تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 فبراير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

بين الخوف والأمل: رحلة الإنسان لصناعة ذاته

19 يناير, 2025
الصورة
Illustration by Maggie Chiang for The New York Times
Illustration by Maggie Chiang for The New York Times
Share

إنه لأمر ممتع ومؤسف في الوقت نفسه، كيف يكرّس الإنسان حياته لحلّ أكبر معضلاته النفسية، تلك التي تتجلى في صراعاته الدائمة بين الخوف والأمل. تلعب هذه العملية دورا كبيرا في تحديد اهتمامات الإنسان، ما يشكل قناعاته الراسخة التي تعينه على التنقل بين أمواج التفاعلات البشرية العاتية، خصوصًا في واقع تحفّه الاختلافات الفجة. لا تكتفي هذه القناعات بتحديد اهتماماته فحسب، بل تؤطر أسلوبه لدى مواجهة تحديات الحياة، متأثرة بالأحداث التي عاشها في مرحلة ما، بوعي أو بغير وعي، لتتحول إلى دوافع شخصية تحفّزه على إحراز نجاحات كبيرة لا تتحقق إلا بجهد استثنائي.
يكشف تأمل قصص النجاحات العظيمة، أن خلف كل قصة أشخاصًا اختبروا ظروفًا مرتبطة بما أبدعوا فيه لاحقًا. يتجلى ذلك في حياة ماريا، التي نشأت في أوروبا ما بعد الحرب، حيث كان شحّ الموارد يحتّم ندرة الحلوى، تلك الحلوى التي مثّلت رمزًا للفرح في مناسبات خاصة. هذا الحرمان عمّق فيها رغبة لا تقتصر على تذوق الحلوى فحسب، بل امتدت إلى منح الآخرين تلك اللحظات السعيدة التي حرمت منها. وعندما تقدمت في العمر، حولت ماريا هذا النقص إلى حافز لإنشاء مصنع للحلوى، مرتكزةً على إنتاج منتجات عالية الجودة بأسعار مناسبة، مستخدمة حملات تسويقية تلامس الجانب العاطفي عند الزبائن، وصولًا إلى ربط الحلوى بذكريات سعيدة. والأهم من ذلك، أنها وضعت برامج لتوزيع الحلوى على الأطفال الأقل حظًا، وذلك انعكاس لارتباطها بتجربتها الشخصية.
على الرغم من تشابه التفاعلات من حيث النوع، فإنها تتفاوت في الدرجة من شخص لآخر. هذه الفروقات - وإن كانت أحيانًا خفية - تؤدي دورًا جوهريًا في تشكيل حياة الإنسان وإنجازاته. فالبشر يتحركون تحت تأثير شعورين أساسيين: الخوف والأمل. 
بعضهم يتأثر بالخوف أكثر، بينما يميل البعض الآخر بدافع الأمل. ورغم تعدد العوامل التي تحدد ميل الإنسان نحو الخوف أو الأمل، مثل الظروف البيئية المحيطة، فإن الخوف غالبًا ما يظهر بوصفه التأثير الأكثر هيمنة. ومع ذلك، تختلف استجابة الإنسان لهذه المؤثرات بناءً على تركيبته النفسية وتجربته الشخصية.
يمكن هنا التمثيل للفكرة بشخصين قررا الدخول إلى مجال التعليم تبعًا لتفاعله مع موقف معين. الأول، عانى في طفولته من غياب المعلم الملهم، ما دفعه إلى تكوين قناعة راسخة بأهمية التدريس، فكرّس حياته لسد هذه الثغرة بدافع الخوف من تكرارها مع آخرين. أما الثاني، فقد تشكّل اهتمامه نتيجة تأثره بمعلم مبدع، ليقوم بالتدريس مدفوعًا بالأمل في أن يكون مصدر إلهام لطلابه. رغم أن أحدهما مدفوع بالخوف والآخر بالأمل، فإن القاسم المشترك أطلق قرارهما. 
يُشار إلى أن التفاعل المبني على الخوف غالبًا ما يحقق نتائج أسرع نسبيًا، بينما تشير دراسة حديثة في "Journal of Personality and Social Psychology" (2023) إلى أن التدخلات القائمة على الأمل تزيد من تحقيق الأهداف بنسبة 27% مقارنة بتلك المعتمدة على الخوف؛ فالخوف يضيق الخيارات على الإنسان تحت هاجس النجاة، على عكس ما يتيحه الأمل، وإن كان الأمل المبالغ فيه ينطوي بدوره على تحديات.
لا يمكن فصل هذا التفاعل مع الخوف والأمل عن طبيعة الإنسان الأصيلة. ويتجلى ذلك في النص القرآني بكثافة، إلا أنني أفضل الاستشهاد بقوله تعالى: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" [الأعراف: 55-56]. يؤكد هذا الخطاب أن الإنسان مدفوع بالخوف أو الطمع، وهي ثنائية لا تمثل ضعفًا أو عيبًا ما لم يتم تضخيمها، بل جزء من تركيبة الإنسان الطبيعية. وهو ما يعول عليه القرآن الكريم في تواصله مع الإنسان؛ فالجنة تمثل الأمل، فيما ترمز النار إلى الخوف، مع ملاحظة أن النص غالبًا ما يميل إلى جانب الأمل، ما يفسّر قدرته على النفاذ إلى أعماق النفس.
بمقدور حدثٍ واحدٍ أن يكون تغيير قناعات الإنسان جذريًا، لكن تكوين الإنسان ليس رهين حدث، بل ثمرة سلسلة متعاقبة من التجارب، منذ ولادته حتى لحظته الراهنة. كلّ حدثٍ يترك بصمة معينة في بناء قناعاته واهتماماته وأسلوبه الخاص، ما يجعل شخصين - حتى لو كانا توأمين لهما نفس الجينات والبيئة- يستجيبان بشكل مختلف تمامًا.
تجدر الإشارة في سياق تأثير هذه التراكمات على الدوافع إلى إسهامات عالم النفس، خصوصا الفيلسوف النمساوي ألفريد آدلر، الذي ركز على الدوافع البشرية ودورها في رسم مسار حياة الإنسان، وذلك من خلال طرحه مفهوم "التعويض"؛ أي سعي الفرد لتعويض مشاعر النقص المتجذرة في مكنون نفسه. وقد لخّص آدلر هذا المفهوم بقوله: "إن حياة الإنسان لا تعدو أن تكون سلسلة من التعويضات المتكررة لمشاعر النقص".
عندما طرح آدلر مفهوم "التعويض"، حظي باهتمام كبير في الأوساط النفسية والعلمية، إذ وفّر منظورًا جديدًا لفهم الدوافع البشرية، مخالفًا في جوانب كثيرة لنظريات فرويد التي تركز على الصراعات اللاواعية. تنعكس هذه الحقيقة في سعي الإنسان الدائم إلى فهم نفسه، حيث تتلاقى معطيات مختلفة من علم النفس لتؤكدها.
باستحضار الخوف والأمل وتأثيرهما على مسيرة الفرد، قد يكون من المفيد أخذ الثورة الصناعية نموذجًا للانتقال الكبير الذي شهدته البشرية، فحياة الإنسان قبلها كانت تدور بوتيرة أبطأ، وكان الخوف يهيمن نتيجة شُحّ الموارد، فيما ساهمت في تسريع الابتكارات وزيادة الموارد.
إن ما حدث في حياة الإنسان نتيجة الثورة الصناعية كان هائلًا حقًا، ما يجعل البعض يجادل بأن الفجوات التي نشأت بمرور الزمن بين أرسطو وابن رشد (نحو 1450 عامًا) لم تُحدث اختلافًا جذريًا في تواصلهما الفكري، إذ تمكن ابن رشد من فهم أرسطو وشرح أعماله، ضمن سياقات حضارية جديدة، بفضل بطء وتيرة التحولات آنذاك. أما اليوم، فقد يفصل جيلين متتاليين من التغيرات ما يجعل الحوار بين أب وابنه ضربًا من التحدّي؛ إذ يصعب على الأب استيعاب اختيارات ابنه في المهنة أو أسلوب الحياة، وذلك نتيجة التعاقب السريع للأفكار والاكتشافات.
إن من يراقب مسيرة الإنسان مع مرور الزمن وابتعاده عن عهد شح الموارد، يلاحظ تصدُّر قيم مثل الشغف والإبداع في نجاح الأفراد والمجتمعات، ما يبرز قدرة الأمل والشغف في خلق واقع أكثر استقرارًا وإبداعًا على المدى الطويل، بتعبير آخر: إن السؤال الذي يتبادر إلى الإنسان في ظل الظروف التي تشح فيها الموارد هو سؤال: كيف أنجو؟! مقارنة مع الظروف التي تتوفر لديه الموارد، ما جعل الإنسان يطرح سؤالا مختلفا تماما، وهو: كيف أعيش حياة فارهة؟! وبطبيعة الحال تختلف الأجوبة مع اختلاف الأسئلة.
لنتخيّل شابًا شغوفًا بتصوير مقاطع الفيديو يعيش في عام 2010، يرى والده المحاسب أن المحاسبة هي الطريق الأمثل للنجاح استنادًا إلى تجاربه الشخصية. لكن في ظل ازدهار منصات مثل اليوتيوب بعد عام 2010، إذ وصل إجمالي عائدات الإعلانات إلى 9.2 مليار دولار تقريبا، وذلك في الربع الرابع من عام 2024 وفقًا لتقارير شركة "Alphabet"، أي أن ما يقارب 55٪ منها هو من نصيب صانعي المحتوى حسب سياسة المنصة، وهو مبلغ يعادل 5.06 مليارات دولار. في ظل هذا الواقع، قد يحقق ذلك الشاب دخلًا شهريًا يفوق ما يجنيه المحاسب في عام كامل، ولا أتحدث هنا عن قصص نجاح فريدة يصعب تكرارها مثل MrBeast الذي نال شهرة عالمية بفضل منصة اليوتيوب، وحسب مجلة فوربس، وصلت عائداته السنوية إلى 85 مليون دولار عام 2024، وهو مبلغ يتجاوز ما قد يحققه والد الشاب الشغوف طوال حياته.
مثال يؤكد أن الجهود المبنية على الشغف والأمل غالبًا ما تُحدث أثرًا أعمق على المستويين المادي والنفسي في المدى البعيد، مع ضرورة الحفاظ على توازن بين النجاح المالي والنفسي لضمان حياة متكاملة. فحين يحظى الإنسان باستقرار مالي، يمكنه الاستمرار في البحث عن الشغف وتحقيقه. كما يُلقي المثال الضوء على الهوة الكبيرة بين الأجيال، حيث قد يعجز الآباء الذين عاشوا في سياقات مختلفة عن تفهّم جدوى العمل في مجال صناعة المحتوى الرقمي. ومع افتراض رضوخ الشاب الشغوف لضغوط والده، واختار مهنة المحاسبة نفسها، ستختلف غالبا رؤيته المتعلقة بالمحاسبة عما اعتاد والده، وربما يراها الأب خروجًا على معايير المهنة التي أفنى عمره في ممارستها.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن هناك تحولًا كبيرًا على المستوى البيولوجي أيضًا، يظهر في انخفاض مستويات التستوستيرون لدى الرجال عبر الأجيال. فقد وجدت دراسة نُشرت في عام 2007 في مجلة "Journal of Clinical Endocrinology and Metabolism" أن مستويات التستوستيرون لدى الرجال الأمريكيين شهدت انخفاضًا بمعدل حوالي 1٪ سنويًا خلال العقود الأخيرة، حيث كان الرجل البالغ من العمر 60 عامًا في عام 2004 يمتلك مستويات من التستوستيرون أقل بنسبة 17٪ مقارنة برجل في نفس العمر عام 1987. وليس هذا التراجع مقتصرًا على الرجال الأكبر سنًا فقط، إذ أظهرت دراسة أُجريت في عام 2021 على أكثر من 4000 رجل تتراوح أعمارهم بين 15 و40 عامًا في الولايات المتحدة انخفاضًا بنسبة 25٪ في مستويات التستوستيرون خلال العقدين الماضيين فقط. 
هذا التغير لا يقتصر على العوامل الصحية الفردية مثل السمنة أو التدخين، بل يبدو مرتبطًا بعوامل بيئية ونمط حياة سريع التغير، مما يعكس تسارع التحولات في طبيعة الإنسان مع مرور الوقت. وقد يكون لهذا الانخفاض في التستوستيرون أثرٌ عميق على تحولات القيم والمحفزات بين الأجيال، إذ أن التستوستيرون مرتبط بالسلوكيات التقليدية المرتبطة بالخوف، الحذر والشجاعة. ومع انخفاضه، يمكننا أن نرى تأثيرًا في كيفية اتخاذ القرارات، إذ يميل البشر أكثر إلى الدوافع القائمة على الأمل والطموح الجماعي، بدلًا من الدوافع الفردية المرتبطة بالخوف والبقاء. لإدراك مدى تأثير انخفاض التستوستيرون بمعدل 1٪ سنويًا على الأبعاد البيولوجية والنفسية للإنسان، يمكننا مقارنته بالتغيرات البطيئة التي مر بها البشر على مدى آلاف السنين. 
أظهرت دراسات أنثروبولوجية أن تغيرات هيكلية كالانخفاض التدريجي في قوة الفك والهيكل العظمي على مدى 50,000 عام كانت مرتبطة بانخفاض طفيف جدًا في مستويات التستوستيرون. هذه التغيرات، التي تُقاس بأجزاء صغيرة على مدى آلاف السنين، ساهمت في تطور سلوكيات أكثر تعقيدًا وتعاونًا بين البشر. لكن عند مقارنة هذه التغيرات بالتسارع الذي شهدناه منذ الثورة الصناعية، يظهر الفارق الهائل. ففي حين استغرقت تغييرات مثل هذه آلاف السنين لتبدأ بالظهور بشكل ملحوظ، تشير الدراسات الحديثة إلى أن معدلات انخفاض التستوستيرون الحالية تحدث بوتيرة لم يسبق لها مثيل. 
هذا التسارع لا يؤثر فقط على الجوانب البيولوجية، بل ينعكس أيضًا على المشاعر والسلوكيات. فمع انخفاض مستويات التستوستيرون، يصبح الإنسان أكثر عرضة للتغيرات في أنماط الاستجابة العاطفية، مثل انخفاض العدوانية وزيادة التركيز على التعاون. هذه التحولات تدفعنا للتساؤل: هل نحن أمام إعادة صياغة طبيعية للبنية البيولوجية للإنسان تتماشى مع متطلبات عصرنا الحديث؟
إن هذا الفهم لا يعين الإنسان على إدراك علاقته بالآخرين فحسب، بل يعمّق وعيه بعلاقته مع ذاته. فعندما يتصالح الإنسان مع نفسه، يتقبل نواقصه ويعمل على تطويرها دون أن ينهكه الشعور بالذنب أو اللوم. ومن هنا، يصبح تصالحه مع الآخرين امتدادًا طبيعيًا لذلك التصالح الداخلي، حيث يتعلم تقبّل الاختلافات دون شعور بالتهديد.