الخميس 15 مايو 2025
آن بوريل روائية وقاصة فرنسية، تستكشف في كتاباتها موضوع العنف، أحيانا تكتب للمسرح وتستلهم أعمالها المسرحية من الحركة والرقص، تناصر الحوار بين الثقافات بشدة، وتدعو إلى التواصل بين الشعوب عبر الترجمة، من أعمالها المترجمة إلى العربية: "حانة جران مدامز" و "غواية الثلج" و"ملك الليل والنهار". كانت سعيدة بلقاء الجمهور العربي في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حاورتها لأقف على تجربتها ونظرتها لما يدور في عالم الثقافة، فكان هذا الحوار:
آن بوريل: أحببت هذا الفيلم كثيرًا، لأنه يلامس حلمًا إنسانيًا مشتركًا: العودة إلى الماضي، الانتقال عبر الزمن، لقاء الكتّاب الذين نقرأ لهم والتحدث إليهم، وكأن الزمن لم يقطع حبل التواصل بيننا. منْ منّا لم يحلم يومًا بأن يطرح سؤالًا على كاتب رحل، بأن يجلس مع هيمنغواي أو فيتزجيرالد أو جيرترود شتاين ويسمع منهم مباشرة؟ الفيلم يلعب بهذه الرغبة: أن نجد بابًا سرّيًا يقودنا إلى حقبة لم نعرفها إلا من خلال الكتب والذكريات التي تركتها لنا.
لو أتيح لي ذلك، لكنتُ تمنيت لقاء الكونتيسة دو سيغور التي شكّلت جزءًا من طفولتي، أو الدخول في حوار مع إميل زولا وإميلي ديكنسون وسينغور وإيمي سيزير، أو حتى الجلوس مع غابرييل غارسيا ماركيز أو ميلان كونديرا، الدخول في نقاش حيوي مع مارغريت دوراس. وبالطبع، كوليت التي كانت لفترة طويلة نموذجًا بالنسبة لي. تخيّل هذه الحوارات المستحيلة هي أيضًا وسيلة للشعور بالارتباط بسلسلة الأدباء العظماء الذين غيّروا نظرتنا للعالم.
لكن باريس اليوم بعيدة جدًا عن الحلم الذي يرسمه الفيلم. ليس فقط الزمن هو الذي تغيّر، بل المدينة نفسها، إيقاعها، روحها. كل شيء فيها سريع وغالٍ وحادّ. الأجساد تتقاطع دون أن تتلاقى حقًا وسط الضجيج والكثافة والسباق الدائم ضد الوقت. السماء غالبًا رمادية، والضوء فيها أقسى مما هو دافئ. شخصيًا، لا أجد فيها بيئتي الطبيعية، فكل مرة أضطر للذهاب إليها، أحاول قضاء أقل وقت ممكن، متلهفة للعودة إلى حوض المتوسط، حيث المساحات أكثر انفتاحًا، والهواء أكثر نقاءً، والضوء أكثر سطوعًا. باريس التي يصورها "منتصف الليل في باريس" ليست سوى نسخة محسّنة من الواقع، مدينة متخيّلة أكثر منها مكانًا حقيقيًا. وهذا هو جوهر الحنين: إعادة خلق الماضي، إزالة ظلاله، وتجميل ما يخدم الحكاية. باريس العشرينيات لا تزال موجودة، ولكن في الكتب، وفي الأعمال الفنية، وفي الذاكرة التي صنعناها عنها.
بوريل: لا تزال أدبيات القرن الأفريقي، بل وأفريقيا الشرقية بشكل عام، بعيدة عن الواجهة في المشهد الأدبي الفرنسي. فالكتّاب الذين يجدون صدى لدى القارئ الفرنسي هم في الغالب أولئك الذين يكتبون بلغة فرضها الاستعمار ذات يوم - كالإنجليزية أو الإيطالية أو الفرنسية- وهي لغات يمكن اعتبارها اليوم أفريقية أيضاً، تمامًا كما أن البرتغالية هي لغة البرازيل، والإسبانية لغة الأرجنتين، والفرنسية لغة الكيبيك. أما الكتّاب الذين يُنشر لهم بشكل جيد ويوزَّعون على نطاق واسع في فرنسا، مثل: عبد الرحمن وابري (جيبوتي) ومازا منغيستي (إثيوبيا)، فهم غالبًا يقيمون في أوروبا أو الولايات المتحدة.
في المقابل، تظل الأعمال الأدبية المكتوبة بلغات مثل الأورومو والتغرينية والصومالية والأمهرية غائبة تمامًا عن دور النشر الفرنسية. ولا يقتصر هذا الواقع على القرن الأفريقي وحده، بل يمتد إلى مناطق أفريقية أخرى. فحتى في غرب أفريقيا، التي أعرفها بشكل أعمق، نادرًا ما تُترجم النصوص المكتوبة باللغات المحلية إلى الفرنسية. على سبيل المثال، يكاد يكون كتاب "دوومي غولو" لبوبكر بوريس ديوب، المكتوب بالولوف، العمل الوحيد الذي حظي بترجمة إلى الفرنسية من قبل المؤلف نفسه، ونُشر تحت عنوان "صغار القردة" عام 2009 عن دار فيليب ري.
المشكلة إذن ليست محلية، بل عالمية: فدور النشر الفرنسية لم تُولِ اهتمامًا كافيًا لهذه الأصوات بعد. ومع ذلك، من يدري؟ ربما تُكتب الآن، في هذه اللحظة، رواية استثنائية أو نصٌّ عبقريٌّ بلغة لم يخطر لأحد أن يترجمها إلى الفرنسية -بالجوفا أو الأنفيلو أو العفرية أو الإيسة!
بوريل: لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال بموضوعية، لأنني لا أتناول النصوص بهذه الطريقة. بالنسبة لي، لا يهمني موضوع العمل الأدبي بقدر ما يهمني صوت الكاتب وإيقاعه ولغته، والطريقة التي يتنفس بها من خلال السرد. نادرًا ما أسأل نفسي إن كان الموضوع يعنيني، فأنا أبحث عن حضور، وهذا الحضور يمكن أن ينبثق من أي بقعة في العالم، شرط أن تكون اللغة نابضة بالحياة ومتفردة ومجسّدة بعمق.
بوريل: الترجمة فعل حاسم. لكن كثيرًا ما تُترجم نصوص القرن الأفريقي - حين تُترجم- عن الإنجليزية، مما يُضعف من بنيتها الصوتية وكثافتها الأدبية. أما اللغات الوطنية في هذه المنطقة -الأورومو والتغرينية والصومالية والأمهرية- فلا تحظى بأي ترجمات مباشرة إلى الفرنسية. المشكلة ليست مجرد ندرة المترجمين، بل إن سلسلة النشر بأكملها لا تلتفت إلى هذه الأصوات.
إلا أن الترجمة ليست مجرد عملية نقل لغوي، بل إحياءٌ للنص في لغة جديدة. كما جاء في "كراسة العودة إلى الوطن الأم " للكاتب إيمي سيزير: "ستكون فمي فمَ التعساء الذين لا فم لهم..."، لكن لا بد أن يكون هذا الفم أمينًا، ينقل النَفَس دون أن يخنقه أو يشوّهه. نحن بحاجة ليس فقط إلى مزيد من المترجمين، بل أيضًا إلى ثقة أكبر من دور النشر في القيمة الأدبية لهذه اللغات.
بوريل: نعم، أؤمن بذلك. لكن ربما علينا أولاً التوقف عن الحديث عن "الأدب الأفريقي" كما لو كان كيانًا متجانسًا. فمن المستحيل اختزال الرواية الأفريقية في تعريف واحد، كما لا يمكن فعل ذلك مع الرواية الأوروبية أو الأمريكية. هذه التسمية فضفاضة وغامضة، وأحيانًا مخادعة. ما أنتظره من أي كاتب، بغض النظر عن موطنه، هو أن يحرّر خياله، ويبتكر عالمه الخاص. فالعالم كله روايةٌ قيد الكتابة، لكن على القارئ أن يقبل بأن هذه الرواية تتكلم بجميع لغات الأرض.
بوريل: صحيح أن القراءة لم تعد تحتل المكانة نفسها كما في الماضي. لقد استحوذت الشاشات على اهتمامنا، وأصبح التركيز متقطعًا باستمرار. بات من الصعب الجلوس وفتح كتاب والغوص في سرده دون أن تقاطعنا إشعارات الهاتف أو المغريات الرقمية الأخرى. ومع ذلك، لا أؤمن بأن الكتاب سيختفي. لقد صمد عبر القرون، وتجاوز ظهور السينما والتلفزيون والإنترنت، وسيظل موجودًا، وإن كان في أشكال جديدة.
لا تزال القراءة حاضرة، لكنها تتخذ أشكالًا مختلفة. فالكتاب الورقي يواجه منافسة من القراءة الرقمية، وأساليب استهلاك النصوص تتغير. البعض يقرأ بشكل متقطع أو يستمع إلى الكتب الصوتية أثناء المشي. هذا ليس بالضرورة أمرًا سلبيًا؛ الأهم هو استمرار الأدب في الانتشار وإثراء الخيال، حتى لو تكيف مع إيقاع الحياة المتسارع.
بوريل: أما بالنسبة للذكاء الاصطناعي، فلا أراه تهديدًا فوريًا. هل يمكنه إنتاج نصوص؟ نعم. لكن هل يمكنه أن يحلّ محلّ رؤية الكاتب الفريدة للعالم، وعلاقته باللغة، وتوتراته الداخلية؟ لا. فالكتابة ليست مجرد ترتيب منطقي للكلمات، بل هي نبض وإيقاع، وفراغات تحمل معانيها الخاصة. إنها تجربة وجودية، رحلة من الشك والاستكشاف، وهو شيء لا يمكن للآلة أن تحاكيه بالكامل.
بوريل: لست قلقة من الذكاء الاصطناعي بقدر ما أخشى تراجع الرغبة في القراءة وسط عالم مشبع بالمحتويات السريعة والمباشرة. القراءة فعل يتطلب التباطؤ، والانغماس في زمن مختلف. إذا فقدنا هذه القدرة، وإذا لم ننقل هذا الشغف للأجيال القادمة، عندها فقط سيكون الأدب في خطر. لكن طالما هناك قراء يبحثون عن هذه الكثافة، فالأدب سيبقى حيًا.
بوريل: من الواضح أننا لم نعد في عصر الحركات الأدبية الكبرى كما في القرن العشرين. فالإبداع اليوم أكثر تفككًا، وأكثر تنوعًا. ليس لأن الأفكار الجديدة غائبة أو لأن الكتاب المؤثرين لم يعودوا موجودين، بل لأن الدينامية الجماعية التي ميزت حركات مثل الرواية الجديدة أو الموجة الجديدة لم تعد بنفس الزخم.
هناك أسباب متعددة لذلك، أولًا، تغيّر العالم: الفنانون اليوم أكثر تشتتًا، وأقل ارتباطًا بمكان محدد، فيما تعزز وسائل التواصل الاجتماعي المسارات الفردية أكثر من الحركات الجماعية. كل كاتب يبني عالمه وأسلوبه الخاص، دون الشعور بالحاجة للانتماء إلى تيار أدبي معين. ثانيًا، هناك نوع من الحذر تجاه "البيانات الأدبية"، التي قد تكون في بعض الأحيان قيدًا بقدر ما تكون تحررًا. اليوم، التجريب الفني يحدث بشكل أكثر تشتتًا وهدوءً. لا تزال هناك استكشافات شكلية مثيرة في الأدب المعاصر، لكنها لم تعد تقدم نفسها كـ"إيزم" أو مدرسة محددة.
لكن هذا لا يعني أن الكتّاب لم يعودوا يكتبون معًا أو يخلقون فضاءات مشتركة. على العكس، هناك رغبة متزايدة في التعاون وتداخل الأصوات، كما يتضح من تعدد المشاريع الجماعية. مثلًا، نشر دار النشر التي أنتمي إليها العام الماضي كتابًا جماعيًا بعنوان STOP، يجمع 68 كاتبًا حول مفهوم الرأسمالية البيئية وتأثيرها على العالم.
هذا العام، سيصدر كتاب آخر بعنوان من مكتبة إلى أخرى، يجمع كتابًا متعددين حول فكرة الأماكن والكتب التي شكّلتهم. هذه الأعمال الجماعية تُظهر أن الأدب لا يزال فضاءً للحوار، وإن لم يعد يُترجم إلى حركات أدبية كما في السابق. ربما نحن في مرحلة انتقالية، حيث شيء جديد يتشكل، لكنه لم يتبلور بعد. قد يكون المستقبل يحمل مفاجآت، وحينها سنكتشف تيارًا أدبيًا جماعيًا جديدًا لم نكن نتوقعه.
بوريل: هذا سؤال جوهري، وأنا أتفهم تمامًا القلق الذي يثيره. لطالما شهد الأدب صراعًا بين متطلبات الإبداع والضغوط التجارية، لكن صحيح أن التسويق والربحية باتا يحتلان اليوم مكانة طاغية في صناعة النشر. هناك عملية تصفية قاسية ونمذجة صارمة، فالشهرة الإعلامية أصبحت تعتمد كثيرًا على معايير لا علاقة لها بجودة النص.
لكن لا يمكنني القول إن "الغرب قد أفسد الأدب". الكتب لا تزال تُكتب وتنشر خارج هذه المنظومة الاقتصادية المهيمنة، وتجد طريقها إلى القرّاء عبر وسائل بديلة: من خلال التوصيات الشفهية والمكتبات المستقلة والمهرجانات الأدبية والقراءات المشتركة. هناك مقاومة قوية، وأدب يرفض الامتثال لإملاءات السوق، ويواصل شق طريقه، حتى لو كان على الهامش. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الكاتب، مثل أي مهني آخر، يحتاج إلى كسب العيش. الكتابة مهنة، وليس من الطبيعي أن يكون على الكاتب البحث عن عمل آخر للبقاء اقتصاديًا.
لكن الواقع اليوم أن قلة قليلة فقط من الكتّاب يمكنهم العيش من عائدات كتبهم، بينما يلجأ معظمهم إلى وظائف أخرى، أو إلى الإقامة في ورشات كتابة، أو تقديم دروس ومحاضرات، أو قبول تكليفات أدبية من جهات مختلفة. إن فكرة أن الإبداع ترف أو هواية تمارس بعيدًا عن الحاجة المادية هي رؤية قاصرة. في مجتمع عادل، ينبغي للكاتب أن يتمكن من العيش من عمله، تمامًا كما يعيش أي عامل أو طبيب أو سبّاك من مهنته. الأدب ليس مجرد ترف ثقافي، بل هو نشاط فكري يكوّن المخيلة الجمعية، ويعيد تشكيل فهمنا للعالم، ويطرح الأسئلة على السلطة والواقع. فلماذا ينبغي أن يكون الأدب نشاطًا ثانويًا، هامشيًا، يمارَس في الفجوات بين "الوظائف الحقيقية"؟ الكاتب يخلق قيمة، ليس بالضرورة من منظور اقتصادي بحت، ولكن من خلال إنتاج المعنى، والتأثير في الفكر الجمعي، وإثراء الثقافة العامة. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون رهينةً لمنطق السوق، ولا مضطرًا للتعامل مع نفسه كعلامة تجارية عليه الترويج لها باستمرار.
المشكلة ليست في بيع الكتب، بل في إخضاعها لنفس قوانين أي منتج استهلاكي آخر. يجب ابتكار نموذج جديد يُوازن بين حرية الإبداع وضمان استدامة حياة الكتّاب. أما بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي، فقد غيّرت بلا شك طريقة الحديث عن الأدب، إيجابيًا وسلبيًا. هناك مساحات جديدة للتفاعل، حيث يساهم القرّاء المتحمسون في إبراز كتب لم تكن لتحظى بفرصة في وسائل الإعلام التقليدية. لكن في المقابل، أصبح الكاتب، شاء أم أبى، أشبه بـ"منتَج"، شخصية عامة يجب أن تروّج لنفسها بقدر ما تروّج لأعمالها.
في الماضي، كان للكتب فرصة للانتشار عبر الزمن، أما اليوم، فعليها أن تحقق النجاح فورًا وإلا فإنها تختفي من السوق. ومع ذلك، الأدب لم يمت، ولا هو في طريقه إلى الزوال. لا يزال هناك كتّاب يكتبون بجدية، وناشرون يغامرون، وقرّاء يبحثون عن شيء يتجاوز الروايات المصممة للبيع السريع. ربما أصبح الأدب أكثر خفاءً، لكنه لا يزال هنا، يواصل مسيرته، ولو بعيدًا عن الأضواء الصاخبة للأسواق.
بوريل: أنا دائمًا أعمل على عدة مشاريع بالتوازي، لكن مشروعي الأساسي حاليًا هو رواية تحمل عنوانًا مؤقتًا ناتاشا إمبر. ناتاشا هي الطفلة التي ظهرت في روايتي الأولى الضيف الأخير، التي نُشرت بالعربية عن دار Willow House، لكنها الآن أصبحت أمًّا غريبة الأطوار ومضطربة نفسيًا. تدور الأحداث في جزيرة متوسطية حيث انحسرت مياه البحر، تاركة وراءها مستنقعات وظلامًا دائمًا. إنها حكاية يتأرجح فيها الواقع دون أن ينزلق تمامًا إلى عوالم الفانتازيا، حيث الشخصيات غامضة والأجواء مشحونة بطابع غرائبي. أحب استكشاف هذه المنطقة الرمادية، حيث يكون الغموض مجرد ستار يخفي حقيقة أكثر قسوة.
بالتوازي مع ذلك، أعمل على مشروع آخر بعنوان الكومة، وهو مجموعة قصصية. كل نص مستوحى من أحد الكتب السبعة عشر التي جمعتها خلال إقامة قصيرة في بلجيكا. أستوحي من جملة أو صمت أو شخصية، أو تقنية سردية لبناء قصة جديدة، بحيث ينتج كل كتاب قصة مستقلة. كما أنني بدأت العمل على رواية أخرى ستكون بمثابة احتفاء بالبحر. لم أحدد لها عنوانًا بعد، لكن الشخصيات بدأت تتشكل، وقد كتبت حتى الآن خمسين صفحة. سأعود إليها بمجرد أن أنتهي من ناتاشا إمبر.