تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

بعد وفاة البابا فرنسيس: هل تتربع أفريقيا على عرش الفاتيكان؟

23 أبريل, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

أثار خبر وفاة البابا فرنسيس، يوم 21 أبريل/نيسان 2025 في روما، صدىً واسعًا في القارة الأفريقية. من أبيدجان إلى كينشاسا، ومن بانغي إلى نيروبي؛ تتابعت فور إعلان وفاته رسائل التعزية والتكريم لرجل دين استطاع - خلال قرابة اثنتي عشرة عامًا من قيادة الكنيسة - أن ينسج علاقة فريدة بين الكنيسة الكاثوليكية والمجتمعات الأفريقية. ببساطته، ودفاعه الصريح عن الفقراء، والتزامه المتواصل من أجل السلام، تجاوز تأثير فرنسيس حدود الكاثوليك. ففي أفريقيا الوسطى، لا يزال يُذكر بتحديه الحرب ليزرع بذور الصلح والسلام، وفي الكونغو الديمقراطية، كان الصوتَ الجريءَ الذي انتقد الاستعمار الجديد، ودعا المجتمع الدولي إلى "رفع يده عن الكونغو".
بوصفه أول بابا من نصف الكرة الجنوبي، جعل الأرجنتيني خورخي ماريو برغوليو من أفريقيا محورًا لرسالته. زار القارة خمس مرات، وشملت زياراته عشر دول، أقام فيها قداسات حضرها الملايين، ووضع كرامة المهمّشين في قلب خطابه. في كلماته وأفعاله، ظهرت أفريقيا أولوية أخلاقية وروحية.
لكن اليوم، وبعد هذا التقدير الرمزي والعاطفي، يبرز تساؤل جديد: هل الكنيسة الكاثوليكية مستعدة فعليًا لاختيار بابا أفريقي؟ رغم أن نحو 20٪ من الكاثوليك في العالم يعيشون في أفريقيا – أي حوالي 250 مليون شخص – لم يتم انتخاب أي أفريقي حتى الآن لمنصب البابا. سؤال يطرح نفسه بإلحاح، خصوصا وأن الكنيسة تصف نفسها بـ"الكونية"، والدعوات الكهنوتية الأفريقية في تزايد، كما تلعب الأبرشيات في أفريقيا دورًا محوريًا في التعليم والثقافة والمجتمع. ورغم ذلك، لا يزال مركز القرار بعيدًا عن القارة.


تتجلى فجوة لم تعد محض مفارقة، بل أصبحت سؤالًا وجوديًا لرسالة كنسية تدّعي الكونية، لكنها لا تزال أسيرة منطق المركز الأوروبي في الزمان والمكان


هذا التفاوت يطرح سؤالًا: هل "الكونية" الكاثوليكية قادرة على مساءلة مركزيتها الغربية؟ وهل بوسعها الانتقال من الاعتراف الرمزي بأفريقيا إلى تمكين فعلي ومؤسسي لأصواتها وتجاربها؟ إن التمثيل ليس فقط مسألة عدد أو توازن جغرافي، بل هو أيضًا تجلٍّ لهيكل السلطة والمعنى في بنية الكنيسة. وفي هذا السياق، يبدو أن الكاثوليكية الكونية لم تتحرر بعد من إرثها الكولونيالي، حيث لا تزال تُدرِج الآخر – حتى حين تعبّر عن انفتاح عليه – في موقع التابع أو المحتفى به، لا الشريك الندّي في بناء التصورات اللاهوتية والخيارات المصيرية.
ففي كل مرة يُطرح فيها اسم مرشح بابوي من أفريقيا، يعود الخطاب الكنسي التقليدي ليؤكّد على "الخبرة" أو "الاستمرارية" أو "التوازن"، وكأن القارة لا تزال على هامش التاريخ الكنسي، غير مؤهلة لقيادة مشروع كوني في لاهوته ورسالته. وهنا تتجلى فجوة لم تعد محض مفارقة، بل أصبحت سؤالًا وجوديًا لرسالة كنسية تدّعي الكونية، لكنها لا تزال أسيرة منطق المركز الأوروبي في الزمان والمكان.
لم يعد هذا الغياب مقبولًا بالنسبة للكثيرين. ليس من باب التمثيل الجغرافي، بل لأن كاثوليكية القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تكتمل دون حضور مباشر للكنائس الأفريقية في هرم القيادة. الكاردينال ديو دونيه نزابالينغا، رئيس أساقفة بانغي، عبّر عن ذلك بقوة: "فرنسيس ترك إرثًا من الأخوّة والتواضع. ويجب على الخلافة ألا تكتفي فقط بحمل هذا الإرث، بل قد تكون فرصة، ولأول مرة، لتجسيد هذا الروح في اختيار بابا من القارة التي أحبها بصدق".

دبلوماسية روحية من أجل السلام والمصالحة

إن زيارات البابا فرنسيس إلى أفريقيا عكست توجهًا واضحًا لمرافقة شعوب تبحث عن السلام، في ظل صراعات داخلية وتوترات اجتماعية. منذ زيارته الأولى عام 2015 إلى كينيا وأوغندا وأفريقيا الوسطى، رفع البابا صوته ضد الفقر والعنف والانقسامات العرقية. وفي بانغي، افتتح "الباب المقدس" ليوبيل الرحمة قبل موعده، محولًا طقسًا دينيًا إلى رسالة سياسية رمزية للقارة بأكملها.
في عام 2019، زار موزمبيق ومدغشقر وموريشيوس، حيث وصف نفسه بـ"حاجّ السلام والرجاء"، داعمًا جهود المصالحة بعد النزاعات المسلحة، ومشجعًا المبادرات المحلية للتضامن، ومبرزًا القيم المجتمعية كأساس للعيش المشترك.


هل "الكونية" الكاثوليكية قادرة على مساءلة مركزيتها الغربية؟ وهل بوسعها الانتقال من الاعتراف الرمزي بأفريقيا إلى تمكين فعلي ومؤسسي لأصواتها وتجاربها؟ إن التمثيل ليس فقط مسألة عدد أو توازن جغرافي، بل هو أيضًا تجلٍّ لهيكل السلطة والمعنى في بنية الكنيسة


بلغت هذه الدبلوماسية الروحية ذروتها في عام 2023 خلال الزيارة التاريخية المشتركة إلى جنوب السودان، إلى جانب قيادات الكنيسة الأنجليكانية والمشيخية. كانت رسالة نادرة وواضحة لدعم السلام في بلد مزقته الحرب الأهلية، ودعوة حازمة لرفض الفساد والاتجار غير المشروع. في فكر فرنسيس، السلام ليس مجرد هدف سياسي، بل واجب إنجيلي وجوهر للرسالة المسيحية.
لقد شكل الحوار بين الأديان ولا يزال خصوصًا مع الإسلام، أحد المحاور الأساسية في السياسة الدينية للبابا فرنسيس في أفريقيا. حيث إن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الديانات، وإن أقرب الديانات إلى المسيحية هو الإسلام؛ نظرا للعديد من الجوانب المشتركة بين الديانتين، لا سيما على صعيدي العقائد والأخلاق.
شارك عام 2017، في مؤتمر دولي للسلام في مصر نظّمته جامعة الأزهر، أعلى مرجعية في الإسلام السني، إلى جانب الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب. وشكّلت هذه الزيارة نقطة تحوّل في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، خاصة في ظل تهديدات الإرهاب.  تعد هذه الزيارة الأولى من نوعها منذ 17 عاما، عندما زار البابا يوحنا بولص الثاني مصر عام 2000، بهدف  تعزيز العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والمسيحيين الأرثوذوكس في مصر، وتعزيز الحوار بين الأديان. وحرص بابا الفاتيكان خلال زيارته لمصر على أن يُردّد عبارة الدين لله والوطن للجميع باللغة العربية، ووصف مصر بأرض اللقاء بين السماء والأرض والعهود بين البشر والمؤمنين.


في فكر فرنسيس، السلام ليس مجرد هدف سياسي، بل واجب إنجيلي وجوهر للرسالة المسيحية


تواصل هذا المسار الحواري في المغرب، عام 2019، بلقاء رمزي جمعه بالملك محمد السادس، ووقّع خلاله الطرفان معًا نداءً مشتركًا للحفاظ على القدس بوصفها مكان للتعايش السلمي. لم تكن مجرد زيارة دبلوماسية، بل لحظة روحية وإنسانية فارقة؛ استقبال حافل في ساحة مسجد حسان بالرباط، وخطاب الملك لملك المغرب الذي أكد على أهمية التربية الدينية في مواجهة التطرف، مبرزاً نموذج المغرب الوسطي المعتدل، كلها شكلت مقدمة للحظة الأكثر رمزية. لقد أكد البابا من خلال هذا اللقاء على دور الأديان في الدفاع عن كرامة الإنسان وتعزيز العدالة، ورفض كل منطق يقوم على الإقصاء الهوياتي.
أما في موريشيوس، فقد اتخذ الحوار بين الأديان شكلًا مختلفًا، تجلّى في نموذج منسجم للتعايش بين طوائف دينية وثقافات متعددة. وقد أشاد فرنسيس بهذه التعددية، واعتبرها مصدر غنى لا عائقًا، داعيًا إلى بناء مشروع مشترك يقوم على قيم الاستقبال والديمقراطية.

كنيسة منخرطة في التحديات الاجتماعية والبيئية لأفريقيا

لم تقتصر السياسة الدينية للبابا فرنسيس في أفريقيا على الخطابات الداعية إلى السلام أو الرموز الدينية، بل تجسّدت في التزام ملموس بقضايا القارة الاجتماعية والبيئية. لم يتردد في إدانة استغلال الموارد الأفريقية من قبل قوى أجنبية، كما فعل في الكونغو الديمقراطية، حيث وصف أفريقيا بأنها "ماسة تحوّلت إلى وقود نزاع ". وفي ذلك السياق، وجّه نداءً ضد الاستسلام، داعيًا إلى الوحدة، والكرامة، والسيادة الأفريقية.
وفي روح رسالته العامة "كن مسبّحًا" Laudato si’دافع البابا عن مفهوم "البيئة المتكاملة"، الذي يربط بين احترام الخليقة وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد برز هذا التوجه بشكل خاص خلال زيارته إلى مدغشقر، حيث شدّد على ضرورة الموازنة بين التنمية والتضامن وحماية البيئة.
كما سلّط فرنسيس الضوء على الدور المحوري للمرشدين الدينيين (الكتّاب الكنسيين) والجمعيات الخيرية والمجتمعات المحلية، واعتبرها أدواتا فاعلة في التغيير الاجتماعي. وقدّم الكنيسة فاعلا في ميادين التعليم، والصحة والاقتصاد، خاصة في خدمة الشباب والفقراء والمهاجرين.


إن التمثيل الديني ليس فقط مسألة عدد أو توازن جغرافي، بل هو أيضًا تجلٍّ لهيكل السلطة والمعنى في بنية الكنيسة


إن زيارة البابا فرنسيس إلى أفريقيا لا تندرج فقط في إطار رعاية رعوية قريبة من الناس، بل تعبّر عن رؤية دينية ذات بُعد سياسي عميق، تقوم على ثلاثة ركائز: السلام والحوار بين الأديان والانخراط الاجتماعي. وقد سعى البابا من خلال هذه الزيارات، إلى جعل الكنيسة فاعلًا أخلاقيًا في مواجهة التحديات الأفريقية، دون العودة إلى منطق التبشير الاستعماري القديم.
لقد كانت لفتة قائمة على الاستماع والتضامن والاحترام، حيث يصبح الإيمان مصدرًا لبناء عالم أكثر عدلًا وإنسانية. لكن وفاة البابا فرنسي القادم من دولة محسوبة على الجنوب، تكشف عن توتر لا تزال الكنيسة الكاثوليكية عاجزة عن تجاوزه: كيف يمكن الادّعاء بالكونية، بينما تظل قمة الهرم الكنسي محتكرة من قبل مركز أبيض وأوروبي؟ فرغم أن أفريقيا تشكّل اليوم ركيزة ديموغرافية وروحية ولاهوتية للكاثوليكية العالمية، فإنها لا تزال مهمّشة في خارطة السلطة الرمزية.
لقد تحدّث فرنسيس إلى الهوامش، لكنه لم يغيّر موقع المركز فعليًا. إن السؤال عن خليفته لن يكون كنسيًا فحسب، بل جيوسياسيًا وأخلاقيًا أيضًا. فطالما بقي "البياض" هو المعيار الصامت للشرعية البابوية، ستظل كونية الكنيسة أفقًا متوقعا، لا واقعًا مُتحقّقًا.