تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

دبلوماسيات شعبية في قلب القاهرة.. كيف أسس الأفارقة أروقتهم بالأزهر في مصر؟

8 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share
ما أن تدخل من الباب الرئيسي للجامع الأزهر في قلب القاهرة متجاوزا الممر المؤدي إلى صحن المسجد، حتى تكون في مواجهة مباشرة مع مجموعة من الأروقة التي لا تزال تحمل أسماء أصحابها إلى اليوم، ففي هذه الغرف المفتوحة على شارع الإمام محمد عبده، عاش عشرات الآلاف من الطلاب القادمين من بلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا، لنيل حصتهم من العلوم الدينية في الجامع الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 970 م /359هـ. إلى اليمين قليلا في نهاية صحن الجامع، وفي المنطقة الفاصلة بين الرواق العباسي، ورواق الشوام، ربما يلاحظ الزوار، لافتة صغيرة لا تتجاوز بضعة سنتيمترات، مدون عليها "رواق الجبرت" يجاورها باب خشبي ضخم، فوقه عبارات دونت أسماء من جددوا المكان، إلا أنه رغم صغر حجم اللافتة، التي يبدو أنها وضعت حديثا بعد أن أضاعت السنوات النقش القديم، تحمل في طياتها، واحدا من أقدم شواهد التاريخ على الرباط بين  الشعوب الأفريقية، لاسيما المناطق الشرقية في القارة.

يروى الكاتب المصري شوقي عطا الله الجمل في كتابه، "الأزهر ودوره السياسي والحضاري في أفريقيا"، تاريخ الأروقة الأزهرية، وكيف كانت رابطا بين الشعوب الإسلامية قديما، مشيرا إلى أن هذه الحُجرات كانت عبارة عن دور لإيواء الطلاب المغتربين، والذين كان يُطلق عليهم وقتها "المجاورين" إذ أنهم يجاورون الجامع في السكن ليلًا، ويتعلمون على يد شيوخه نهارًا.

يشير الكاتب إلى أنه لا يوجد تاريخ دقيق لبدء توافد الطلاب الأفارقة على الجامع الكبير في مصر، إلا أنه يستند إلى ما ذكره المؤرخ "المقريزي" في أنه "في سنة 818؛ أي في القرن التاسع الهجري، كان عدد من يقيمون في الجامع الأزهر للدراسة 750 رجلا ما بين عجم وزيالعة ومن أهل ريف مصر ومغاربة، وأنه كان لكل طائفة منهم رواق عُرف بهم"، وأن أول من خصص مكانا للطلاب الفقراء والمغتربين في الأزهر كان الخليفة الفاطمي العزيز بالله (365هـ/ 975 م).

منذ العام 818 هـ / 1415 م، كان الطلاب القادمين من القرن الأفريقي في القاهرة، يشكلون واحدة من أكثر المجتمعات وضوحًا للطلاب الأجانب في مصر

يذكر الكاتب أن الجامع الأزهر كان يأتيه سنويا كم كبير من أموال الزكاة والوقف، وأنه من بين قرابة 30 رواقا خصصوا للطلاب المغتربين، احتفظ الأفارقة بالعدد الأكبر منها (رواق الجبرتية للقادمين من الحبشة والصومال، ورواق السنارية للقادمين من سنار، ورواق الدارفورية لأهالي دارفور، ورواق البرنية حيث يقيم الطلبة من مناطق غرب أفريقيا، رواق البربر لطلبة القادمين من موريتانيا، ورواق الدكارنة وكان للوافدين من  تشاد، ورواق المغاربة وخصص للوافدين من بلاد الشمال الأفريقي، ورواق الفلاتة الذي كان لأهل أفريقيا الوسطى).

لفتت ظاهرة الأروقة نظر الرحالة الأجانب حتى أن الرحالة التركي "أوليا جلبي"، الذي زار مصر مرتين في 1672 و1676، تحدث عنها، إذ يقول: "في القاهرة (الجامع الأزهر) الذي ليس کمثله جامع قط في الدنيا، فعدد الطلاب به 12 ألفا تم تسكينهم في بيوت حوله، وهي أماكن يسكنها أقوام من خمسين بلدًا، وكل رواق حافل بالعلماء، وأروقة الطلاب في الأزهر مقسمة حسب قومياتهم، والطلاب من كل جنس ولون ولغة إلا أن تفاهمهم بالعربية".

ويضيف في الأزهر طلاب سنيون من إيران، وكثير من أتراك تركستان والأفارقة، ومطبخ الأزهر مفتوح دائما للفقراء، وللجميع رزق مقرر صباحا ومساءً، وهو صحن من حساء الأرز والعدس ورغيف، وفي ليلة كل جمعة يقدم إليهم الأرز واللحم والبصل والحلو.

رواق الجبرت والزيالعة في الأزهر

من بين هذه الأروقة الأفريقية التي كانت  تهتم بأمور طلابها، وتوفر لهم كل سبل الراحة، إذ كانت تضم غرفة إعاشة وحفظ متعلقات وأسرة ومكتبات عملاقة، يبرز رواق الجبرتية، وكان مخصصا لطلاب مدينة جبرت (إريتريا حاليا)، إذ يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة القاهرة، في ورقة بحثية له، إنه "مع صعود دولة المماليك، وتحول الخلافة العباسية للقاهرة بدلا من بغداد، وفد كثير من الطلاب الأفارقة، وفي مقدمتهم القادمين من الحبشة والصومال للأزهر".

يضيف بأن من أشهر طلاب هذا الرواق ورؤسائه المؤرخ المصري الشهير  عبد الرحمن الجبرتي، الذي ورث رئاسة الرواق كامتداد لسبع أجيال شغلت المنصب نفسه، لافتا إلى أن الأمر لم يقتصر على عائلة الجبرتي، بل يوجد علماء آخرين ينحدرون من نفس المنطقة، كانت لهم شهرة واسعة بمصر، منهم: "الشيخ الإمام الزيلعي فخر الدين عثمان بن علی، شارح الجامع الكبير، والمحدث الزيلعي جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد المتوفي سنة 762 هـ (1361 م)، والعارف بالله الشيخ علي الجبرتي الذي اعتقد السلطان المصري قايتباى في صلاحه وولايته، وتوفي سنة 899 هـ.

من أشهر طلاب هذا الرواق ورؤسائه المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، الذي ورث رئاسة الرواق كامتداد لسبع أجيال شغلت المنصب نفسه

يلفت إلى أن كثيرا من رواد هذا الرواق عادوا إلى بلدانهم، وتولوا مناصب عليا، مثل: القضاء والإفتاء، ومنهم أول مفتى لإريتريا، الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر، الذي انتسب إلى رواق الجبرتي، وأقام فيه في أيامه الدراسية، ولا يزال علماء الأزهر الحاليون يلقبونه بالشيخ المجدد.

اللافت أن الجبرتية لم ينبغوا في علوم الدين فقط، بل كان منهم الفلكيون والمهندسون، إذ يشير المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، إلى أن والده الشيخ حسن الجبرتي، كان يُعلم طلابا من البلدان الأوروبية الذين وفدوا على الأزهر علوم الهندسة، وأن هؤلاء الطلاب رجعوا إلى بلادهم، ونشروا بها ذلك العلم. كما تذخر مصادر تاريخية أن أحد أشهر الفلكيون في عهد محمد علي باشا كان من عائلة الجبرتي.

دولة هاشمية صيتها وصل للقاهرة

الحديث عن رواق الجبرت وسر التسمية، يأخذنا إلى الروايات التاريخية التي تشير إلى أن سكان هذه المدينة التي كانت تابعة لـ"إيفات"، أحد أشهر المدن الإسلامية القديمة في القرن الأفريقي، كانوا أساسا من الهاشميين القرشيين، يعود نسبهم إلى الصحابي عقيل بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد، وفقا لما ذكره المقريزي في "مخطوط الإلمام بأرض الحبشة من ملوك السلام"، والتي حققها الدكتور علاء الدين عبد العزيز أبو الحسن.

يشير المقريزي إلى أن هذه الإمارة كانت أول دولة إسلامية يدشنها القرشيون بأفريقيا، وقد جعلوا قاعدة حكمهم في منطقة "أوفات"، وهي "جبرت"، ونظموا إدارتها وأحكموا أمرهم فيها. يتطابق ذلك مع ما تذكره المصادر عن نسب الجبرتي، الذي كان هو وآبائه من أعلام الأزهر بمصر، إذ تؤكد  أنه من أصول هاشمية قدم أجداده الحبشة، وأنه كان من أثرياء مصر في عصره، حيث ورث عن والده عالم الفلك حسن الجبرتي، ثلاثة دور بالقاهرة ومكتبة عظيم وأراض زراعية ممتدة في الأقاليم المصرية.

دبلوماسية شعبية لطلاب القرن الأفريقي في القاهرة

بعيدًا عن أصل التسمية وتاريخ علماء الأروقة، يشير المؤرخ الفرنسي جوليان لوازو، المتخصص في تاريخ العالم الإسلامي في العصور الوسطى،  إلى أن هذه الأروقة كانت تشبه دبلوماسية شعبية للطلاب القادمين من القارة الأفريقية، فكانت ترعى شؤونهم رعاية كاملة، وتعالج المشكلات التي تواجههم. كما أن بعضهم ذاب بشكل كامل في المجتمع المصري، وكان من أشهرهم الجبرتي الذي يُعد واحدا من أشهر مؤرخي التاريخ المصري، حتى أن كثير من الباحثين لا ينتبهون لخلفيته وتاريخ عائلته.

يشير في دراسته التي حملت عنوان "الحبشة في الأزهر: الطلاب المسلمون من القرن الأفريقي في القاهرة خلال العصور الوسطى المتأخرة" إلى أنه رغم عدم وجود مصادر تؤكد أن الجبرتي هو أول من تولى رئاسة الرواق بمصر، إلا أنه كان الأشهر من بين رؤسائه.

ويضيف أنه منذ عام 818 هـ / 1415 م، كان الطلاب القادمين من القرن الأفريقي في القاهرة، يشكلون واحدة من أكثر المجتمعات وضوحًا للطلاب الأجانب في مصر، وأن الأمر لم يقتصر على طلاب الأزهر، بل تواجد الأفارقة كان يضم أيضا الرهبان القادمين من الحبشة، لافتا إلى كثير من هؤلاء الغرباء نجح في تولي مناصب عليا في مصر في ذلك الوقت، حتى أن بعضهم دفن بجوار السلاطين المصريين من بينهم قايتباى والظاهر سيف الدين برقوق.

شهد القرن الخامس عشر تكاملاً متزايدًا لتجارة البحر الأحمر داخل مملكة المماليك المصرية، وكانت الروابط المتزايدة بين الطلاب الجبرتيين في الأزهر مرتبطة بهذا التحول الكبير في نمط التجارة والملاحة في البحر الأحمر

إن المسلمون المنحدرين من القرن الأفريقي، حسب الكاتب دائما، كانوا بارزين بالفعل في الدوائر والمؤسسات الصوفية المصرية. وهذا ما يتضح من العدد المتزايد لظهورهم في إشعارات النعي والقواميس التي تم تجميعها في القاهرة، لافتا إلى أن ظهورهم المفاجئ كجماعة راسخة في الأزهر، تزامن  مع  تصاعد مماثل للتجارة عبر البحر الأحمر.

ويكمل أنه "في أواخر العصور الوسطى، كان نشر المعلومات لا يزال يتشكل من خلال حركة السلع، كما كانت الدبلوماسية تتشكل من خلال التجارة، وفي معظم الأحيان، كانت سفارات الحبشة إلى القاهرة تستخدم الطرق البرية والبحرية للتجار، بالإضافة إلى ذلك، شهد القرن الخامس عشر تكاملاً متزايدًا لتجارة البحر الأحمر داخل مملكة المماليك المصرية، وكانت الروابط المتزايدة بين الطلاب الجبرتيين في الأزهر مرتبطة بهذا التحول الكبير في نمط التجارة والملاحة في البحر الأحمر.

الأروقة تتحول لمدينة للطلاب المبتعثين

تحولت هذه الأروقة حاليا إلى مدينة البعوث الإسلامية، والتي تضم أحياء سكنية وعمارات لسكن الطلاب القادمين للدراسة في المعاهد الأزهرية بالقاهرة أو المنضمين إلى جامعة الأزهر، وعادة تكون دراستهم منحة مقدمة من الأزهر، بموجب اتفاقيات بينه وبين حكومات هذه الدول.

وعلى الرغم من مضي قرون من استضافة الأزهر للطلاب الأفارقة، إلا أنه لا زال يقوم بالدور نفسه حاليا، فمن بين 1532 منحة قدمها الأزهر لطلاب دول العالم عام 2017، خصصت 536 لطلاب القارة الأفريقية، ينضمون سنويا إلى قرابة 30 ألف طالب أجنبي يدرسون في الأزهر غالبيتهم من الأفارقة، كما أن الأزهر شكل لجنة «الشؤون الأفريقية» لوضع البرامج والخطط والأنشطة التى من شأنها دعم شعوب ودول القارة.