الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
تشهد منطقة القرن الأفريقي في السنوات الأخيرة تحولات عاصفة، يتقاطع فيها الصراع السياسي مع إشكالات الحوكمة الحادة التي ترسم ملامح واقعية، يسودها عدم الاستقرار وتفاقم مظاهر الهشاشة الاقتصادية والسياسية. تختلط في المشهد مخاوف التشظي وتطلعات بناء أنظمة أكثر شمولية وفاعلية، بينما تتصارع حكومات المنطقة لإعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع. وسط كل هذا، يقدم كتاب "التحديات الحوكميّة المعاصرة في القرن الأفريقي" رؤية تحليلية نقدية لأسباب الإخفاقات المتكررة، وخيارات إعادة البناء المؤسسي، مستندًا إلى أرقام وأمثلة واقعية، ودروس مستقاة من صلب التجارب المحلية والدولية. نقدم هنا قراءة نقدية لمضامين الكتاب، في ضوء ما يعيشه واقع القرن الأفريقي في 2025، معززة بتحليل معمق للأرقام والأبعاد التطبيقية.
تتجذر أزمة الحوكمة في القرن الأفريقي في بنية الحكومات المركزية التي تكرّس السلطة في يد النخب الحاكمة، وتقصي شرائح واسعة من المجتمع عن المشاركة في صنع القرار. هذا الاحتكار للسلطة حوّل الدولة في كثير من الأحيان إلى أداة لإدامة النفوذ السياسي بدلاً من تعزيز التنمية والتمثيل العادل. نكتشف في الكتاب كيف أفضت المركزية المفرطة إلى تفاقم هشاشة الدولة، وانهيار منظومة الثقة بين المواطن والنظام السياسي، إذ باتت القرارات تصدر من قمة الهرم دون مراعاة احتياجات القواعد الاجتماعية.
في جنوب السودان، تتجلى آثار هذه الأزمة بوضوح؛ إذ تشير التقديرات إلى أن نسبة المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر لعام 2025 بلغ نحو 82٪، وهي من أعلى المعدلات في القارة الأفريقية. ويُعزى ذلك بدرجة كبيرة إلى إقصاء المجتمعات المحلية عن إدارة شؤونها الاقتصادية والاجتماعية، ما حرمها من فرص التنمية والتحكم في مواردها الطبيعية. فالمركزية الشديدة لم تؤدِ فقط إلى سوء توزيع الثروة، بل خلقت أيضًا فجوة ثقة متنامية بين الدولة والمواطنين، وأضعفت قدرة المجتمع على بناء مؤسسات محلية فاعلة.
أما في الحالة الإثيوبية، فقد كشف النزاع في إقليم تيغراي عن عمق المعضلة المؤسسية الناتجة عن فشل قنوات الشراكة السياسية، وتغوّل المركز على حساب الأطراف. فقد ساهمت القرارات الفوقية والمركزية الشديدة في تآكل مظاهر التعددية السياسية، وتعميق الانقسامات العرقية والاجتماعية داخل الدولة. فقد سجلت بيانات النزوح لعام 2025 وجود أكثر من3.5 مليون نازح داخلي في إثيوبيا، وهو رقم يعكس حجم التوترات التي أفرزها تسييس السلطة، وانعدام التمثيل الحقيقي للقوميات المختلفة ضمن البنية السياسية للبلاد.
المركزية الشديدة لم تؤدِ فقط إلى سوء توزيع الثروة، بل خلقت أيضًا فجوة ثقة متنامية بين الدولة والمواطنين، وأضعفت قدرة المجتمع على بناء مؤسسات محلية فاعلة
ولا تقتصر مظاهر فشل الدولة المركزية على الصراعات المسلحة فحسب، بل تمتد إلى ضعف أداء الخدمات العامة والبنى التحتية في معظم دول المنطقة. إذ تخصص أغلب حكومات القرن الأفريقي أقل من 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي لقطاعات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وهي نسبة لا تفي بالحد الأدنى من الاحتياجات التنموية. يكشف هذا الواقع عن عجز مؤسسات الدولة عن أداء وظائفها الأساسية، ما يؤدي إلى تراجع الثقة العامة، ويفتح المجال أمام قوى محلية أو خارجية لملء الفراغ التنموي والسياسي.
يقدم الكتاب تحليلاً معمقًا لمسألة الفيدرالية واللامركزية، ليس باعتبارها مجرد إصلاح فني، بل باعتبارها مسارا للتحول الاستراتيجي يعيد رسم علاقة السلطة بالمجتمع المحلي. في الصومال، تدلل تجربة الفيدرالية على تعقيدات توازن السلطة في ظل هشاشة الدولة؛ فعلى الرغم من تبني الدستور الصومالي المؤقت لمبدأ الفيدرالية منذ 2012، لا تزال النزاعات حول الموارد واقتسام السلطة قائمة، مع تكرار تعطيل الانتخابات والاستقطاب الحاد بين المركز والأقاليم، وهو ما انعكس بوضوح في نسبة المشاركة السياسية المنخفضة (أقل من 30٪ في آخر جولة انتخابية عام 2024).
تُبرز تجربة إثيوبيا مع الفيدرالية العرقية نموذجًا معقدًا في إدارة التنوع، إذ تكشف عن الحدود العملية لهذا النظام حين يُطبّق بطريقة فوقية دون إشراك حقيقي للأقاليم والمجتمعات المحلية. فبدلاً من أن تسهم الفيدرالية في احتواء النزاعات، وتعزيز الشراكة الوطنية، أدت إلى تصاعد التوترات العرقية، وتسييس الهويات المحلية، نتيجة غياب التوازن بين السلطة المركزية وصلاحيات الأقاليم. يشير الكتاب إلى أن فرض نموذج فيدرالي من الأعلى إلى الأسفل دون توافق مؤسسي أضعف فعالية الحكم، وأدى إلى انقسامات عميقة داخل الدولة. لذلك، أصبحت الحاجة ملحة لإعادة التفكير في آليات تمكين الأقاليم وضمان تمثيل الهويات المحلية ضمن إطار وطني جامع، يوازن بين الحكم الذاتي ووحدة الدولة.
تكشف هذه النتائج أن اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل أداة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ الحكم الرشيد في القارة الأفريقية
تؤكد تقارير التنمية أن الأقاليم التي تتمتع بصلاحيات أوسع في تخطيط الميزانيات ومتابعة الشأن الخدمي تحقق نتائج أفضل في المؤشرات الاجتماعية. فقد أظهرت البيانات أن هذه الأقاليم سجلت مستويات أعلى في التعليم والصحة بنسبة تصل إلى 20٪ مقارنة بتلك التي تخضع لإدارة مركزية مشددة. هذا يعكس أن فعالية الحكم ترتبط بدرجة اللامركزية، وتمكين السلطات المحلية من اتخاذ القرار وتنفيذ البرامج التنموية. كما يبرز أن نجاح الفيدرالية لا يكمن في النصوص الدستورية وحدها، بل في الممارسات المؤسسية التي تضمن التوازن والمساءلة على المستويين المحلي والوطني.
وتدعم التجارب المقارنة في أفريقيا هذه الخلاصة، حيث تشير بيانات Africa Governance Report 2025إلى أن الدول التي تبنت نماذج لا مركزية مرنة، مثل: رواندا وأوغندا، استطاعت تحسين كفاءة الإدارة المحلية، وتعزيز الشفافية الحكومية. فقد ارتفعت معدلات تقديم الخدمات العامة في هذه الدول بنسبة تراوحت بين 13 و17٪ خلال السنوات الخمس الأخيرة، مقارنة بدول لا تزال تعاني من شدة المركزية وضعف التنسيق المؤسسي. وتكشف هذه النتائج أن اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل أداة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ الحكم الرشيد في القارة الأفريقية.
التحليل النقدي للكتاب يضع الشمولية وبناء المؤسسات الشفافة أداة جوهرية للخروج من دوامة الأزمات. يكشف واقع القرن الأفريقي اليوم عن سيطرة نخبة ضيقة على صنع القرار، مع استبعاد واضح للشباب والمرأة من هرم القيادة. بالرغم من أن الشباب يمثلون 62٪ من سكان المنطقة، إلا أن نسبة تمثيلهم الوزاري لا تتجاوز 9٪، أرقام تؤكدها تقارير التنمية الدولية لعام 2025، وتعكس فجوة حادة بين الخطاب والممارسة.
كما أن غياب الشفافية وارتفاع معدلات الفساد يُضعفان قدرة الحكومات على استخدام الموارد العامة بفعالية؛ فبحسب مؤشرات الشفافية الدولية، احتلت الصومال والسودان المراتب الأخيرة أفريقيا في جودة الحوكمة، مع تسجيل خسائر سنوية تقدر بـ 1.2 مليار دولار نتيجة سوء إدارة الموارد والعقود الحكومية.
الإصلاح في القرن الأفريقي لن يكون مستدامًا إلا إذا استند إلى مشروع وطني جامع يعيد تعريف الحكم باعتباره شراكة لا سلطة
أما على صعيد تطوير الأنظمة الانتخابية وتوسيع الحقوق المدنية، فلا تزال أغلب الدول تعاني من تقييد الحريات العامة وقصور عميق في القضاء والفصل بين السلطات، ما أدى إلى تراجع سبيل الإصلاح التدريجي. ويبرز هنا دور المنظمات المدنية والدولية كمحفز للضغط باتجاه ترسيخ الحوكمة وتكريس الشفافية، وهذا ما تطرحه مبادرات مثل "منتدى حوكمة أفريقيا 2025" و"إطار الأمم المتحدة للتجديد الحوكمي 2022-2025" التي تؤكد أهمية الرقابة المجتمعية، ومأسسة دور الشباب في بناء المستقبل.
تتطلع دول القرن الأفريقي للخروج من مأزق الحوكمة بتجاوز حدود الإصلاحات الشكلية أو التغييرات البيروقراطية السطحية، فهذا يتطلب نهجًا شاملًا يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المشاركة والمساءلة. فالتحول المنشود لا يمكن أن يتحقق دون تحالفات سياسية ومؤسسية ومجتمعية تتسم بالمرونة والواقعية، وتنطلق من فهم دقيق لخصوصية المنطقة وتحدياتها البنيوية. كما أن استثمار الموارد البشرية والثروات الطبيعية بصورة استراتيجية، يمثل ركيزة أساسية لإعادة بناء الثقة، وتعزيز قدرة الدولة على تلبية احتياجات مواطنيها. ويتطلب ذلك كسر الإرث التاريخي للأزمات المزمنة التي أعاقت مسار التنمية، عبر تبني سياسات جريئة وشفافة تستند إلى إرادة سياسية حقيقية في إحداث التغيير. فالإصلاح في القرن الأفريقي لن يكون مستدامًا إلا إذا استند إلى مشروع وطني جامع يعيد تعريف الحكم باعتباره شراكة لا سلطة.
من نافذة كتاب "التحديات الحوكميّة المعاصرة في القرن الأفريقي"، يتضح أن مشهد إصلاح الحكم لا يزال معلقًا بين طموح التحولات المؤسسية ومعوقات التقاليد السياسية المركزية. رهان النجاح في القرن الأفريقي مرهون بقدرة نخبها على إعادة تعريف مفهوم السلطة بمنطق احتوائي شفاف، ينطلق من الواقع ليرتقي فوق الانقسامات، ويُصاغ حول الاحتياج الحقيقي للمجتمع. لا ترال الفرصة متاحة لصياغة نموذج حوكمي جديد ينهي دوائر الفشل المزمن، إذا ما تجرأت القوى السياسية على مراجعة عميقة، وتفعيل إصلاحات صادقة تتجاوز الشعارات إلى جوهر التغيير الفعلي.