تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 12 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

بين ضمير أفريقيا ووجدانها: معالجة عربية رائدة لأفكار نكروما

21 أكتوبر, 2025
الصورة
بين ضمير أفريقيا ووجدانها: معالجة عربية رائدة لأفكار نكروما
Share

قدم المؤرخ السوداني جمال محمد احمد نصًا رائدًا في الرؤية العربية لأفريقيا بعد الاستقلال؛ إذ مثل مؤلفه "وجدان أفريقيا" (1974) مقاربة عربية فريدة عن "الديانات في أفريقيا" وهوية أبناء القارة، وأي أثر تترك هذه الديانات في معتنقيها الأفارقة؛ وبلغة شعرية رائقة، تتسلل أفكار أحمد الراديكالية والمنحازة للإنسان الأفريقي، وثقافته التقليدية، ضد معاناته "المقدسة" التي أسبغتها عليه نصوص المسيحية وتجربة الإسلام بدرجات متفاوتة حسب أحمد. لا يخفى تناص نص أحمد الوجيز مع نص وجيز آخر صاغه الزعيم الغاني كوامي نكروما بعنوان "الضمير: فلسفة وأيديولوجية القضاء على الاستعمار"(1964)؛ وتلامس النصان في مسألة السعي لكشف ضمير أفريقيا ووجدانها وروحها كمكون مميز في "الشخصية الأفريقية".

مع هذا التناص، الذي له ما يبرره مثل استمرار طرح المسألة بعد عقد من كتاب نكروما وغياب الأخير بانقلاب عسكري مرير (1964)، وفي أجواء تحولات العلاقات بين الشرق والغرب مع الصعود الصيني الثقافي والسياسي الكبير عقب تفاهمات بكين- واشنطن، يظل لوجدان أفريقيا بريقه الخاص والفريد، لاسيما عند مقارنته بنصوص عربية أخرى، والتي ظهرت بعده بعام أو أكثر، مثل: مؤلفات الجغرافي المصري جمال حمدان، ومنها "أفريقيا الجديدة" (1976)، و"نحن وأبعادنا الأربعة" (1993) وغيرهما، قد مثلت القارة الأفريقية على أنها مجرد عائق "جغرافي" بين الاتصال الأوروبي بالشرق، وادعت أن بلدًا مثل مصر "أفريقية الجسد أوروبية الروح"، وأن أفريقيا ظلت "معزولة" عن العالم لقرون.

يبين هذا المثال الفارق بين رؤية وجدان أفريقيا للقارة، بمكوناتها العربية كذلك، كجزء رئيس وأصيل من هذا العالم، ونصوص حمدان وغيره التي يمكن وصفها بتمثل أفكار الكولونيالية على نحو بالغ السذاجة، بل والوقوع في فخ العلم الزائف pseudoscience عند استهانتها بالتاريخ ومناهجه.

ضمير أفريقيا: تفكيك الاستعمار ضرورة للنهضة

قدم الزعيم الغاني كوامي نكروما، الذي تلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية، إسهامات فكرية معمقة للغاية في قضايا الشخصية الأفريقية، والقضاء على الاستعمار، ومواجهة الاستعمار الجديد؛ مما يضعه في مصاف أهم من أسهموا في قضايا الفكر السياسي الأفريقي، أخذًا في الاعتبار زخم تجربته السياسية بانتصاراتها وانكساراتها. وكان مما قدمه نكروما كتيبًا حول "الضمير: فلسفة وأيديولوجيا للقضاء على الاستعمار" (نشرته The Monthly Review (1964)، وأعيد نشره في كتاب واحد عام 1970، بعد سقوط نظام نكروما بنحو أربعة أعوام).

الاتصال الأوروبي بأفريقيا يجب أن يتم تقييمه والحكم عليه من وجهة نظر المبادئ المحركة للمجتمع الأفريقي، ومن وجهة نظر تناغم هذا المجتمع وتقدمه

تناول الكتاب في فصوله الخمسة الوجيزة مسائل الفلسفة الأفريقية، والفلسفة والمجتمع، والمجتمع والأيديولوجيا، وفكرة الضمير، واختتمها بضبط المصطلحات النظرية. وقد كتب نكروما ملاحظة وجيزة تصدرت الكتاب من منفاه في العاصمة الغينية كوناكري أشار فيها إلى دخول "الثورة الأفريقية مرحلة جديدة وهي مرحلة النضال المسلح"، وأن الأمور باتت "الآن أكثر وضوحًا مما كانت عليه، إذ كشفت سلسلة الانقلابات في السنوات الأخيرة في أفريقيا عن الصلات الوثيقة بين مصالح الاستعمار الجديد والبورجوازية المحلية". وقدم ملخصًا في الفصل الثالث حول مكونات المجتمع الأفريقي، وهي التقليدي والغربي (المسيحي حسبما يفهم من السياق) والإسلامي.

لاحقًا سيطور علي مزروعي هذه الفكرة في دراسات حول "التراث الثلاثي"، حيث رأى ضرورة أن تكون الحالتان الغربية والإسلامية مجرد تجارب يمر بها المجتمع الأفريقي التقليدي، الذي لا تلائمه أفكار الرأسمالية. وأن الثورة الاشتراكية (الأفريقية) يجب أن تكون ثورة فكرية: "ثورة يكون تفكيرنا وفلسفتنا موجهة نحو انعتاق مجتمعنا... إن تحرير القارة الأفريقية (يكمن في) تحرير الإنسان".

يؤكد نكروما على تفرد أفريقيا ومجتمعها (بشكل مجرد بطبيعة الحال)، بقوله أنه: "في النهضة الأفريقية الجديدة نضع قدرا هائلا من الاهتمام على التاريخ وطرحه. إن تاريخنا يحتاج لأن يكتب كتاريخ لمجتمعنا، وليس حكاية عن المغامرات الأوروبية. وتجب معاملة المجتمع الأفريقي على أن تاريخه مرآة له.. ويجب وضع تاريخ الاتصال الأوروبي بالقارة كتجربة أفريقية فحسب، حتى وإن كانت تجربة هامة". ويلفت إلى إشارة هامة للغاية، وواقعية رغم تجاهلها من قبل عدد كبير من المؤرخين والمفكرين، ومن بينهم أفارقة كُثر، ألا وهي أن الاتصال الأوروبي بأفريقيا يجب أن يتم تقييمه والحكم عليه من وجهة نظر المبادئ المحركة للمجتمع الأفريقي، ومن وجهة نظر تناغم هذا المجتمع وتقدمه.

وقد جاء نص وجدان أفريقيا لجمال محمد أحمد متسقًا تمام الاتساق مع أفكار نكروما، وشارحًا لعدد منها عبر طرح أمثلة متفرقة من شتى بلدان القارة وثقافاتها، وهو ما يضيف ملمحًا هامًا من ملامح أصالة هذا النص.

وجدان أفريقيا: نص عربي رائد

جاء كتاب "وجدان أفريقيا"، على صفحاته الوجيزة في سبعة فصول، ليمثل إضافة فارقة، ومبكرة، في التفاهم العربي الأفريقي. والتقى الكتاب مع كثير من أفكار نكروما عن المجتمع الأفريقي وشخصية الأفريقي التقليدية التي تتمتع بجذور قوية وروح نقية، مكنتها في النهاية من استيعاب المسيحية (القيم الغربية حسب نكروما) والإسلام. كما قدم الكتاب تدفقًا فكريًا أصيلًا ومتميزًا في قراءة ما أنتجه الفكر الأفريقاني، وصياغة تلك القراءة وفق تفكير عربي يمثل جزءًا منه، وليست نظرة من الخارج.

يبين هذا المثال الفارق بين رؤية وجدان أفريقيا للقارة، بمكوناتها العربية كذلك، كجزء رئيس وأصيل من هذا العالم، ونصوص يمكن وصفها بتمثل أفكار الكولونيالية على نحو بالغ السذاجة

إضافة إلى القراءة الذكية التي تضمنها النص لخلاصات الفكر والتاريخ الأفريقيين (بما في ذلك قراءاته لكوامي نكروما والسنغالي محمد ضياء عودة وسنغور وغيرهم)، فإن ما ميزه تلك القدرة على نقد الكتابة الكولونيالية السائدة نقدًا جريئًا لا لبس فيه، وجزالة اللغة دون افتعال، لدرجة تماهي ما نقله النص عن الفكر الأفريقي بشكل تام مع لغته العربية، إضافة إلى الجرأة الملحوظة في التعبير دون رهن أفكاره بمحاذير مسبقة.

كما جاء في "وجدان أفريقيا" حديث عن "الديانات في أفريقيا، وأي أثر تترك هذه الديانات في معتنقيها" حسب السطر الأول من مقدمة العمل؛ واستغرق المؤلف في مطالعة طائفة متنوعة من الأدبيات ذات الصلة إبداعية كانت أم فكرية وعلمية، واصطبغ الكتاب بروح أفريقية حقيقية، ربما عززتها حقيقة كون السودان الجسر الراسخ بين العرب والأفارقة تاريخًا وثقافة وفهمًا، وعبر مسارات غربه نحو "السودان الغربي" أو شرقه وجنوبه مع تخوم الهضبة الحبشية ونحو قلب أفريقيا ومنبع نهر النيل الأبيض.

لفت أحمد إلى أن رياح التغيير ضربت أفريقيا بشكل ملفت في مطلع الستينيات، لافتا إلى أنها "لم تكن بينة واضحة تراها كل عين. كانت خفية إلا على الذين خبروا ماضي أفريقيا. ووضعوه مكانه الحق في موكب البشرية". ويمضي أحمد ليفكر ويكتب ويحلل ويرجو كأفريقي؛ ويستعير من عالمة اللغات والأنثروبولوجيا الأيرلندية روث فينيجان مقتفطات وجيزة من مؤلفها الأشهر "الأدب الشفاهي في أفريقيا" (1970)، تلخص اختلاط النفوس الأفريقية بالغرب المسيحي بتعكر الماء، ويصل ببراعة بين تساؤلات فينيجان عن مصير روح الأفريقي ومسعاها في مسألتي الحرية والحياة، ورواية الروائي الكاميروني مونجو بيتي (يسميه أحمد "منقوبتي") "مسيح بومبا البائس"(1956) التي أخذت الحياة الروحية فيها لإنسان أفريقيا الشطر الأكبر "من روايته الساخرة" حسب قراءة أحمد.

تحكي رواية باتي حكاية ذات دلالة طاغية، عن قس أوروبي وخادم له من أهل البلاد (الكاميرون)، يتنقلان من قرية لمدينة للتعليم والتبشير والعلاج؛ لكن عند لحظة النهاية يبتئس القس، وتعلو الحيرة في وجدان خادمه الأفريقي، إذ لم تتعمق المسيحية في وجدان الأهالي، بل إنه رأى بأم عينيه التقاليد الأفريقية تظل متغلغلة في نفوس الأهالي، وفيما يضرب "الجهل" بينهم تزداد حيرة الصبي/ الخادم، ويحاور نفسه "من يدري، ربما كان صحيحًا الذي جاء عنا في الكتاب المقدس. خُلقنا نحن السود، واللعنة تطوف فوقنا، لا يمكن لهذه الأحداث أن تقع في بلاد أبينا الراحل". يوجز أحمد ذروة الفصام: ويرحل القس كسير القلب، حين رأى أن جديده الذي أتى به عجز عن أن يذهب لأي عمق. ظل نور جديدة على السطح جنبًا لجنب مع القديم العنيد. طفق الصبي خادم القس يحوم بذهنه، لا يعرف كيف يفكر في هذه المعميات، تتردد في ذهنه لعنة الزنج في الإصحاح التاسع: "ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبد العبيد، اللهم ليفتح الله ليافث فيسكن مساكن شام."

القدرة على نقد الكتابة الكولونيالية السائدة نقدًا جريئًا لا لبس فيه، وجزالة اللغة دون افتعال، لدرجة تماهي ما نقله النص عن الفكر الأفريقي بشكل تام مع لغته العربية، إضافة إلى الجرأة الملحوظة في التعبير دون رهن أفكاره بمحاذير مسبقة

في الفصل الثاني يعقد مقارنة لطيفة في رؤية معضلة الهوية والانتماء في رواية الأديب المصري توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" (1938) وبطلها محسن، ورواية "المغامرة الغامضة" (1961L'Aventure ambiguë-) للسنغالي الشيخ أحمد كين عن ديالو الطالب الأفريقي في باريس، ووصف أحمد الأخير بأنه "نموذج بشري بعيد أن ينساه (القارئ الأفريقي)"، تنتابه حيرة دائمة: "لكني أنا المعضلة، أضحيت شخصين يعيشان في جسد. ما عدت ذلك الرأس الواضح السهل الذي جئت به من بلدي. ضباب يحلق فوق رأسي، يحوطني غمام. ذهني هذا القلق يحيا على حد موسى، وعليه أن يختار... أنا طبيعة واحدة، لكنها غريبة كل مكان، لا موئل..". ويربط بين سؤالي محسن وديالو وسؤال الزعيم جواهر لال نهرو في حياته المماثلة لهما: يسائل "من أنا، أين أنتمي؟" لا يحب، ولا يمقت، ولكنه كان، حائرًا حيرة ديالو، كلاهما تضنيه قصة الانتماء بخلاف بين آسيا وأفريقيا.

يصل بنا المؤلف إلى عقدة فكرته: أن "منقوبتي المسيحي، وأحمد كين المسلم رجلان أدركا وجدان أفريقيا، عارضًا خلاصته التي انتهى إليها: "ستبقى أفريقيا متدينة، أذهب أبعد، يدرك الذكاء الأفريقي، أن أثر القارة سيقوى ويضعف في عالمنا المعاصر بالمواقف الروحية التي تتخذ، أكثر من اثرها الذي يمكن ان تحدثه يوم تقتسر ثرواتها المادية من الماليكها الآن. تدين أفريقيا –في زعمي أنا- حقيقة..".

بأي حال، تظل لنص "وجدان أفريقيا" خصوصيته وخطوط اشتباكه الغزيرة حتى الوقت الراهن؛ فقد عبر صاحبه عن تمثل مذهل للثقافتين الأفريقية والعربية، وشيد في نصه جسورًا راسخة بينهما، واستبق جهدًا خار دونه عددٌ من المعنيين الذين توقفوا عند حدود النقل عن الأدبيات الكولونيالية، وإعادة إنتاجها، بل ونحا بعضهم في السنوات الأخيرة لإعادة هذا الإنتاج مرارًا وتكرارًا بجمل وعبارات جوفاء لا تغني العقل؛ الأمر الذي يشير إلى أهمية أصالة النص،"وجدان أفريقيا"، ومجمل مشروع مؤلفه جمال محمد أحمد، وضرورة وضعه في مكانته اللائقة في جهد تقديم رؤية عربية- أفريقية متماسكة لقضايا القارة، وأبرزها شخصيتها وروحها.