تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 5 ديسمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
حوارات

أيمكن العيش بدون ميناء؟ سياسة الوصول إلى البحر في القرن الأفريقي

6 فبراير, 2024
الصورة
Djibouti
فرقاطة فرنسية تغادر ميناء جيبوتي في 25 نوفمبر 2008 لمرافقة السفن التجارية في خليج عدن. AFP PHOTO / ERIC CABANIS (Photo credit should read ERIC CABANIS/AFP via Getty Images)
Share

روّج القادة في كافة أنحاء القرن الأفريقي للمنافع التي لا تُحصى لإنشاء المواني لشعوبهم، ووضعوها في صميم مشاريعهم لتنمية المنطقة.

وُقّعت مذكرة تفاهم غير مسبوقة، في الأول من يناير، بين إثيوبيا وصوماليلاند، مبشرةً بانقلابٍ في المشهد السياسي في المنطقة. فقد كشف رئيس صوماليلاند، موسى بيحي، بعد اجتماعٍ في أديس أبابا، عن اتفاقية أولية ستمنح إثيوبيا وصولًا إلى ساحل خليج عدن، بجانب قاعدة بحيرية، كما أضاف، بمثابة تقدير دبلوماسي.

كان ذلك اختراقًا لكلا الطرفين، والذي أثار غضبًا في مقديشو وردود فعل دولية عنيفة، تضمّنت استنكار من أقرب الشركاء الدوليين لإثيوبيا. وفي حين أن الاهتمام الكبير انصبّ على التبعات السياسية للاتفاقية على القرن الأفريقي، كان ثمّة اهتمام أقل بالدور المهم الممنوح لإنشاء بنية تحتية للمواني في الكيفية التي عبّر بها قادة المنطقة عن رؤيتهم للتنمية والتحديث.

يتم التغاضي عن المواني أحيانًا في الإيقاع اليومي للحياة، لكن بلمحة سريعة حولنا ندرك أهميتها؛ فالكثير مما حولنا، كالهواتف النقالة والأثاثات، يُصنع في الخارج ويُنقل عبرها، قبل وصوله إلى الأسواق المحلية.

عليه، ليست هذه الممرات الساحلية نقاط لوجستية فحسب، بل تشكّل أيضًا اهتمامًا مركزيًّا في جيو-سياسة القرن. فقد أصبحت المواني رمزًا للطموح، مبشّرةً بانتعاش الاقتصادات ورفعة المجتمعات.

عندما وقّعت مواني دبي العالمية اتفاقيةً مع أرض البنط لتولّي إدارة ميناء بوصاصو، صرّح وزير التجارة البنطي بأن الصفقة، "مفتاحٌ للنمو الاقتصادي في أرض البنط." التزمت مواني دبي العالمية في هذا الصيف بتوسعة وجودها في بوصاصو باستثمار إضافي قدره 336 مليون دولار.

قصّت مواني دبي أيضًا الشريط الأحمر في العام الماضي لمنطقة بربرة الاقتصادية، بعدما أعادت تهيئة محطة الحاويات الساحلية في المدينة في يونيو، 2021. رحّب موسى بيحي بهذا الاستحداث باعتباره، "قفزة إلى الأمام،" كما صرّح عمدة بربرة بأن الميناء منح المدينة فرصةً لتصبح، "مركز تجارة عالمي." قال عبداللاي عَدَوي سيقاد، رئيس مرفأ دوراليه، لفاينامشيال تايمز  أن "حلمهم هو أن يصبحوا سنغافورة جديدة." وسيكون ميناءهم المفتاح لتحقيق هذا الهدف.

يلائم طموح إثيوبيا بأن تُصبح قوة ملاحية مرة أخرى هذا النموذج. فقد أعرب أبي احمد عن رغبته في  بوابة إلى البحر، باعتبارها جزءًا من هدفه المتمثّل في تحويل إثيوبيا إلى "قوة عظمى،" وهدّد جيرانه إن لم يلتزموا بذلك.

ناقشت جيسكا الأستاذ جوتا بانكوي، خبير النزاعات والتنمية وجيو-اقتصاديات المواني في شرق أفريقيا. أوضح بانكوي لجيسكا ما تُمثّله المواني وما تُقدمه، ولمَ تتوق إثيوبيا إلى الحصول على أحدها.

فيصل علي: هلا حدّثتنا بإيجاز عن الأهمية الجيو-اقتصادية للمواني بشكل عام؟ وما الذي تقدمه للبلدان التي تمتلكها، مقارنةً بالمحرومة منها ومن السواحل؟ 

جوتا بانكوي: تتحرك 80% من التجارة العالمية عبر البحر. والمواني بهذا نقاطٌ مهمةُ لكل أنواع التجارة الدولية. وصلت التجارة باستخدام  الحاويات، والتي بدأت في السبعينيات، في العقود الأخيرة إلى الجنوب العالمي، وقد ساهمت، ضمن أمور أخري، في ازدهار البنى التحتية في مختلف أنحاء أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما تفسّر السباق الحالي من أجل المواني في أفريقيا من قبل الشركات الرائدة عالميًّا في إدارة المواني والخدمات اللوجستية.  وتؤكد أيضًا حقيقة أن العديد من شركات تشغيل محطات الحاويات الرائدة تقع خارج الشمال العالمي_ الموجودة على سبيل المثال في الصين وسنغافورة والإمارت العربية المتحدة والفلبين وهونغ كونغ_ إعادة توازن القوة في العالم في هذا الصدد.

لدي البلدان التي تتمتع بامكانية الوصول إلى البحر امتيازات استراتيجية، إذ تستفيد من الأرباح التي تجلبها المواني، كما يمكنها استخدام الوصول إلى البحر لإبراز قوتها السياسية والاقتصادية.

لكن من المهم الانتباه إلى أن المواني هي منافذ وحسب. فلا تُظهر المحاولة الراهنة لإنشاء ممرات نقل في مختلف أنحاء أفريقيا أن المواني في حاجة إلى المناطق النائية فحسب، بل أيضًا أن المستثمرين الدوليين أدركوا القدرة الاقتصادية في السوق الأفريقي. ويمُدّنا النمو الاقتصادي السريع في بعض البلدان، خلاف استخراج الموارد، بسوق استهلاك جديد. تتمدد الرأسمالية بسرعة، في سعيها المستمر للتوسّع والانتعاش، في الجنوب العالمي، وتُعد المواني نقاط وصول رئيسية.

فيصل علي: يرتبط إنشاء المواني في شرق أفريقيا، من خلال النخبة التي تروّج لها، بمستقبلٍ مُتخيَّلٍ للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. أطّر مثلًا أبي احمد طموحه في الوصول إلى البحر الأحمر في خطاباته الأوسع بعودة إثيوبيا إلى الظهور قوةً عظمى. ما الذي أظهرته أبحاثك في بربرة وبوصاصو وجيبوتي عن دور هذه السرديات في الحالات هذه؟

جوتا بانكوي: تشبه سرديات النخب السياسية بعضها البعض. تمتزج البنى التحتية بعمق في تصوراتنا عن الحداثة وووعود الحداثة بتقدمٍ لا نهاية له في جانب، والنظام السياسي في الآخر.

تعكس البنى التحتية الوعد الرأسمالي بالحركة الحرة والسريعة، والتنمية الاقتصادية، والفرص غير المحدودة للاستهلاك. وتُعيد النخبة في القرن الأفريقي سرد هذا الوعد. نجد أن تنمية الممرات التجارية والمواني في صوماليلاند وجيبوتي تتماشى مع تطلّعات الشعب لاعتراف سياسي (خاصةً في صةماليلاند)، ولتحسينٍ لوضعهم في النظام العالمي. لكن تأمل الشعوب أيضًا أن تقود تنمية البنى التحتية إلى التخلص من الفقر، الأمر الذي من غير المرجح حدوثه بسرعة، والذي قد يسبب العديد من الإحباطات.

يستخدم رئيس الوزراء أبي احمد، منذ وصوله إلى السلطة في  2018، خطابًا قوميًّا وحضاريًّا يرتكز على السرديات القديمة لوضع أثيوبيا باعتبارها قوةً رائدةً إقليميًّا وعالميًّا. لكن أثارت محاولاته لمركزة جهاز الدولة، خلافًا لخطاباته، اضطراباتٍ وحروبًا أهليةً، كما يصارع في الوقت الراهن معارضةً داخليةً متناميةً، بجانب النزاعات الخارجية، بالإضافة إلى فداحة سجلّه الاقتصادي. وليست ثمة مفاجأة في أقرب خطاب له عن عظمة إثيوبيا؛ فهو ليس الوحيد في مثل هذه التحولات الخطابية، حيث يعوّل العديد من قادة الدول الحاليين على الخطاب الشعبوي المُلمِّع للعظمة التاريخية، والحاشد للسرديات الحضارية في سبيل الحصول على الدعم الداخلي، أثناء إبراز القوة في الساحات الدولية.

فيصل علي: أظهرت البلدان الأفريقية توقًا إلى جذب رأس المال  العالمي، مروجةً لمزايا بلدانها للمستثمرين، إلا أنها لا تفاوض دائمًا من موضع قوة. كيف يؤثر ذلك على العلاقة بين المستثمِر والدولة؟

جوتا بانكوي: تفتقر البلدان الأفريقية عادة لوسائل تنمية بناها التحتية، وتعتمد إما على القروض، أو الائتمانات، أو التنازل للشركات العالمية أو متعددة الجنسيات، وتترُك بذلك المهام السابقة للدولة لأطرافٍ خارجيةٍ، مثل تشغيل المواني ومحطات الحاويات والمناطق الحرة. إنها ظاهرة عالمية، ولا تقتصر على البلدان الأفريقية فحسب. لقد خُصخِصت المواني على مستوى العالم، أو أجزاءًا من عمليات تشغيلها على الأقل.

هناك بالتأكيد تبعات للنقلة الكلية في إجراءات الحوكمة، لأنها تنقل بوتيرة متزايدة القوة إلى الطرف الخارجي، و تتحصل شركات المواني أو الخدمات اللوجستية العالمية هكذا أيضًا على النصيب الأكبر من الأرباح التي كانت ستؤول إلى الدول أو النخبة السياسية على الأقل. هذه الديناميات واضحة للغاية في أفريقيا_ فالمزيد من البنى التحتية تحت التشيد من الصفر، والتنازلات وإجراءات حوكمة ليست شفافة أحيانًا، والبلدان مثقلة بالديون نتيجة لذلك.

فيصل علي: أعربَت إثيوبيا عن رغبتها في تقليل اعتمادها على جيبوتي التي تحتكر في الحقيقة موقعها باعتبارها نقطة عبور للتجارة الدولية لإثيوبيا. وهذا ما خلق التبعيّة المتبادلة، والتي تُعتبر مجازفةً جيوسياسيةً أكبر بالنسبة لإثيوبيا. لقد شهدت إثيوبيا فترات نمو هائلة بدون ميناء، لذا هل تتفق مع الإلحاح الحالي الذي يعرب عنه قادة الدولة الحاليين بشأن الحاجة إلى ميناء، أم أن هنالك طرقًا أخرى يمكنهم تيسير التجارة الدولية بها دون أن يكونوا مدينين إلى الدول الجارة؟

جوتا بانكوي: تعتمد تجارة إثيوبيا بدون ميناء على علاقتها الجيدة بجيبوتي. لكن التعبية متبادلة إذ أن اقتصاد جيبوتي يعتمد على استخدام ميناءها من قبل إثيوبيا. 

تغازل الدول الساحلية لكل من البحر الأحمر والمحيط الهندي، والتي تضم أريتريا وجيبوتي والصومال وصوماليلاند، وحتى كينيا، عندما يتعلق الأمر بموانيها، إثيوبيا نظرًا لاحتياج موانيها إلى استغلال السوق الإثيوبي. تعي إثيوبيا ذلك، ويمكنها تعزيز تكامل إقليمي أوسع يغنيها عن أي ميناء خاص. وتتمتع إثيوبيا بالنفوذ السياسي والاقتصادي للحد من تبعيّتها والعمل على علاقات مصالح مشتركة. ويُعد خطاب الالحاح الحالي مناورة سياسية.

على ذلك، لدى إثيوبيا كل الفرص لتنويع علاقتها التجارية ووصولها إلى البحر في المنطقة دون الحاجة إلى السيطرة المباشرة. كانت إثيوبيا في الأصل جزءًا من اتفاقية ثلاثية الأطراف بين صوماليلاند ومواني دبي العالمية لتشغيل المواني في الإمارات العريبة المتحدة، التي تقوم بتوسيع وتحديث وتزويد ميناء صوماليلاند في بربرة بالحاويات منذ 2018.

منحت الاتفاقية مواني دبي تنازلًا مدته ثلاثون سنة لإدارة الميناء، وكانت إثيوبيا جزءًا من ذلك بشراكة بنسبة 19%، إلا أن أبي احمد لم يوفِ بالتزامات تنازله وخسر نسبته في 2022. 

فيصل علي: إن توقيت مذكرة التفاهم هذه مهمٌ لأن البحر الأحمر، الممر الرئيسي للتجارة العالمية، أصبح معبرًا مُهدِّدًا في ظل الأزمة الإقليمية المتصاعدة بشكل ملحوظ. لقد خرجنا، بالإضافة إلى ذلك، لتونا من أُتون كوفيد-19 الذي عطّل التجارة العالمية على نحو كبير. إلى أي مدى تنظر إثيوبيا في رأيك إلى هذ التطورات واعتبار أن اعتمادها على مبناء واحد أمرٌ حكيمٌ؟

جوتا بانكوي: أصبح الأمن الملاحي من أولويات الأجندة الدولية، مع تأثير القرصنة والهجمات والحروب على الحركة السلسة للبضائع. يؤكد التعطّل في سلسلة الإمداد الذي سببته جائحة كويفيد-19، والحرب الحالية في أوكرانيا، بجانب هجمات الحوثيين الحالية على السفن التجارية في البحر الأحمر، على الهواجس المتعلّقة بالأمن الملاحي.

يكلف تعطّل سلاسل الإمداد الشركات ملايين الدولارات ويمكن أن يؤدي إلى نقص في الغذاء والطاقة، ويقود في الغالب إلى ارتفاع حاد في الأسعار. لكن لا أعتقد أن وصول إثيبويا إلى البحر سيغيّر أيٍّ من هذه الديناميات، كما يمكن لإثيوبيا، كما ذكرتُ آنفًا، مساومة الدول الساحلية الجارة بسهولة في رأيي، مثلما فعلت مع صواماليلاند.