تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

بيسي هيد.. إغواء أدب الأكواخ وتحايل الاكتئاب والمنفى

8 أكتوبر, 2025
الصورة
بيسي هيد.. إغواء أدب الأكواخ وتحايل الاكتئاب والمنفى
Share

بيسي إميري هيد (Bessie Emery Head) أديبة بوتسوانية بحكم المآل والمنفى، وجنوب أفريقيا بحكم الميلاد والنشأة. عاشت في الفترة من 1937 إلى 1986، في غياهب الفقر والاكتئاب والمنفى، حبيسة قطرين قاسيين، قُطع قلباهما من حجر: جنوب أفريقيا، حيث الميلاد والولوج إلى عالم المعاناة. وبتسوانا، حيث تجددت حالة المعاناة، ومُهّد الطريق إلى دنيا اللجوء، بمشاهدها القبيحة، ومناظرها التي تدمي القلوب، قبل أن منحت ورقة المواطنة.

وهبت بيسي بطاقة الانضمام إلى نادي الأدب، الذي أضحى المتنفس الأوحد للحياة، التي تقلبت فيها هما وغما. بعيدا عن معطيات الحياة الجميلة برزت إلى حيز الوجود روايات: "عندما تتجمع غيوم المطر"(When Rain Clouds Gather)، و"مسألة سلطة" (A Question of Power)، و"مارو" (Maru)، وغيرها من الأعمال الأدبية المهمة.

حكايات النشأة والمعاناة

تصف الكتابات المختلفة، التي تناولت مولد ونشأة وتطور حياة الأديبة، التي يشار إليها تارة بأنها جنوب أفريقية، وتارة أخرى بأنها بوتسوانية- تصفها بالقتامة والألم والمأساة، انطلاقا من الظروف التي مهدت إلى ولادتها، ويتمها، وتبنيها، واكتشافها حقيقة والديها، وتعثرها في الحياة العملية، ومعاملة المجتمع لها كملونة، ومنفاها. وقد انجلى عن تراكم هذه الظروف، إضافة إلى فشل زواجها، وملاحقتها كسياسية - أن أصبحت حياتها ضربا من الجحيم، الذي انعكس على صحتها البدنية والنفسية، فأصبحت زبونا معتمدا في بعض المشافي.

وُلدت بيسي أميليا هيد في جنوب أفريقيا عام 1937؛ لأم بيضاء تنتمي إلى أسرة معروفة، ورجل أسود مجهول. ولأن العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج بين شخص أبيض وشخص أسود - كانت تُجرّم في جنوب أفريقيا منذ عام 1927- أُعطيت الطفلة بيسي لزوجين من أصول "أفريقية مختلطة"، كانا يعيشان في أفقر أحياء المدينة. ولم تُخبِر بيسي قط عن تاريخ عائلتها الحقيقي. كانت ولادة بيسي في مستشفى فورت نابير في بيترماريتزبرغ (Pietermaritzburg)، ناتال، وهو الملجأ الذي أُودعت فيه والدتها آنذاك، والتي اعتُبرت مختلةً عقليًا. وبسبب والدتها وطريقة ولادتها -عانت بيسي نفسيًا واجتماعيًا من صدمات عديدة، فالمجتمع الذي عاشت فيه، يدين مثل تصرف والدتها، ويعنفها على هذا الفعل.

غادرت بلدها بعد أن أمضت سنوات عديدة في مجالي التعليم والصحافة، وازدادت علاقتها بالأدب قوةً، بعد أن جرّبت قرض الشعر، وكتابة الرواية

بتوصيف بيسي هيد شخصية مختلطة الأعراق (ملونة) -وقفت عند مفترق طرق بين شعبين: السود والبيض، اللذين ظلا على خلاف طوال فترة الفصل العنصري. في ظل هذه الأجواء الصعبة رعاها والداها بالتبني حتى بلغت الثالثة عشرة، ثم التحقت بمدرسة داخلية تبشيرية، وحصلت على شهادة الثانوية العامة. وتدربت لتصبح معلمة، وحصلت على شهادة معتمدة عام 1957، وواصلت التدريس في ديربان، حتى عام 1958 ثم انتقلت بعد ذلك إلى كيب تاون، حيث عاشت وكتبت في مجلات عديدة. وفي الوقت نفسه، بدأت صحيفتها الصغيرة "ذا سيتيزن" (The Citizen)، التي عبرت عن آرائها الخاصة.

وَصفتْ بيسي طفولتها بأنها عشوائية ومعتمدة على نفسها، تتنقل بين منظمات رعاية الطفل المختلفة. وأنها التحقت بكنيسة ومدرسة كاثوليكية، وظلت تجهل أن عائلة التي تبنتها ليست والديها البيولوجيين طوال سنوات دراستها الابتدائية. وعندما توفي والدها بالتبني فجأةً، أُرسلت بيسي للالتحاق بالمدرسة الثانوية في دار سانتا مونيكا، وهي دار أيتام تابعة للبعثة الأنجليكانية في ديربان. وبعد حوالي 18 شهرًا من وصولها، وتوقعها العودة إلى المنزل لقضاء العطلات، أُخبرت فجأةً أن والدتها الحقيقية بيضاء، وأنها كانت مختلةً عقليًا. ولم يُسمح لها بالعودة إلى منزل طفولتها، وإلى أمها التي أحبتها كابنتها.

انضمت بيسي عام 1960- إلى مؤتمر عموم أفريقيا، وعندما أُلقي القبض عليها حاولت الانتحار. بعد ذلك عانت من نوبات دورية من الفصام طوال حياتها. أمضت بعض الوقت في المستشفى، ثم عادت إلى كيب تاون. وفي عام 1962 أنهت روايتها الأولى "الكرادلة"(The Cardinals) ، التي نُشرت بعد وفاتها. تزوجت بيسي من هارولد هيد لكنهما انفصلا في عام 4196. وفي مايو/ آيار 1962، وُلد ابن بيسي الأول والوحيد هوار. وعادت العائلة إلى كيب تاون عندما تولى هارولد وظيفة فيها، لكن بيسي كانت في حالة من عدم استقرار، لازمتها حياتها كلها.

تشير بعض المصادر إلى أن بيسي غادرت جنوب أفريقيا إلى بوتسوانا عام 1964، عندما كانت في السادسة والعشرين من عمرها- بعد طلاقها من هارولد، وأيضًا بسبب افتقارها لحرية الكتابة. إضافة إلى ذلك الإغراء الاقتصادي لوظيفة تدريس في بوتسوانا، ويأسها من عدم قدرتها على العمل كـ"راوية قصص" في بلد يطبق الفصل العنصري بصرامة، مما جعل الاستقرار الشخصي والشعور بالانتماء للمجتمع الإنساني أمرًا صعب المنال.

لقد غادرت بلدها بعد أن أمضت سنوات عديدة في مجالي التعليم والصحافة، وازدادت علاقتها بالأدب قوةً، بعد أن جرّبت قرض الشعر، وكتابة الرواية، ونشرها قصتها الأولى في صحيفة "ذا نيو أفريكان"؛ غادرت بلدها لتبدأ حياة جديدة في المنفى، لاجئة فقيرة معدمة، في منتصف العشرينات تقريبا، برفقة ابنها هوارد. وأهم من ذلك كله، بدايتها رحلة إبداعية مع الكتابة والنشر.

سرديات العزلة والمنفى بحثا عن أمل

شهد عام 1964، نفي بيسي نفسها طواعيةً إلى بوتسوانا، حيث قبلت في وظيفة تدريس. وغادرت جنوب أفريقيا بتصريح خروج (يسمح للمواطن بالمغادرة دون العودة). وعاشت لاجئة لمدة ثلاثة عشر عامًا. ولم تمنح جنسية بوتسوانا حتى عام 1979. وفقا لدراسة، فإن بيسي بحلول عام 1964- كانت بحاجة إلى وظيفة لإعالة نفسها وابنها هوارد، فتقدمت بطلب لوظيفة تدريس في مدرسة تشيكيدي (Tshekedi) التذكارية الابتدائية في بوتسوانا. وقد قُبل طلبها، لكن رُفض جواز سفرها، مما ترك لها خيارًا وحيدًا، هو الحصول على تصريح خروج، وبالتالي مُنعت نهائيًا من العودة إلى جنوب أفريقيا، ما اضطرها للمغادرة نهائيًا. في أواخر عام 1965، بدأت بيسي الكتابة بجدية، ووقتها كانت فقيرة للغاية.

دوران أحداث الرواية في بوتسوانا، وتعبيرها عن جانب السيرة الذاتية لفرارها من جنوب أفريقيا، إبان نظام الفصل العنصري في ستينات القرن الماضي، يثيران توقعات حقيقية بأنها تنظر إلى الحياة بنظرة أفريقية

غادرت بيسي عام 1966 إلى راديسيل (Radisele)، وهناك التقت بفيرنون جيبرت، وهو مزارع يدير مزرعة تجريبية مملوكة للحكومة، وسُمح لها بالعيش والعمل فيها. لم تدم إقامتها سوى بضعة أشهر، لكنها اكتسبت مهارات ساعدتها بشكل كبير، سواءً على الصعيد العملي، في معرفة كيفية زراعة الأراضي المعرضة للجفاف، أو في توفير مادة لروايتها الأولى "عندما تتجمع غيوم المطر". ولحسن الحظ، بعد مغادرة بيسي للمزرعة -وجدت عملاً ككاتبة على الآلة الكاتبة في بالاباي. وهناك تلقت الخبر، بأن قصتها "امرأة من أمريكا" (A Woman from America) قد بيعت في المملكة المتحدة، وستظهر في مجلة نيو ستيتسمان New Statesmen.

بعد نحو سبعة أعوام من الإقامة لاجئة في بوتسوانا في ظل فقر مدقع، وحالة نفسية سيئة، واكتئاب مستمر- واصلت بيسي الكتابة الإبداعية والنشر. إذ نشرت رواية "مارو" في فبراير/شباط 1971، وكانت تعاني من اكتئاب وأوهام حادة. ثم أعقبتها بكتابة أصعب رواية لها، وهي "مسألة سلطة"، التي كتبتها بسرعة، وأنهتها في أبريل/نيسان 1972. وتأخر نشرها حتى أكتوبر/تشرين الأول 1974. إضافة إلى عدد من الكتابات الإبداعية، التي كان آخرها مقال نُشر في مارس/آذار 1985 بعنوان "لماذا أكتب؟" ( Why Do I Write?)، مع ملاحظة أن بعض منجزاتها الإبداعية نشرت بعد وفاتها عام 1986، في بوتسوانا.

أزمنة التعبير وصياغة التجارب الذاتية

كانت حياة بيسي المنشطرة بين قطرين- تضج بالألم والمعاناة ومطلوبات المنفى واللجوء، وفي اللحظة، التي شعرت أنها ستودع عالم الفقر- ارتقت هي؛ منهية عالما شهد عقداه الأخيران التحاما مع عالم الأدب، الذي أغوى بيسي، وحقق لها الانفتاح على مكنونات النفس البشرية المتعبة، وإعادة صياغة تجاربها الذاتية الخاصة، التي استوحتها من مراحل النمو النفسي المختلفة. يتجلى ذلك في روايتين لها، يظهر فيهما ما تريد أن تصدع به بعمق، إحدهما "عندما تجتمع غيوم المطر" (1968)، والأخرى "مسألة سلطة" (1974).

صدحت بصوت عال عن تفاصيل حياة اللجوء والعنصرية، وعبثية نظام الفصل العنصري، والتمييز والظلم والقمع في الحياة السياسية

تتحدث الرواية الأولى، "عندما تتجمع غيوم المطر"، وبطلتها، ماخايا، عن لاجئة من جنوب أفريقيا، استخدمت نضال زوجها ضد النظام، وتصميمه على الهروب منه، وهروبه المثير عبر الحدود إلى بيتشوانالاند Bechuanaland(بوتسوانا حاليا)؛ لتقديم شخصية ماخايا. تقدم الرواية مادةً خصبةً تُمكّن من دراسة التقاطع المُعقد بين نهج بيسي في كتابة السيرة الذاتية، ورؤاها النسوية. كما أن دوران أحداث الرواية في بوتسوانا، وتعبيرها عن جانب السيرة الذاتية لفرارها من جنوب أفريقيا، إبان نظام الفصل العنصري في ستينات القرن الماضي، يثيران توقعات حقيقية بأنها تنظر إلى الحياة بنظرة أفريقية.

يشار في تفاصيل هذه الرواية، التي تعد أولى وأشهر روايات بيسي- إلى أنها مبنية جزئيًا على حياة المؤلفة نفسها، حيث إنها تحكي قصة ماخايا، وهي ناشطة سوداء مناهضة للفصل العنصري، تغادر جوهانسبرغ إلى قرية غوليما ميدي الريفية الصغيرة في بوتسوانا في منتصف ستينيات القرن الماضي. وتنخرط ماخايا مع جيلبرت بلفور؛ المزارع البريطاني الأبيض، في محاولة لتشكيل جمعية تعاونية، وتعليم أساليب زراعية جديدة، ويتغلبان على تردد الناس في رفض أساليبهم القديمة، ووقتها يتدخل الزعيم الفاسد ماتينج، الذي تُهدد طبيعة المشروع المساواتية سلطته، وهو الذي يشك بشكل خاص في مشاركة النساء. وعندما يُنادى على بولينا سيبيسو لمعاقبته، يتحد القرويون ضد ماتينج وينتحر. وتتزوج ماخايا وبولينا، ويبدآن حياة جديدة كمزارعين في قرية ريفية، حيث يعمل الرجال والنساء، السود والبيض معًا من أجل خير الجميع.

أما رواية "مسألة سلطة"- فهي رواية أدبية أفريقية تتناول موضوع المرض النفسي من خلال بطلتها إليزابيث، التي تُكافح من أجل التعامل مع مخاوفها الداخلية الباطنة، التي تتمثل في شخصيتين داخليتين بها، هما: سيلو (Sello) ودان (Dan)، اللتين تُمثلان "الإله" و"الشيطان"، وتُؤثران بشكل أكبر على مرضها النفسي؛ الذي ينبع من نبوءة في وقت مبكر من حياتها، عندما حذّرها مُبشر مدرسي قائلًا: "كانت والدتك مجنونة، وإذا لم تكوني حذرة، فستُصابين بالجنون تمامًا مثل والدتك". وقد كانت هذه النبوءة تؤثر بشدة على عقل إليزابيث الصغيرة، بل لازمها هذا التأثير، ولم يفارقها أبدا.

تشير دراسة نقدية في منحى مشابه، إلى أنه عندما كانت بيسي تكتب رواية "مسألة سلطة"، كانت تتعافى من انهيار عصبي أدى إلى دخولها المستشفى. غير أن قدرتها على صياغة وصفٍ قويٍّ ومحكم للاضطراب العقلي، دليلٌ على نضج مهاراتها ككاتبةٍ، وقوتها كشخصية. ووفقا لهذه الدراسة تُعيد الرواية النظر في العديد من مواضيعها المتكررة، المتمثلة في: إمكانية التعاون بين الأعراق؛ والصراع بين العادات والتقاليد، لا سيما في الزراعة والزراعة الجماعية؛ والسلطة القمعية للمستعمرين والأفارقة الفاسدين؛ وقيم الحب والرحمة والكرم.

تكشف روايتا "عندما تتجمع غيوم المطر"، و"مسألة سلطة" أن بيسي كانت غارقة في كاتبة سيرتها الذاتية، مستلهمة تفاصيلها، فمجمل أعمال بيسي الإبداعية - على الرغم مما يمكن تسميته بالحياة القاسية، التي جمعت الفقر والملجأ واللجوء والأكواخ والاكتئاب والهوس والاضطراب العقلي، والزيارات المتكررة لمشافي الأمراض العقلية، والفشل في الزواج، التي عاشتها بكلياتها- لم تحل دون غواية الأدب لبيسي، ولم تشكل سدا مانعا للتعبير عن آرائها، فصدحت بصوت عال عن تفاصيل حياة اللجوء والعنصرية، وعبثية نظام الفصل العنصري، والتمييز والظلم والقمع في الحياة السياسية.