الاثنين 24 مارس 2025
يفرد جيسكا، ضمن جهده لإلقاء الضوء معرفيا على القرن الأفريقي، سلسلة خاصة من الكتب العلمية والأدبية والتاريخية ذات الأهمية الخاصة للمهتمين بالمنطقة. هذا هو الجزء الثاني من السلسلة، وهو عرض عن كتاب "بناء السلام اليومي وممارسته في كينيا وجنوب السودان وصوماليلاند وغانا" (2022)، الذي حررته سارة نجييري. يُعد هذا الكتاب المشترك واحداً من الأعمال الرائدة التي تم نشرها في مجلة الأكاديمية البريطانية، في المجلد 10، العدد التكميلي 1، ويتناول موضوعات حيوية تتعلق بممارسات بناء السلام اليومية في سياقات متنوعة تتناول تجارب حية ومتنوعة لمجتمعات مثل: كينيا وجنوب السودان وصوماليلاند وغانا؛ مما يوفر فهماً مستوعبا للنماذج والطرق التي يتم من خلالها بناء السلام على الأرض، من خلال الجهود المجتمعية والسياسات المحلية.
” يحاول هذا الكتاب، من خلال أطروحته الأساسية، إعادة تصور لمفهوم "بناء السلام اليومي"، بحيث لا يُنظر إلى السلام بوصفه مشروعا ثابتا ومركزيا تتحكم فيه الدولة وحدها، بل يُفهم بوصفه عملية ديناميكية مُعاشة متجذرة في السياقات المحلية والتفاعلات اليومية“.
يمثل كتاب "بناء السلام اليومي وممارسته في كينيا وجنوب السودان وصوماليلاند وغانا" (2022) الذي حررته سارة نجييري، خطوة مهمة نحو إعادة التفكير في مفهوم بناء السلام في السياقات التي لا يزال فيها النزاع والصراع أحد التحديات الكبرى. تفتح المساهمات النقدية - التي قدمها مجموعة من الباحثين المتخصصين في هذا العمل - آفاقًا جديدة لفهم ديناميات السلام، في المجتمعات المتوترة سياسيًا واجتماعيًا، وتؤكد على الدور الحيوي الذي تؤديه الممارسات اليومية في بناء الأمن والاستقرار.
لعل أحد المفاتيح المهمة التي يطرحها هذا العمل هو استبدال النماذج التقليدية لبناء السلام - التي تركز عادة على المبادرات الكبرى التي تنظمها النخب أو الدول - بالنماذج التي تستند إلى المجتمع المحلي والممارسات اليومية.
يشير الكتاب في غير ما مناسبة إلى أن هناك طرقًا متنوعة لخلق بيئات سلمية، لا تقتصر على المعاهدات أو الحلول السياسية العليا، بل تتجسد في الأنشطة اليومية التي يقوم بها الأفراد والجماعات في مجتمعاتهم. من هذه الأنشطة، على سبيل المثال، الطقوس التقليدية والسرديات الشعبية والمشاركات المجتمعية التي تعمل على تهدئة التوترات، وبناء جسور من الثقة بين الأفراد والجماعات في ظل الظروف القاسية.
ما يميز هذا الكتاب - أيضا - هو التركيز على تجارب حية لمجتمعات مثل: كينيا وجنوب السودان وصوماليلاند وغانا، بوصفها تجسيدا لمفهوم "السلام اليومي"؛ ولعل هذه التجارب جواب عملي عن مدى تأثير العادات والممارسات الثقافية على عملية التفاعل الاجتماعي والعدالة المجتمعية. ففي هذه البلدان، يجد الناس طرقًا مبتكرة وفعالة لحل النزاعات والتعامل مع الصراعات المستمرة بشكل يومي، بعيدًا عن الحاجة إلى سلطة عليا سواء كانت دولة أو غير منظمة. إن هذا السلام اليومي ليس دائمًا مرئيًا أو معترفًا به في الخطاب الرسمي، لكنه يقدم حلولًا فعالة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل مجتمع.
خلافا للرأي السائد، فإن الترويج لمفهوم السلام ينبع من داخل المجتمع – يؤدي فيه الأفراد دورًا محوريًا – جدير بخلق بيئة سلمية في مجتمعاتنا المدروسة. يقدم الكتاب وصفًا غنيًا ومعقدًا لهذه الممارسات التي يمكن أن تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تحمل أبعادًا عميقة تكشف عن تعقيد العمليات الاجتماعية والنفسية التي تُشكل عملية بناء السلام.
يحاول هذا الكتاب، من خلال أطروحته الأساسية، إعادة تصور لمفهوم "بناء السلام اليومي"، بحيث لا يُنظر إلى السلام بوصفه مشروعا ثابتا ومركزيا تتحكم فيه الدولة وحدها، بل يُفهم بوصفه عملية ديناميكية مُعاشة متجذرة في السياقات المحلية والتفاعلات اليومية.
يطرح الكتاب فكرة أساسية مفادها أن السلام لا ينبغي أن يُفهم كمعطى فوقي، أي كتوجيهات تفرضها النخب أو الجهات الخارجية، بل يجب أن يُعتبر ناتجًا من داخل المجتمعات نفسها، حيث تنبثق ممارسات السلام من الجذور المحلية، وتتمثل في تفاعلات الأفراد والجماعات في حياتهم اليومية. هذه المقاربة تسلط الضوء على أهمية الاعتراف بقدرة المجتمعات المحلية على بناء السلام، بأساليب قد تكون أبسط من التدخلات السياسية أو العسكرية، فعّالة في دعم الأمن والاستقرار على المستويين الاجتماعي والثقافي. تعيد هذه الفكرة تقديم السلام بوصفه جزءا من الممارسات اليومية التي تقوم بها المجتمعات، حيث يشكل كل فعل بسيط في الحياة اليومية، مثل الاحتفالات الثقافية أو النقاشات الاجتماعية أو الحلول المحلية للمشاكل، جزءًا من عملية بناء السلام المستدام.
كما توضح سارة نجييري في الفصل التمهيدي من الكتاب، فإن "اليومي" لا يمثل خصيصة ثابتة/جوهرية، بل مجرد مرجع يوجه الطريقة التي يتعامل بها الأفراد والجماعات مع التحديات اليومية التي تواجههم في بيئاتهم المحلية. من خلال هذا المنظور، يمكن للباحثين والممارسين أن يتطلعوا إلى ممارسات بناء سلام من خلال "العوالم الصغيرة" للمجتمعات المحلية، وهي الممارسات التي غالبًا ما تُغفل أو تُهمش بسبب التركيز المفرط على السرديات الكبرى المتعلقة ببناء الدولة أو التدخلات الدولية. بذلك، يصبح "اليومي" أداة قوية لفهم كيفية تشكيل السلام في سياقات غير مرئية أو غير معترف بها من قبل السرديات الرسمية التي تركز على النماذج العالمية أو المؤسسات الدولية.
يعتمد هذا النهج عادةً على أفكار ليبرالية مثالية، تربط بين الديمقراطية والتحرير الاقتصادي وسيادة القانون بهدف إنشاء سلام مستدام. لكن كما يوضح الكتاب، فإن هذا النموذج غالبًا ما يكون غير فعّال في سياقات ما بعد النزاع، حيث يمكن أن يزيد من تعقيد الوضع بدلاً من تحسينه. في العديد من الحالات، قد تتسبب هذه التدخلات في تهديد استقرار المجتمعات الانتقالية الهشة، لأنها تفرض حلولًا خارجية، قد لا تكون – بالضرورة - متوافقة مع الواقع المحلي أو احتياجات السكان.
تبرز في هذا السياق القيود المفاهيمية لبناء سلام يركز على الدولة، حيث يتم الخلط بين عمليات بناء السلام وبناء الدولة وإصلاحات الحكم، مما يتسبب في تجاهل المبادرات الشعبية والممارسات الثقافية التي تعزز مرونة المجتمع.
إنه بدلاً من أن يُنظر إلى السلام، بحسبانه هدفا أعلى، تُنفّذ من خلاله الإصلاحات المؤسساتية، يُفهم باعتباره عملية مستمرة تقوم على الأسس المحلية التي تضمن التفاعل بين الأفراد والجماعات، بما يتناسب مع خصوصيات كل مجتمع.
لا تقتصر، هذه المقاربة، على تقديم نموذج أكثر شمولية لفهم بناء السلام، بل تفتح أفقًا لتطوير حلول أكثر حساسية للسياقات الثقافية والاجتماعية الخاصة بكل مجتمع، مما يعزز استدامة السلام، ويسهم في المصالحة الحقيقية.
يقدم كل فصل في الكتاب، رؤى تجريبية غنية حول الممارسات المتنوعة لبناء السلام اليومي في سياقات مختلفة، مما يعكس كيفية تنقل الفاعلين المحليين، وتفاوضهم حول السلام في بيئاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية المحددة. تنوع يسلط الضوء على الطرق التي يتم من خلالها تشكيل السلام في المجتمعات التي لا تقتصر تجربتها على النزاعات الكبرى التي تديرها الدول، بل تشمل أيضًا التفاعلات اليومية بين الأفراد والجماعات.
في فصل بعنوان "سردية السلام والأمن اليومي: واقع حياة نساء صوماليلاند ميدانا للنزاع" لصاحبته سهام ريالي، تركز على دور النساء في بناء السلام في صوماليلاند، خاصة في فترة ما بعد الحرب الأهلية. يعرض الفصل كيف يتم تجاهل وساطة النساء في معظم عمليات السلام الرسمية، رغم أنهن يشكلن جزءًا محوريًا في تحقيق الاستقرار داخل مجتمعاتهن. توضح ريالي، عن طريق مقاربة سردية للتاريخ الشفوي، أن النساء في صوماليلاند يعتمدن على الممارسات الثقافية والشبكات الاجتماعية غير الرسمية لتحقيق السلام. على سبيل المثال، يُستخدم الشعر وفن السرد وسيلةً فعالة لتحدي الأعراف الأبويّة، وتقديم رؤى بديلة للسلام.
تُظهر هذه الدراسة كيف أن النساء يُعبّرن عن تجاربهن عبر وسائل ثقافية في بيئة تتمتع بتقاليد عميقة، مما يجعل من "السلام اليومي" ركيزة أساسية في تفعيل دورهن في مجتمعاتهن. وتؤكد ريالي على أن استبعاد أصوات النساء من المفاوضات الرسمية للسلام يُعدُّ خطأ كبيرًا، حيث أن تجاربهن الحياتية وتفاعلهن مع المجتمعات توفر رؤى لا غنى عنها لفهم تعقيدات السلام والأمن، وتعزز ضرورة إدماج المنظورات الجنسانية في أي جهود لبناء السلام.
في فصل بعنوان "السعي إلى تحقيق السلام المستدام في جنوب السودان: دور الممارسات الدينية اليومية والاحتفالات والطقوس في بناء سلام قوي" تسعى الباحثة ويني بيديغين، إلى البحث في دور الممارسات الدينية اليومية والطقوس في جهود بناء السلام في جنوب السودان، حيث يتم التأكيد على أهمية الممارسات الدينية التقليدية التي غالبًا ما تُهمش في النماذج السائدة لبناء السلام، من خلال التركيز على طقوس مثل "هونيوميجي"، تُظهر بيديغين كيف يمكن أن تكون الطقوس الثقافية المحلية عاملاً حاسمًا في تعزيز المصالحة، وبناء الثقة في المجتمعات التي عانت من انقسامات وصراعات.
هذه الطقوس، التي تتجذر في التاريخ الديني والثقافي، تساعد في معالجة الخلافات بشكل يتماشى مع الهوية المجتمعية، مما يعزز قدرة المجتمعات على الشفاء واستعادة التماسك الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، تنتقد بيديغين التوجهات الخارجية التي تروج للممارسات السياسية والاقتصادية كأدوات رئيسية لبناء السلام، مشيرة إلى أن هذه الاستراتيجيات قد تتجاهل فعالية الحلول المحلية التي تتمحور حول القيم الثقافية والروحانية. تحث على تبني نهج أكثر شمولية، يأخذ بعين الاعتبار هذه الأبعاد الروحية والثقافية، مما يساهم في بناء سلام مستدام ومتكامل.
في فصل بعنوان "بناء السلام اليومي بين الغانيين (الرجال خاصة): الغموض والمقاومة والإمكانيات" يقدم كل من ديري وكوثبرت باتار وأنيس الرحمن خان صورة بانورامية يتم من خلالها مقاربة العلاقة بين الذكورة وبناء السلام في غانا، حيث تناولوا تفاعل الرجال مع ممارسات السلام غير العنيف. يكشف هذا الفصل عن الغموض والمقاومة التي تواجهها بعض الفئات الذكورية في المشاركة الفعّالة في بناء السلام، حيث يُنظَر إلى الذكورة غالبًا كمصدر للعنف أو الاضطراب.
لكن المؤلفين وجهوا نقدًا لهذا التصور، مشددين على أن فهم الذكورة بوصفها ظاهرة معقدة، يتطلب الانتباه إلى الأدوار المتنوعة التي يمكن أن يلعبها الرجال في عمليات بناء السلام. من خلال التحليل النقدي لهذه الديناميات، يتم التأكيد على أهمية البحث عن الطرق التي يمكن أن يُساهم بها الرجال في نشر ثقافة السلام والمساهمة في تعزيز الاستقرار في المجتمعات.
في فصل بعنوان "الممارسة الإعلامية اليومية ونشاط السلام في المجتمعات المستقطبة عرقيا" يسلط زكريا تشيلسوا الضوء على الدور المحوري الذي يؤديه الإعلام في تعزيز السلام داخل المجتمعات العرقية المنقسمة في كينيا. يقدم تشيلسوا تحليلاً مفصلاً حول كيفية استخدام الممارسات الإعلامية اليومية، مثل: الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، في تيسير سبل الحوار بين المجتمعات المختلفة وتعزيز الفهم المتبادل. هذا الفهم الجديد لوسائل الإعلام يشكل تحديًا للنماذج التقليدية لبناء السلام التي تركز غالبًا على التدخلات المؤسساتية الرسمية، ويظهر كيف يمكن للإعلام أن يكون أداة فعالة لإيجاد مسارات بديلة لحل النزاعات، وتعزيز المصالحة في بيئات معقدة ومتنوعة.
يبرز تحليل تشيلسوا الإمكانيات التحويلية للإعلام كأداة قوية للتغيير الاجتماعي، حيث يُظهر كيف يمكن للإعلام اليومي أن يعمل على تضخيم أصوات الفئات المهمشة، مثل الفقراء أو الأقليات العرقية، الذين غالبًا ما يُستبعدون من الحوار الرسمي حول السلام. من خلال هذه الممارسات، يُمكن للفئات الأقل تمثيلًا أن تُعبّر عن رؤاها وأصواتها في سياقات محلية تتسم بالتوتر والصراع، مما يعزز المشاركة المجتمعية ويدعم مبادرات السلام الشعبية. في هذا السياق، يتعامل الكتاب مع الإعلام ليس فقط كأداة للاتصال، بل كأداة للتغيير الاجتماعي الفعّال، قادرة على ربط الأطراف المتنازعة وخلق فضاء للتفاعل البناء الذي يساهم في تعزيز ثقافة السلام.
إن كتاب "بناء السلام اليومي وممارسته في كينيا وجنوب السودان وصوماليلاند وغانا" بفصوله المذكورة يكون قد ساهم في توسيع دائرة النقاش حول بناء السلام، متجاوزا التركيز التقليدي على الحلول السياسية النخبوية أو التدخلات الخارجية، ومؤكدا في الآن ذاته على أهمية التجارب المحلية والممارسات الثقافية التي تسهم في عملية السلام اليومية.
لا جرم أن الكتاب يقدم نقدًا قويًا للنهج الليبرالي التقليدي في بناء السلام الذي يعتمد على أساليب فوقية "من الأعلى إلى الأسفل"، حيث يتم فرض الحلول والقرارات من قبل أطراف خارجية أو نخب محلية دون مراعاة للواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمعات المتأثرة. أساليب، رغم ما تحقق من نتائج جزئية، تبقى غالبًا عرضة للفشل في الاستجابة للتحديات المتنوعة التي يواجهها السكان المحليون، وتبتعد عن المعالجة الحقيقية لاحتياجاتهم. لذلك، يعارض الكتاب هذا النموذج أحادي البُعد، ويقترح بدلاً منه نهجًا تعدديًا يتسم بالحساسية العميقة للسياقات المحلية والثقافية، وهو ما يعد من أهم نقاط تميز الكتاب في بحثه عن حلول فعالة لبناء السلام.
ومن خلال توثيق التجارب اليومية لمجموعات مهمشة، مثل النساء والمجتمعات الأصلية والنشطاء المحليين يؤكد الكتاب في مجمله على ضرورة إعادة تصور معنى "السلام" في القرن الحادي والعشرين، بعيدًا عن التصورات التقليدية التي تربط السلام بالاستقرار السياسي أو الاتفاقات الدبلوماسية فحسب.
في الختام، لا شك أن هذا الكتاب بمثابة مصدر أساسي للباحثين والممارسين وصناع القرار السياسي الذين يسعون لفهم تعقيدات بناء السلام في سياقات مختلفة ومتنوعة. فهو يعرض رؤية جديدة لكيفية بناء السلام، من خلال الاعتراف بالقدرات المحلية والخصوصيات الثقافية، وتوجيه الانتباه إلى أهمية ممارسات الأفراد والجماعات في تأكيد السلام كمفهوم يتجاوز النطاقات التقليدية ويصل إلى الحياة اليومية للناس.