، حيث درس جيل عميد الأدب العربي طه حسين ورفاقه وتلاميذه في أروقة كلية الآداب هذه الثقافة ولغتها باستفاضة، حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، في تقليد انتهجته الرئاسة الفرنسية في محطات بارزة، في عدد من الجامعات الأفريقية (نيكولاس ساركوزي في داكار 2007، ماكرون في واغادوغو 2017).
تزامنت الزيارة مع تراجع غير مسبوق للنفوذ الفرنسي في القارة؛ مما يمكن معه قراءة الزيارة في سياق محاولات استدراك فرنسية، وإن جاءت متأخرة بعض الشيء، لتعويض النفوذ المفقود في القارة. واتضح جانب من هذه المساعي في حضور ملفات السودان وإثيوبيا وأمن البحر الأحمر (والقرن الأفريقي) والوضع في إقليم الساحل في أجندة قمة ماكرون- السيسي الثنائية (7 أبريل/ نيسان الجاري). تلتها قمة ثلاثية بحضور ملك الأردن عبد الله الثاني "لمناقشة التطورات الخطيرة في غزة"، قبيل توجه ماكرون إلى جامعة القاهرة لحضور "ملتقى الجامعات المصرية الفرنسية" متفقدًا واحدًا من أهم مشروعات التعاون المصري الفرنسي في مصر في العقود الخمسة الأخيرة: "مشروع خطوط مترو أنفاق القاهرة".
إن كانت "خطبة داكار" التي ألقاها ساركوزي، قبل نحو عقدين، قد دعت إلى وضع نهاية "لأفريقيا الفرنسية" (Franceafrique)، وهي عملية لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين مسارها السريع، في السنوات الأخيرة، مع فك ارتباطات كثير من دول القارة بباريس، فإن خطاب ماكرون في واغادوغو بدا أكثر برجماتية وواقعية بإعلانه "نهاية سياسة فرنسا الأفريقية"، لصالح رؤية أوروبية للتعاون مع أفريقيا؛ أما في القاهرة فقد كان خطاب ماكرون مجردًا من المضامين "الأيديولوجية" لصالح إطلاق تعاون ثنائي مع مصر، وإبداء تفهم فرنسي أكبر لمخاوف مصر في القرن الأفريقي، واستعداد مصري لدعم جهود مواجهة الإرهاب في إقليم الساحل.

 
خطبة داكار: تناقضات فرنسية مستدامة؟

زار الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي العاصمة السنغالية داكار منتصف عام 2007، وعمد إلى إلقاء محاضرة مهمة في جامعة شيخ أنتا ديوب باتت، تعرف كلاسيكيًا باسم "خطاب داكار"؛ واضعًا ملاحظة مبدئية أنه لم يأت إلى داكار ليحاول "محو الماضي (الاستعماري الفرنسي في القارة بفظائعه)؛ لأن الماضي لا يمكن محوه". عرّج في خطابه على العبودية وتجارة العبيد التي وصفها بالجريمة "ضد الإنسان وضد الإنسانية"، داعيًا الشباب الأفريقي والفرنسيين للعمل معًا، من أجل تجاوز تلك الآلام المروعة. 


كان خطاب ماكرون في القاهرة مجردًا من المضامين "الأيديولوجية" لصالح إطلاق تعاون ثنائي مع مصر، وإبداء تفهم فرنسي أكبر لمخاوف مصر في القرن الأفريقي، واستعداد مصري لدعم جهود مواجهة الإرهاب في إقليم الساحل


قدم ساركوزي، حسب النقد القوي الذي قدمه المفكر الكاميروني أشيلي مبيمبي للخطاب، خطابًا حول الاستعمار، وتكريس الهيمنة، وما نزعه المستعمِر من الشعوب المستعمَرة من شخصية وحرية وأرض وثمار عملها؛ إذ خاطب ساركوزي النخبة المثقفة الأفريقية "كما لو أن أفريقيا قد عُدمت تقاليد نقدية خاصة بها، أو أن ليوبولد سنغور وكامارا لايه (الذي يوصف برائد الأدب الأفريقي المكتوب بالفرنسية في غرب أفريقيا) لم يقدما طرحًا كافيًا يمكن البناء على ما بعده. 
سيؤكد الرئيس إيمانويل ماكرون في زيارته لجامعة واغادوغو، بعد زيارة ساركوزي تلك بنحو عقد كامل، أنه لا يجرؤ على التحدث كما لو أنه مؤرخ في جامعة المؤرخ البوركيني الكبير (جوزيف كي- زيربو)، خلافا لساركوزي الذي استفاض، في خطابه، في تقديم تشخيص سطحي لقضايا تاريخ القارة الأفريقية وتحدياتها، مكرسًا أسلوبًا "رومانسيًا" قصد تأكيد المساواة بين الرجل الأسود ونظيره الأوروبي، كما في استخدام المنطق والنظرة للأمور (على سبيل المثال)؛ وأن التحدي الذي يواجه أفريقيا هو نفس التحدي الذي يواجه جميع الحضارات والثقافات والشعوب "التي تريد الحفاظ على هويتها" دون عزلة مفرطة. 
بدت تفسيرات ساركوزي  –إجمالًا- حماسية ومؤدية إلى دلالات سلبية (ربما دون قصد)، لإثارتها مسألة المساواة الأفريقية ببقية "حضارات العالم" من منظور عفا عليه الزمن بالفعل، وتجاوزته الخبرات الأفريقية بشكل كبير. 
فيما يخص سياسة فرنسا الأفريقية، أو ما بات يعرف في السنوات التالية بمفهوم ساركوزي لأفريقيا الفرنسية، فقد أبان الخطاب عن تناقضات جمة، بدءًا من تصوره خروج أفريقيا للوجود، بشكلها المعاصر، في القرن التاسع عشر، مما يعزز سردية رسالة المستعمر "لتمدين أفريقيا"؛ وكما وردت في انتقادات أفريقية وأوروبية كثيرة ودقيقة لخطاب ساركوزي، فإن الأخير بدا غير مدرك لتطورات الفكر الأفريقي، وإسهاماته في العقود الماضية، لاسيما أفكار المؤرخ السنغالي شيخ انتا ديوب، الذي خاطب ساركوزي الحضور في مقر جامعته، وأعمال علماء اجتماع، مثل جورج بالاندير وهيلين دالميدا توبور التي أكدت إمبيريقيا ونظريًا قِدم سمة الحداثة في المجتمعات الأفريقية، بل وملاحظة وجود مجتمعات وممالك أفريقية قديمة امتلكت نظمًا دستورية، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في ربقة نظم الإقطاع. 
كرس هذا الجهل المستحكم في رؤية ساركوزي، كما أبانت انتقادات أفريقية وفرنسية مكثفة، طرحه المستفيض لمجموعة من الأسئلة على أسماع الحضور، قبل أن يختتم بطرح فكرة رئيسة، وهي أن ما تريده فرنسا من أفريقيا والتعاون معها (في المستقبل) هو "التنمية المشتركة"، رغم أن الإجراءات "النيوليبرالية" التي طالما اقترحتها فرنسا على الدول الأفريقية، كحلول لمشكلاتها الاقتصادية كانت ضمنيًا. إضافة إلى شبكات الفساد الواضحة التي كشفت عنها التطورات اللاحقة في إقليم الساحل وغرب أفريقيا، وكانت باريس فاعلًا رئيسًا بها، من الأسباب التي أدت لاستدامة تخلف الاقتصادات الأفريقية، وتهاوي بعضها، وتمكين الاستبداد السياسي المحلي بالعديد من دول القارة من باب "الدعم الاقتصادي".

ماكرون في واغادوغو: إعلان وفاة سياسة فرنسا "الأفريقية"

كانت زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لبوركينا فاسو وإلقاء خطاب دال في جامعة واغادوغو (نوفمبر/ تشرين الأول 2017) علامة مهمة على ما وصفه ماكرون نفسه "بأنه لم يعد ثمة سياسة فرنسية في أفريقيا"، بل سياسة تقوم بها باريس مع أصدقاء؛ ورغم الافتتاحية ذات المسحة الساخرة للخطاب، من قبيل أنه نما لعلمه أن الحضور (في قاعة الجامعة) سيكون ماركسيًا أفريقانيًا، فإن بقية الخطاب المطول قدمت مقاربة واقعية للغاية لهذه السياسة. 
مثل إقرار ماكرون بأن أفريقيا، التي تضم 54 دولة، لا تمثل كيانًا واحدًا في واقع الأمر، وأنه من قبيل الصلف المريع معاملتها على هذا النحو (في نقد ضمني واضح للنظرة الاستعمارية التي لا زالت تعاني منها القارة حتى اليوم) تصورًا حقيقيًا تفتقر إليه سياسات القوى الكبرى والمتوسطة تجاه دول القارة حتى اليوم.


أكدت إمبيريقيا ونظريًا قِدم سمة الحداثة في المجتمعات الأفريقية، بل وملاحظة وجود مجتمعات وممالك أفريقية قديمة امتلكت نظمًا دستورية، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في ربقة نظم الإقطاع


أكد ماكرون أنه من الجيل الذي يقر بجرائم الاستعمار في أفريقيا، وأنه يرتبط أيما ارتباط بألبير لوندر وأندريه جيد، الأديب الفرنسي البارز الذي أظهر نحوه  طه حسين، عميد الأدب العربي والأستاذ بجامعة القاهرة، تقديرًا خاصًا يتضح في مؤلفاته، مثل "مع أبي العلاء المعري في سجنه" (1935)، ونقاشه المفصل حول الأدب والتاريخ والتجربة الشخصية في اطلاعه، مسترشدًا بتصورات طائفة من المفكرين والمبدعين الفرنسيين؛ ولاسيما إدانتهما المعاصرة لمقتل آلاف الكونغوليين في مشروع السكك الحديد هناك، قبل نحو قرن كامل، ودونها "جيد" في مؤلف هام بعنوان "رحلات للكونغو- 1929".
في مؤشر على نزعة ماكرون "الأوروبية"، فإنه وصف نفسه بأن جذوره أكثر أوروبية، وأنه يدفع بقوة لتعاون أوروبي- أفريقي (بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي) بدلًا من مجرد "حوار فرنسي- أفريقي". وتبنى ماكرون في خطابه "خلطة" موثوق في مردودها أفريقيًا: وهي أهمية دور الشباب الأفريقي في صياغة مستقبل القارة، ودعم فرنسا لهذا الدور على المستويات الثنائية والجماعية. قبل أن يخصص جزءًا كبيرًا من الخطاب لمعالجة مسألة الإرهاب في إقليم الساحل، مثنيًا على قرار سلفه فرانسوا أولاند (2013) بتدخل بلاده العسكري في مالي "على وجه السرعة لمنع تقدم الإرهابيين"، مشيدًا بقدرة جيش بلاده العسكرية باعتباره واحدًا من الجيوش الأوروبية القليلة القادرة على التحرك بمثل هذه السرعة، لأن "فرنسا تقف جوار أفريقيا عندما يكون استقارراها وحياتها في خطر"، مما مثل، من جهة تحليل الخطاب، تناقضًا مع أفكار ماكرون التي سبقت الإشارة لها في السياق الحالي.
رغم سقف طموحات خطاب ماكرون في جامعة واغادوغو لتعزيز ما أسماه "بالمبادرة الأوروبية- الأفريقية" (التي لم تخرج إلى الوجود في واقع الأمر بعد تحولات متسارعة في إقليم الساحل وغرب أفريقيا)، فإن مجمل الوجود الفرنسي في القارة وصل لمستويات دنيا في السنوات اللاحقة، وصولًا إلى طرد قواتها، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع عدد من دول القارة، عوضًا عن تراجع صورة فرنسا بشكل سلبي للغاية وسط قطاعات أفريقية شابة في أرجاء القارة.

ماكرون في القاهرة: أفريقيا على هامش "التفاهمات المشروطة"

حفلت زيارة ماكرون للقاهرة (6-7 أبريل/نيسان) بفعاليات مكثفة وأجندة معقدة للغاية، بالنظر للتطورات الإقليمية الخطيرة التي تضرب الشرق الأوسط والقرن الأفريقي؛ من الأزمة في غزة، مرورا بتطورات الحرب في السودان، وانتهاء بالأزمة المصرية- الإثيوبية في ملف مياه النيل. 
أكد الرئيس السيسي أن المناقشات شملت "التطورات الخاصة بملف الأمن المائي" وتأكيد رؤية مصر له، والتطرق إلى الأوضاع في السودان، "إلى جانب التطورات الإقليمية في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي"، وأن البلدين اتفقا على "ضرورة تكثيف التعاون لتعزيز الأمن والاستقرار في هذه المناطق بما يحقق تطلعات دولها وشعوبها...".
ماكرون من جهته، أكد في تعليقاته على دعم فرنسا للتنمية في مصر في محطات كثيرة، آخرها عزم باريس توقيع تقديم قرض لمصر بقيمة 600 مليون يورو، في سرد تقليدي تكرر في خطابي ساركوزي وماكرون السابقين. وأوضح ماكرون حشد قوات بلاده في إقليم البحر الأحمر (على خلفية تعقد الملف النوووي الإيراني بين الغرب وإيران) تحسبًا لأية تطورات؛ وأن فرنسا إذ تترقب دخول الأزمة في السودان عامها الثالث (منتصف الشهر الجاري)، فإنها تشترك مع مصر في رؤية التدخل لإقالة عثرته في أكبر أزمة إنسانية في العالم حاليًا، والتوصل لحل قائم على التفاوض والبناء على مؤتمر باريس (2024)؛ وأن فرنسا ستنظر في بذل جهد لتسوية الأزمة القائمة بين مصر وإثيوبيا (باعتبارها بلدا صديقا) فيما يخص "نهر النيل"، والعمل "من أجل إيجاد حلول.. كي يتم تقسيم مياه النيل بشكل متسق بين الدول المجاورة (في حوض النيل)".


اتضح حضور المؤسساتية المصرية التقليدية في غلبة حوار بدا انه معد مسبقًا، سواء في قراءة أسئلة أو ردود مكتوبة من قبل شباب اقتصرت في واقع الأمر على تجارب تعليمية شخصية، ودعائية إذا جازت الملاحظة


لم يشر ماكرون في كلمته لمسألتي الأوضاع في إقليمي القرن الأفريقي والساحل؛ لكنه أبرز اهتمام باريس الأولي بمواقف أفريقيا من الأزمة في أوكرانية، وضرورة إتباع الدول الأفريقية موقفًا واضحًا مؤيدًا لأوكرانيا. كما اتضح في توجيه ماكرون التحية لمصر "لثبات موقفها من الأزمة الأوكرانية- الروسية، وتصويت مصر في الأمم المتحدة والوضوح والحزم (في هذا التصويت)"، في إشارة واضحة للانقسام الأفريقي في الملف (وازدواجية معاييره كما يفهم من سياق تعليق ماكرون)؛ على نحو باغت الغرب وفرنسا في المقام الحالي.
جاءت زيارة ماكرون لجامعة القاهرة في سياقات مهمة ودالة على تراجع "الأيديولوجيا"، على الجانبين الفرنسي والأفريقي (على الأقل خارج الفضاءات الفرانكفونية راهنًا)، وغلبة حوار "رسمي" مؤسساتي لا تحظى فيه مساحات الاختلاف أو تناقض الرؤي أو حتى التفاعل الثقافي- الفكري الحيوي بالاهتمام المفترض. 
كما لم تشهد زيارة ماكرون للجامعة طرحًا حيويًا فرنسيًا، كما في حالتي داكار وواغادوغو (بزخمنها المستمر حتى اللحظة)، واكتفى الجانب المصري بالتطلع لتعاون مع فرنسا في دعم جهود مصر في قطاع التعليم العالي في أفريقيا ولاسيما الدول الفرانكفونية، واتضح حضور المؤسساتية المصرية التقليدية في غلبة حوار بدا انه معد مسبقًا، سواء في قراءة أسئلة أو ردود مكتوبة من قبل شباب اقتصرت في واقع الأمر على تجارب تعليمية شخصية، ودعائية إذا جازت الملاحظة، أو ما وصفته مقدمة الفعالية إجمالًا "بمسيرة الشباب الثلاثة" الذين عرضوا تجاربهم في حضرة ماكرون. 
فيما بدا شبح خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في نفس المكان (2009)، وتداعياته العاصفة، حاضرًا، فإن ماكرون حصر خطابه، أو ردوده العفوية على طرح الشباب المصري، في مجال التعاون العلمي، وضوابط هذه المائدة المستديرة، مما عكس في المحصلة عمق التراجع الفرنسي كقوة فكرية (على الأقل) في أفريقيا، مقابل تغييب ملحوظ لصوت نخب مصرية ذات ثقافة فرنسية رفيعة، لصالح صوت العمل "المؤسسي" بصرامته المعهودة.