تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 9 أكتوبر 2024

رأي

أزمة الدولة في السودان: ما وراء جدل المركز والهامش؟

19 سبتمبر, 2024
الصورة
Sudan
الصورة: عبد المهيمن سيد، غيتي إيماجز
Share

تمثل الأزمة الراهنة في السودان نموذجًا معقدًا لأزمة الدولة الأفريقية بعد الاستقلال، مصحوبًا بتمثلات جوهرية تتعلق بجوهر عملية تكوين الدولة الحديثة نفسها، وفق حدودها الحالية، على مدار قرون عدة، لاسيما منذ مطلع القرن السادس عشر مع قيام سلطنة الفونج ثم الحكم التركي- المصري 1821-1885، وما عرف بالحكم الثنائي الإنجليزي المصري حتى استقلال السودان في العام 1956؛ وبروز إشكالات المركز والهامش في هذه العملية، وما شملته من صعود نخبة "وطنية" قادت النضال السوداني نحو الاستقلال واحتكرت السلطة، أو أسندتها، لاحقًا في مشروع وطني لم يحظ بإجماع مكونات المجتمع والدولة السودانية.

تمت مع ملاحظة أساسية، قدمها بروفيسور محمد جلال هاشم في مؤلفه Sudan At Cross Roads: A Pan-African Perspective (2019)، وهي أن سمة "الفيدرالية" في بناء الدولة السودانية لم تكن وليدة سياسات الحكم التركي المصري بل إنها بالأساس تقليد سوداني أصيل، منذ ما قبل قيام سلطنة الفونج، وإن بالغ هاشم في تعميق البعد التاريخي لتفسيره إلى نحو سبعة آلاف سنة، ووصفه "بالديمقراطية الأفريقية" (حيث تجتمع السيادة والحرية)، ومقابلتها بحضارة مصر المركزية (كدولة تحكم سيطرتها على المواطنين مثل العمل الإجباري في خدمة الحاكم/ الدولة) متجاوزًا البعد الجغرافي بالغ التباين في هذه المقارنة. 

يمكن أن تكشف تلك التمثلات، لاسيما بعد اختبار دقتها، عن عمق الأزمة الراهنة في السودان مضافًا لها بطبيعة الحال الاستقطابات الخارجية التي تؤججها، وتوظف فواعلها لخدمة سياسات استنزاف موارد السودان، ونهب سيادته ووحدته على المدى البعيد، وتتلاعب -عن وعي كامل وبناء على قراءة كولونيالية معمقة- بتباين الانتماءات والوعي داخل حدود دولة السودان.

في احتكار السلطة والحكم: على خطى "نظام نوفمبر"؟

واجه السودان في الفترة التي تلت سقوط نظام عمر البشير أزمة إدارة مستحكمة، لا يمكن إرجاعها فحسب لطبيعة المرحلة الانتقالية، بقدر ما كانت كاشفة عن فراغ مؤسساتي ملحوظ في بنى الدولة السودانية منذ استقلالها، خاصة في مجال الاقتصاد والإدارة. ناهيك عن مسألة تراجع الديمقراطية أو اختزالها في مراحل وجيزة دون ترسيخ حقيقي (مثل فترة الصادق المهدي 1986-1989). 

يمكن بلورة ذلك في مثال واضح، في تناقضه بقدر دلالاته، وهو فترة حكم الجنرال إبراهيم عبود (1958-1964)؛ فقد أدار هذا النظام الاقتصاد السوداني بقدر من النجاح، تجسد في ارتفاع منتظم لنصيب الفرد من الناتج المحلي، وتحقيق المستهدف المعلن من الخطط الاقتصادية التي أعلنها عبود عقب وصوله للحكم. لكن هذا النجاح لم يقابله قبول شعبي "إجماعي"، فقد انتقد الجنوبيون -لاسيما نخبهم- استبعاد كفاءاتهم من البيروقراطية المالية بعد وصول الجيش للسلطة، وتوجهوا بعدها، حسب رصد آلدن يونج Alden Young في مؤلفه Transforming Sudan (2018)، نحو دعم حركات المعارضة المسلحة في الجنوب، والتي كانت بدورها سببا رئيسيا في سقوط نظام عبود في عام 1964. 

كما أن الحكومة السودانية ومسؤوليها باتت مشغولة -حتى بعد سقوط نظام عبود- بإصلاح سياساتها الإدارية (كما في مسألة تسويق القطن في الأسواق العالمية) عن تحقيق التنمية الاقتصادية في بلد كان الأكبر مساحة في القارة الأفريقية، مما يبرز خطورة تضاؤل حجم الجهاز الإداري في السودان، وحدود قدراته الفعلية ومن ثم تراجع حضور "مؤسسات الدولة" بشكل مستدام.

كما رأت النخب السودانية في حالة ما بعد الاستعمار غياب كامل لواحدة من أهم أسس حركة التحرر والاستقلال، وهي الشمول بمعنى ان يكون للسوداني إسهام على قدر المساواة في الإمبراطوريتين البريطانية والمصرية (قبل الاستقلال) أو في إدارة بلاده بعد استقلالها، وهو الأمر الذي كان مستحيلًا بسبب عوامل العرق حسب يونج.   

الترابي والإنقاذ: جدل العائل والضيف

يثير الانتباه في الأزمة الراهنة في السودان تبادل مختلف الأطراف الاتهامات بدعم "القوى الإسلامية" لهذه الأطراف، ومن ذلك مثلًا تكرار اتهام قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلوا للجيش السوداني بأنه أداة في يد "الإسلاميين"، رغم الارتباطات العضوية لقواته بفريق من "الإسلاميين" في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، وداخل بعض حواضنه في مناطق دارفور.

لكن هذه الاتهامات ليست عارضًا جديدًا في الحالة السودانية، فأصوله تعود إلى نشأة جبهة الميثاق الإسلامي التي حلت محل "الإخوان المسلمون" عام 1965، وتولى أمانتها العامة حسن الترابي لدعم مشروع ثورة أكتوبر. وكان ملفتًا توجه الترابي للعمل الحركي بعد عودته من أوروبا، وتوليه لشهور قليلة عمادة كلية القانون في جامعة الخرطوم، بعيد استقالته من هذه العمادة، وكذا -حسب ملاحظة ذكية للغاية أوردها عبد الله غلاب في عمله الشهير عن سيرة الترابي Hasan al-Turabi, the Last of the Islamists 2018)- لغته التي يمتزج فيها السخرية بالتهكم، واستشهاد مفرط بآيات القرآن الكريم مختلطة ببعض المصطلحات العربية الحديثة، الأمر الذي وجد صدى لدى جمهور قليل الخبرة ووسائل الإعلام الأجنبية على حد سواء، وكذلك قدرة الترابي الفائقة على مخاطبة الجمهور الغربي بشكل واضح؛ وتفيد هذه الملاحظة في مقاربة أكثر دقة لعقلية الترابي باعتباره المنظر الأبرز للحركة الإسلامية في العقود التالية (حتى وفاته مارس/ آذار 2016)، ومدى قدرته على موازنة العلاقات بالسلطة العسكرية حتى في المراحل المفصلية في تاريخ السودان.

حضرت تجربة الترابي في ذروة جديدة من معضلة الدولة السودانية بوقوع "ثورة الإنقاذ"، عام 1989، بقيادة عمر البشير، الذي لم يثبت انتماؤه حركيًا أو أيديولوجيًا لتيار الإسلام السياسي أو جماعة الإخوان المسلمين تحديدًا. وفيما لا يمكن الفصل بدقة بين ماهية العائل والضيف في نظام الإنقاذ (1989 حتى 1999)، فإن مراقبين كثر – رصد رؤاهم و. ج. بيردج W. J. Berridge في مؤلفه Hasan al-Turabi: Islamist Politics and Democracy in Sudan, 2017-  رأوا في "الثورة" استيلاءً "إسلامويًا" على السلطة بواجهة الجيش السوداني، ووصفوا الترابي بأنه يحكم السودان "من منزله"، وأنه وقف وراء ممارسات القمع التي مارسها نظام الإنقاذ "مثل حرق الكنائس، وغارات الاسترقاق والإبادة في مرتفعات النوبا". بل إن الترابي رفض خلال عقد إحكام قبضته (1989-1999) الاعتراف بلعبه أي دور في الحكم، قبل اختياره رئيسًا للبرلمان السوداني عام 1996؛ مما يعزز تزايد التباس الأدوار المتبادلة بين الجيش والقوى الإسلامية في تلك الفترة.

لكن إحكام البشير قبضته على البلاد بعد كبح نفوذ الترابي وغيره من الشخصيات السياسية "الإسلاموية"، أو على الأقل تحييدها، يكشف عن رجحان كون الجيش وقيادته وعلى رأسها البشير، وحاضنته السياسية ممثلة بالأساس في كوادر حزب المؤتمر الوطني المؤدلجة لدعم حكم البشير بغض النظر عن خياراته السياسية، كانت العائل الصريح للتيار الإسلامي وليس العكس كما يشاع.

فك اشتباك المركز والهامش: نحو تفادي تفكك السودان؟

تظل إشكالية المركز والهامش واحدة من معضلات الأزمة المستدامة في السودان، طوال مراحل الحكم العسكري والاستثناءات الديمقراطية في دولة ما بعد الاستعمار. وقد وصلت هذه الإشكالية إلى مرحلة كاشفة في عام 2011، مع قيام دولة جنوب السودان، وقبلها وبعدها الأزمة المحتدمة في إقليم دارفور وفي خضم المرحلة الانتقالية الحالية التي تلت سقوط عمر البشير، في ربيع 2019، وترتيبات تقاسم السلطة والموارد، وربما في حال استئناف العملية السياسية للمرحلة الانتقالية.

طرح تلك المسألة، في إطار تنظيري أولي ربما يكون بحاجة إلى مراجعات وضبط أكبر، المفكر السوداني أبكر آدم إسماعيل في مؤلف وجيز بعنوان "جدلية المركز والهامش: قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان" (2020) باعتبار أن تلك المقاربة هامة في فهم الأزمة/ الصراع في السودان. وكان قوام فكرة إسماعيل دراسة المسألة، وفق سوسيولوجية المعرفة أو تفادي النمذجة على حد تعبيره،  "السناري هو السناري من 1502 إلى 1820"، وتفادي ما يراه تقاعد كتابة التاريخ عن الكشف عن المنطلقات الفكرية وحركة تطور المجتمع (بل) وإمعانها في الخصائص العرقية عن التاريخية للتصنيف" وتفادي خطل آراء المؤرخين المحليين. 

بغض النظر عن تقييم أو نقد فكرة إسماعيل التي تعبر -فيما يهم التناول الحالي- عن تعقيد مسألة المركز والهامش نفسها وصعوبة حسمها، وتقييد التفاعلات التاريخية الداخلية بصورة نمطية سائدة عن المجتمعات السودانية على مر قرون تكوين الدولة الحديثة، وصولًا للاستقلال وتداعيات ذلك فيما بعد عام 1956 حتى اللحظة الراهنة.

يحيلنا ذلك إلى رؤية مفادها ضرورة النظر لإشكالية المركز والهامش من زاويا مغايرة قدر الإمكان، وأن تفاعلات المجتمع السوداني (بالمعنى الواسع القائم على التنوع والاختلاف وضرورة توحيد رؤية الدولة الوطنية) باتت تتجاوز فعليًا فكرة المركز (وسط السودان) والهامش، بوجود مراكز متنوعة في الأطراف (الجغرافية)، وضرورة تطوير ذلك المسار في أية خطط مستقبلية لتحقيق حوار وطني حقيقي بين أطراف الأزمة في السودان خارج الضوابط العرقية- الاجتماعية المقيدة لمشروع الدولة الوطنية، القائمة على حقوق المواطنة الكاملة والشمول والاتفاق على حلول جذرية لأوجه خلل هذه الدولة في اللحظة الراهنة.

يواجه السودان اليوم خطرًا جديدًا يتهدد سيادته، وربما وحدة أراضيه، بسبب تفاعلات الأزمة والحرب الجارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع واستقطاباتهما السياسية المحلية، وكذلك أدوار قوى إقليمية حاسمة في دعم أطراف هذه الأزمة واستدامتها. تشي قراءة بعض جوانب الأزمة وجذورها بأن خيارات السودان نحو الفكاك من أزمته الحالية، يجب أن تتضمن قراءات معقدة وموضوعية في الأسباب الحقيقية، وإتاحة الفرص أمام تفاهمات سوسيولوجية أكبر وإعلاء قيمة المواطنة والدولة الوطنية جنبًا إلى جنب.