تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 23 يونيو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سينما

باتريس لومومبا سينمائيًا: المسيح الأسود وعالم مايو 1968

25 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

كانت المشاهد القصيرة للممثل الأفروأمريكي وودي سترود (ت. 1994) في الفيلم الأمريكي الأيقوني جماهيريًا "سبارتكوس" (1960) دالة على عمق تطلُع الإنسان الأفريقي/ الأسود (صديق البطل "كيرك دوجلاس") للحرية، حتى لحظة استشهاده في سبيلها في حلبة المصارعة؛ دافعة بقوة  لبروز أكبر لاسم سترود في عالم السيما. 
إذ كان الفيلم، وهو من إخراج المخضرم ستانلي كوبريك (ت. 1999)، منتجًا مثاليًا لسينما هوليوود، وبسيناريو محكم ظل صارمًا تمامًا منذ كتابته، رغم تعاقب مخرجان مختلفان تمام الاختلاف فنيًا على تنفيذه، إذ جاء كوبريك  بعد انسحاب أنتوني مان من الفيلم عقب أسبوع واحد من التصوير. إذ رفض دوجلاس، باعتباره منتجًا للفيلم إلى جانب بطولته إياه، أية تعديلات محتملة على سيناريو فيلمه، الذي اعتبره كوبريك لاحقًا (من) أقل أفلامه ارتباطًا بأسلوبه وروحه وفكره. 
لقد بات لهذا الفيلم الهوليوودي أكبر الأثر في اختيار المخرج الإيطالي فاليرو روزيليني لسترود للإضطلاع ببطولة فيلمه الأبرز "المسيح الأسود" (1968)؛ وهو عمل سينمائي تمتع برمزية راديكالية للغاية، من قبل مخرج شيوعي ينظر للعالم وصراعاته نظرة شمولية، وقد عُرض فيما كانت أحداث مايو/آيار 1968، التي وصفها البعض بالشيوعية، تضرب فرنسا وتتردد أصداؤها في أرجاء تجمعات شباب العالم. 
تضمن الفيلم تناصًا مذهلًا بين حياة المسيح في أيامه الأخيرة، وحياة الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا، بعد وقوعه في يد السلطات المحلية والبلجيكية؛ منتصف يناير/ كانون الثاني 1961، عبر تناول مأساة الساعات الأخيرة لموريس لالوبا؛ الذي قام بدوره سترود: الأفريقي المناضل سلميًا في سبيل حرية بني وطنه، قبيل تصفيته بعد محاكمة صورية.

"موريس لالوبا": تحت وطأة شريعة الكهنة

حضر تجسيد شخصية السيد المسيح في السينما منذ بداياتها المبكرة، وتطورت رمزية هذا التجسيد بشكل واضح لتشير إلى مقاصد أخرى، تعكس في مجملها الأفكار الثقافية والدينية الأمريكية- الأوروبية، دون أن يعمد أغلبها، حسب لويد بوغ، إلى تصوير المسيح فلسطينيا يهوديا ينتمي للقرن الأول للميلاد، وهي ملاحظة يسهل برهنتها من خلال إظهار المسيح في هذه الأفلام في هيئة سمات أنجلو-سكسونية وليست فلسطينية. 
قُدمت قصة المسيح في المقابل بشكل مغاير تمامًا لهذه الرواية "الغربية"، في فيلم زورليني "المسيح الأسود". فقد صُور الفيلم (الذي يأتي في 82 دقيقة فقط) في ريف لاتسيو Lazio قرب روما، ودارت أحداثه، باستثناء مقدمته ومشاهده الختامية القليلة، في مقر لقوة من المرتزقة الأوروبيين الذي يعملون في خدمة الحكومة الأفريقية المحلية، وانحصرت في ثلاث غرف، وعلى مدار 24 ساعة فقط (موزعة على يومين).


تضمن الفيلم تناصًا مذهلًا بين حياة المسيح في أيامه الأخيرة، وحياة الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا، بعد وقوعه في يد السلطات المحلية والبلجيكية؛ منتصف يناير/ كانون الثاني 1961، عبر تناول مأساة الساعات الأخيرة لموريس لالوبا


تم سرد أحداث الفيلم بشكل مباشر، وبين شخصيات أربع رئيسة، منهما موريس لالوبا: البطل ومقاتل الحرية الأفريقي الملهم وصاحب الرسالة النبيلة؛ والذي اعتقلته الحكومة المحلية كونه مثل تهديدًا لها. وتم الاعتقال بعد خيانة من أحد أتباعه، وبدعم كبير من قوة مرتزقة أوروبية عاونت القوات المحلية. وقام "عقيد" أوروبي باستجواب لالوبا وتهديده بالقتل، ثم تعذيبه تعذيبًا مفرطًا، قبل إصدار أحد الوزراء بالحكومة الأفريقية حكمًا بالإعدام على لالوبا، والذي تم تنفيذه عليه، وعلى اثنين من رفاقه في السجن في مكان ناء. 
قدم الفيلم، في محاولة لكسر الإيهام، وكذلك طرح قضية التحرر من الاستعمار بالسبل السلمية، تفصيلًا لأوجه الشبه بين باتريس لومومبا ولالوبا، ربما أبرزها اسم كل منهما: باتريس لومومبا، وموريس لالوبا؛ ودعوتهما للمقاومة غير العنيفة لتحقيق التحرر (سواء السياسي أم الإنساني بشكل عام). كما واجه لالوبا معارضة من بين بني وطنه الأفارقة قبل اعتقاله وتعذيبه على يد مرتزقة أوروبيون، ومقتله على يد رفاقه الأفارقة، على نحو يعكس بدقة تفاصيل مصرع لومومبا (فبراير/شباط 1961). 
لقد أبدى زورليني تعاطفًا كبيرًا مع شخصية لالوبا؛ فقد أظهره منذ اللقطات الأولى بشكل قوي ونبيل، يتمتع بإطلالة تفوق كافة الوجوه في حضرته؛ وقد عمد زورليني إلى ترك لابولا يوجه بصره مباشرة نحو الكاميرا والمشاهد بغرض تحقيق تفاعل شعوري أعمق، في مقابل تهميش بصري أوضح للخونة و"الكهنة" الأفارقة الذين أيدوا الاستبداد والقمع تحت لافتة "الشريعة"، وبوسيلة خدمة المرتزقة البيض، في مأساة نيتشوية بامتياز. 
يتسق الفيلم تمامًا مع مشروع زورليني السينمائي، إذ كان المخرج الإيطالي عضوًا في الحزب الشيوعي الإيطالي، كما حرص على كتابة نصوص أفلامه بنفسه على مدار قرابة العقدين (1954-1976)؛ مما يعزز فكرة أدلجة سينماه، وحديثه الشاعري عن آمال العالم أجمع (وفي حالة المسيح الأسود حالة أفريقيا)، كما أن تناوله ترك أثرًا لا تخطئه العين على مخرجين إيطاليين آخرين أبرزهم برناردو برتولوتشي (في فيلمه "قبل الثورة" – 1964). وهكذا يمكن وضع رؤية "المسيح" الأسود في سياق نقد زورليني للاستعمار، والنخب المحلية الداعمة له حيثما حلت.

المسيح الأسود وعالم مايو 1968

تقرر عرض فيلم المسيح الأسود في مهرجان كان مايو 1968 في مسار مسابقته الرسمية؛ لكن باريس كانت تموج قبل الموعد المحدد للمهرجان بحركة احتجاجات غير مسبوقة في شوارعها؛ ربما منذ أحداث الثورة الفرنسية، قبل نحو قرنين من الزمان. وكان من تداعيات هذه الاحتجاجات تعليق دورة "كان"، ومن ثم عدم عرض الفيلم في فرنسا. 
بأي حال فإن الفيلم، ومضمونه "الرسولي" أو الرويؤي إن جاز التعبير، لم يكن بمنأى عن طبيعة الاحتجاجات الفرنسية وغاياتها؛ إذ كانت باريس تعج بأفكار نفاق العالم الغربي الرافض للعنف الذي تمارسه قوى المقاومة لاستعماره أو بقايا استعماره في آسيا وأفريقيا على حد السواء مع نهاية الستينيات. 
يمكن إيجاز هذا النفاق في وصف دانيال سينجر (في مؤلفه الرائد حول هذه الأحداث- Prelude to Revolution: France in May 1968 الصادر في العام 1970): "إن حكامنا والناطقين باسمهم باتوا غانديين بين عشية وضحاها؛ هناك (تفرقة بين) عنف وعنف، إن ملايين القنابل الملقاة على فيتنام بمثابة أهيمسا هندية، أو مقاومة غير عنيفة؛ وكذلك الأمر بخصوص مئات الآلاف من القتلى الموصومين بالشيوعية في إندونيسيا كحادثة لإعادة إرساء الديمقراطية؛ وأن قوات المظلات الأمريكية المرسلة لجمهورية الدومينكان هم رسل الحرية. وأن الرجال الذين يدعمون الأبارتهيد في جنوب أفريقيا عبر استثماراتهم القانونية بشكل تام هم "رجال محترمون"، بينما يوصم الطلاب الذين يسعون لمنعهم من فعل ذلك بأنهم "قطاع طرق فاشيون". قبل أن يلفت إلى أن نفس المعايير المزدوجة يتم تطبيقها محليًا (في فرنسا وفي أرجاء العالم الغربي).   


حضر تجسيد شخصية السيد المسيح في السينما منذ بداياتها المبكرة، دون أن يعمد أغلبها إلى تصوير المسيح فلسطينيا يهوديا ينتمي للقرن الأول للميلاد، وهي ملاحظة يسهل برهنتها من خلال إظهار المسيح في هذه الأفلام في هيئة سمات أنجلو-سكسونية وليست فلسطينية


كما تزامن إنتاج الفيلم وعرضه مع ما ماجت به فرنسا من أفكار فلاسفة، فرنسيون وناطقون بالفرنسية كُثر؛ تدين تمثلات الاستعمار الجديد، وهجمته التي تصاعدت في أواخر الستينيات على أفريقيا، واستمرار قمع شعوب العالم الثالث ونهبها؛ ومن بينها زائير، موطن لومومبا، التي كانت بلجيكا ولوكسمبورج تستأثران عام 1968 بنسبة 24٪ من واردات الأولى، تليهما ألمانيا الغربية وفرنسا بنسبة 10٪ لكل منهما والولايات المتحدة وكندا بنسبة 18٪، بينما استحوذت بلجيكا على نحو نصف صادرات زائير، تلتها إيطاليا وفرنسا. 
ارتبطت رسالة فيلم "المسيح الأسود" ضمنًا مع أجواء صيف 1968 الفرنسي، وأبعاده بالغة التأثير عالميًا في أفريقيا وغيرها، مع تراجع التوقعات المرجوة من حركة التحرر الأفريقي وحكومات مع بعد الاستعمار من وصف جان بول سارتر (1964) إن أعظم حدث شهدته البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين هو مولد الحركة القومية بين شعوب آسيا وأفريقيا" إلى طرح تساؤلات جادة بعد فشل احتجاجات 1968 الفرنسية في إحداث تغيير ملموس، في مستوى القمع والهيمنة ودينامياتهما المعقدة (بين المتروبول والأطراف، وداخل الأطراف في حالات أخرى) ضمن سياقات أخرى متنوعة لمطالب الحركة.

المسيح الأسود وآلام التحرر

وصف الناقد الاسكتلندي ديفيد كايرنس  فيلم "المسيح الأسود" بأنه ينقل واحدة من أكثر قصص البشرية بؤسًا برمزية سياسية/ دينية شديدة العذوبة؛ ووصف القصة بأنها "واحدة من أكثر القصص المحبطة والمرعبة التي قد يسمعها إنسان ما"، وأن زورليني بذل جهدًا واضحًا لجعل هذه القصة في صورة سينمائية، مستعينًا بسترود الذي يسكن عيناه حزنًا ملفتًا . وقد رأى كائرنس أن سترود قدم أفضل تجسيد رآه للمسيح في فيلم سينمائي، بوجهه المعبر ونظرته "التي توحي بحق بقدسيته". 


لئن جسد فيلم المسيح الأسود مأساة لومومبا، فإن هذه المأساة كانت حاضرة بقوة في تجارب أخرى لرواد حركات النضال والتحرر الأفريقي بمعنى انعتاق الإنسان في حد ذاته، ونضالًا فرديًا لتحقيق هذا الانعتاق بالفكر ونقد خطاب المستعمر ونخبه


حرص زورليني على الموازنة بين قصتيه: الخاصة بالمسيح والتي تحمل أملًا لطبيعته بالساس، ولومومبا في القرن العشرين والتي تعد قصة دموية للغاية، ويطرح فيلم المسيح الأسود وما أشار له لشهادة لومومبا، أن النضال سوف يستمر، وأن الجرائم التي تم تجسيدها في الفيلم لن تصبح منسية، وهي نهاية سعيدة للغاية لا يمكن الاحتفاء بها فيما تشهده جمهورية الكونغو الديمقراطية والقارة الأفريقية من ظروف بالغة القسوة: من مثل مقتل مئات الآلاف من المواطنين، وتشريدهم داخليًا، ونهب مواردهم، وتكريس الاستبداد بصور متجددة. 
ولئن جسد فيلم المسيح الأسود مأساة لومومبا، فإن هذه المأساة كانت حاضرة بقوة في تجارب أخرى لرواد حركات النضال والتحرر الأفريقي بمعنى انعتاق الإنسان في حد ذاته، ونضالًا فرديًا لتحقيق هذا الانعتاق بالفكر ونقد خطاب المستعمر ونخبه: مثل الجنوب أفريقي ستيف بيكو وفرانز فانون واميلكار كابرال، وغيرهم من مثيري خطابات الحرية، وممن عانوا من آلام التحرر حتى نهايتها.
وفي عالم اليوم، حيث يواجه الأفريقي في شتى أرجاء قارته استعبادًا بصورة أو أخرى، يبدو أنا لسنا بمنأى بعد عن الملاحظة الختامية لمرحلة صيف 1968 التي سبق أن طرحتها كريستين روس (May'68 and its afterlives, 2002)، في فصل دال عن "المفهوم الشرطي للتاريخ"، من أن "سقوط الاشتراكية وما حققته الرأسمالية بشكل واضح من هيمنة لا ينازعها عليها أحد يؤكدان أن عالم اليوم يختلف كلية عن عالم صيف 1968 لدرجة أنه بات من الصعوبة بمكان تخيل أنه كان ثمة عصر تصور فيه الناس العالم بشكل يختلف على نحو جوهري عن العالم الذي نعيش فيه". وبغض النظر عما توحيه الملاحظة من "نهاية صادمة للتاريخ"، فإن شعوب القارة السمراء لم تزل عالقة، بمعن مجازي وحقيقي، بين الظلمة والنور.