تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 فبراير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

أوراق الصين المرتبكة في أفريقيا!

16 يناير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

تضع الصين، منذ عهد رئيسها الأسبق جيانج زيمين، ولاسيما عقب زيارته التاريخية لأفريقيا في العام 1996، خمسة مبادئ تعتبرها حاكمة لعلاقاتها مع أفريقيا، وهي: الصداقة المخلصة، والمساواة، والتضامن والتعاون، والتنمية المشتركة، والتوجه نحو المستقبل. وقد عززت بكين هذه المبادئ العامة بخطوات على الأرض، سواء في سياق التعاون الثنائي مع دول القارة، أم عبر مد خطوط الاتصال مع الاتحاد الأفريقي، وعدد من المنظمات الإقليمية الفرعية القائمة في القارة، ودعمها لوجيستيًا وسياسيًا. 
تراكمت سياسة الصين الأفريقية لاحقًا في إطلاق "منتدى التعاون الصيني- الأفريقي" عام 2000؛ كمنصة لتنسيق هذه السياسة دوريًا، وبتمثيل سياسي رفيع المستوى. لكن، مقابل هذا الأساس النظري "المثالي"، بدت خيارات الصين السياسية في "أفريقيا" - وأبرزها ما يمكن رصده من الجنوح الواضح لاحتواء الخلافات والتناقضات الإقليمية بين دول القارة - متناقضة ومرتبكة: مثل الموقف من أزمات القرن الأفريقي والأزمة الإثيوبية- الصومالية، ونظيرتها في وسط أفريقيا، وإقليم الساحل وغرب أفريقيا، والاكتفاء بمواقف الدفاع عن الاستثمارات والمصالح الصينية المباشرة في تلك المناطق، وربما عبر تنسيق "ضمني" ملموس بين بكين والدول الغربية، كما في حالة الأزمة في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لم تكن جولة وزير الخارجية الصيني وانج يي الأخيرة في القارة، خلال 6-9 يناير/كانون الثاني الجاري، والتي شملت محطات ناميبيا وجمهورية الكونغو (برازافيل) وتشاد ونيجيريا، نافية لهذا التناقض والارتباك؛ في الوقت الذي تترقب فيه بكين اضطلاع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بمهام عمله في 20 من الشهر الجاري، واختبار جدية تهديداته بمواجهات "اقتصادية" حاسمة مع الصين، ستكون أفريقيا إحدى ساحاتها الخلفية بطبيعة الحال.     

التعاون الأخضر: "أفاتار" صيني في أفريقيا؟

تتعرض القارة الأفريقية لتكالب دولي ملحوظ لمواردها المعدنية في العقود الأخيرة؛ إذ باتت منتجًا هامًا للمعادن على مستوى العالم؛ إذ تنتج 10% من البترول، و40% من الذهب، وحوالي 80% من حزمة المعادن الاستراتيجية التي يعتمد عليها العالم راهنًا، في كثير من الصناعات التكنولوجية. 
تتوفر في جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها ثروة معدنية يقدر احتياطها بقيمة 24 تريليون دولار. ويتوقع مراقبون أن نجاح الولايات المتحدة ومنافستها الصين في مد مشروعات النقل، من مواقع التعدين إلى موانئ التصدير، بشكل متسارع، سيقود على المدى القصير إلى استنزاف موارد أفريقيا المعدنية، فيما لا يؤدي نمط الاستثمار الراهن (من الصين أو الولايات المتحدة على حد السواء) إلى ضخ العائدات في تحقيق تنمية حقيقية وشاملة في الدول الأفريقية على المدى القصير. 
تقدم الصين وبقية الدول الأخرى المعنية باستنزاف المعادن الأفريقية، في محاولة لضبط هذا "التكالب"، حزمًا من مبادرات الطاقة الخضراء، وتوسيع سلاسل القيمة الزراعية، وتدريب قوة العمل الأفريقية، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة. لكن في ظل التصاعد المرتقب في النهم على استخراج المعادن، ونقلها خارج القارة بمعدلات فوق قياسية؛ فإنه لا تبدو ثمة آفاق واضحة لتحقيق تنمية مستدامة، وقادرة على تحقيق التوازن البيئي في القارة، وفق دبلوماسية التعاون الأخضر لبكين في المقام الراهن. 
وفيما يتسق مع هذه "الدبلوماسية" الخضراء، أكد وانج يي، عقب لقائه مع رئيس جمهورية الكونغو دينيس ساسو نجويسو (7 يناير/ كانون الثاني)، عمل بلاده مع الدول الأفريقية على بناء "حزام شمسي أفريقي"، ومساعدة أفريقيا على المضي قدمًا في طريق التنمية الخضراء. كما كشف يي عن اقتراح الرئيس الصيني شي جينبينغ عمل بلاده مع أفريقيا على تحديث صديق للبيئة، وأن بكين ستطبق "شراكة العمل من أجل التنمية الخضراء" PAGD مع الدول الأفريقية: "من أجل تنفيذ مشروعات الطاقة النظيفة"، وهو الطرح الذي قدمته بكين بالفعل في قمة منتدى التعاون الصيني الأفريقي الأخيرة (بكين 2024). 
يأتي التعاون في هذا المسار ضمن ديناميات مبادرة الحزام والطريق، وبناء على منجزات الصين السابقة، في مشاريع الطاقة الأفريقية التي تتجاوز مخرجاتها الإجمالية 1.5 جيجاوات، ما يضع الصين في مقدمة شركاء أفريقيا في التعاون الأخضر الدولي. 
لكن يلاحظ أن الصين، التي حققت في العام الماضي معدلات متصاعدة في النمو الاقتصادي والتعافي من دائرة بطء النمو العالمي، باتت تقبل بشكل متزايد للغاية - ويتسق مع وصفه بالتكالب - على توسيع نطاق تعاقداتها مع الشركاء الأفارقة في قطاع التعدين، واحتكار استيراد موارد معدنية معينة، بغض النظر عن الآثار البيئية أو المجتمعية الناجمة عن الاستنزاف المفرط. 
كما تخوض الصين سباقًا محمومًا مع الولايات المتحدة لاحتكار موارد أفريقيا المعدنية، وتجسد هذا السباق في حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية وثرواتها الهائلة من الكوبالت والليثيوم والمنجنيز وغيرها من المعادن النادرة واللازمة لصناعات السيارات والبنية الأساسية للطاقة المتجددة، والصناعات التكنولوجية. 
في مؤشر على هذا التنافس، فإن الكونغو تملك نحو 70% من احتياطيات الكوبالت في العالم، وهو المعدن الذي يتوقع أن يرتفع الطلب عليه بحلول العام 2040 بنسبة 2000%، ويفسر ذلك جهود الصين تأمين مواقع استثماراتها في الكونغو للحصول المستدام على هذا المعدن وغيره، سواء عبر الاستثمارات المباشرة أم عبر ضخ بكين مشروعات بنية أساسية وقروضًا تفضيلية لكينشاسا، مقابل ضمان الأولى لحقوق تعدين طويلة الأجل في البلاد.   
أُعلن في شرق أفريقيا، في نهاية العام الماضي، عن ضخ الصين استثمارات بقيمة بليون دولار في خط سكك حديد تنزانيا- زامبيا (Tazara) الذي يخدم ممرا هاما لتمرير صادرات المعدنية من زامبيا وأنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية عبر ميناء دار السلام التنزاني. ويتوقع أن يستقطب الميناء حركة صادرات المعادن "من حزام النحاس" في زامبيا بديلًا عن مسارها إلى موزمبيق ثم إلى جنوب أفريقيا، كما أنه لا يمكن فصل هذا التطور عن مشروع ممر لوبيتو الذي تدعمه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخطوات ملموسة منذ العام 2022.

الصين وأفريقيا: نحو عسكرة مفهوم "الجنوب العالمي"

تعهد وانج يي خلال جولته الأخيرة، التي اختتمها في العاصمة النيجيرية أبوجا، بحشد بكين بليون يوان (نحو 140 مليون دولار) لتقديم حزم مساعدات عسكرية للدول الأفريقية، تتضمن تدريب نحو 6 آلاف جندي وألف ضابط شرطة (بمتوسط 130 عنصرًا لكل دولة أفريقية). كما تعهدت بكين بشكل خاص بدعم جهود نيجيريا، لحشد دول الإقليم من أجل تحقيق "القوة عبر الوحدة"، وتعزيز الأمن عبر التعاون. 
جاءت تعهدات بكين، صاحبة المصالح الاستراتيجية والتعدينية في إقليم الساحل، والعلاقات التجارية الهامة مع نيجيريا، والتي تجاوزت 22 بليون دولار عام 2023، لتقفز فوق الواقع السياسي الأمني في الإقليم، لاسيما بعد خروج مالي والنيجر وبوركينا فاسو من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، واحتمالات دخول نيجيريا في صدام عسكري مفتوح مع تلك الدول بدعم غربي واضح. الأمر الذي يعزز تصور سياسات الصين المرتبكة في أفريقيا. 
بينما تمثل مساعدات الصين العسكرية المرتقبة للقارة الأفريقية (المقدرة عند 140 مليون دولار في العام الجاري أو إجمالي 420 مليون دولار في الأعوام الثلاثة 2025-2027) حصة بالغة الضآلة من إجمالي تعهدات الصين لمساعدة أفريقيا في نفس الفترة المحددة 50 بليون دولار (أي في حدود 1% فقط)، فإن استراتيجية بكين العسكرية في أفريقيا تثير تخوفات الولايات المتحدة والقوى الغربية الداعمة لتوجهاتها في أفريقيا لعدة اعتبارات. 
فقد اعتبر خبراء غربيون زيارة وانج يي لتشاد ونيجيريا، تمهيدًا لتوجه الصين لشغل الفراغ الغربي في إقليم الساحل. فيما لمح آخرون إلى استشعار قوى غربية لهذه المخاطر، بشكل استباقي، حيث تمت مهاجمة مجمع رئاسي للرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، بعد ساعات من مغادرة وانج يي، وما يثيره ذلك من ارتباط عملية الهجوم، أو محاولة الانقلاب ضمنًا، بمخاوف التقارب التشادي- الصيني، وهو سيناريو متكرر منذ ستينيات القرن الماضي، كما حدث في الانقلاب على نكروما خلال وجوده في بكين في فبراير/ شباط 1966، أخذًا في الاعتبار أن الصين باتت في السنوات الأخير أكبر شريك تجاري لتشاد وعدد من دول غرب أفريقيا. 
كما لا يخفى أن شمول جولة وانج يي لجمهورية الكونغو تستهدف -ضمن غايات اقتصادية وسياسية أخرى- تأمين سلامة آلاف العمال والمهندسين الصينيين العاملين في إقليم وسط أفريقيا، في مشروعات تعدين موسعة في الإقليم؛ بما في ذلك في دول الجوار، مثل: جمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية. 
من استقراء دبلوماسية بكين، وفق جولة وانج يي الأخيرة، فإنه يلاحظ تصاعد جانب العسكرة في دعم الصين لحلفائها الأفارقة، وتضمينه في تصوراتها عن الجنوب العالمي، لاسيما في واحدة من أهم قواعده في نيجيريا؛ أكبر دول القارة الأفريقية من جهة عدد السكان، وبفارق كبير عن إثيوبيا ومصر.  

بيروقراطية التعاون والأجندات وأفريقيا "المصطنعة"؟

تعول الصين بقوة على تعميق نفوذها في القارة عبر تطبيق مخرجات منتدى الصين- أفريقيا (الذي تترأسه بالمشاركة مع الصين في دورته الحالية جمهورية الكونغو إحدى محطات جولة وانج يي الأخير)، وقد ساعدت الصين على مدار 25 عامًا أفريقيا على تشييد 100 ألف كلم من الطرق، وأكثر من 10 آلاف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية، ونحو 1000 جسر وقرابة 100 ميناء. وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة وحدها خلقت المشروعات الصينية أكثر من مليون فرصة عمل.
وضعت الصين وجمهورية الكونغو جدولًا زمنيًا وخريطة طريق لتطوير المنتدى في الأعوام الثلاثة المقبلة. وحسب الدبلوماسية الصينية فإن المنتدى سيركز في العام الجاري على عقد اجتماع للمنسقين "حول تطبيق اعمال المتابعة للمؤتمر الوزاري للمنتدى لقيادة تطبيق مخرجات القمة وتحقيق مزيد من "الحصاد المبكر". 
وفي العام المقبل (2026)، سيستضيف الجانبان معًا أحداثًا بمناسبة مرور 70 عامًا على قيام العلاقات الدبلوماسية بين "الصين وأفريقيا"، وكذلك "عام الصين- أفريقيا للعلاقات الشعبية" China-Africa Year of People-to-People Exchanges. وعبر اجتماع كبار المسؤولين الثامن عشر، فإن الجانبين سيسرعان من تطبيق مخرجات القمة "على المدى المتوسط". وفي العام 2027 سيركز المنتدى على الاستعداد للقمة الوزارية العاشرة للمنتدى، وتوجيه الاكمال النهائي لتطبيق مخرجات القمة.    
يبدو من خطاب البيروقراطية الصينية، وفي قلبه النظر لأفريقيا كطرف متجانس وموحد بصورة تقترب من نفس التصورات الأمريكية والغربية التقليدية، الجنوح إلى تناول معمم ودعائي نسبيًا لدعم الصين للقارة الأفريقية. كما أن تنسيق بكين لأجندة العمل في أفريقيا، في الفترة 2025-2027، مع واحدة من أصغر دول القارة (جمهورية الكونغو) وأقلها في التنوع الاقتصادي وامتلاك روافع سياسية مؤثرة إقليميًا، يشير كل ذلك إلى انفراد الصين في واقع الأمر بوضع أجندة التعاون مع أفريقيا والاكتفاء بفرض مقرراتها عبر واجهات أفريقية (دولتية كما في حال جمهورية الكونغو، أو منظمات إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي). 
ختامًا؛ تبدو الدبلوماسية الصينية في أفريقيا صاحبة خطوات واثقة من ناحية الاستمرارية والانتشار، لكن قراءة مدققة لأجندة الدبلوماسية ومخرجاتها العملية تكشف- ربما- عن ارتباك في أوراق الصين في أفريقيا، وقدرة بكين التي لا تبارى على حماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في القارة الأفريقية، بشكل بالغ البرجماتية، وبغطاء دبلوماسية "الجنوب العالمي"، الأمر الذي لم تترجمه بكين -سياسيًا- بشكل واضح في العديد من الأزمات التي تواجه القارة، مثل: ليبيا والقرن الأفريقي وإقليم الساحل ووسط أفريقيا، تاركة للدبلوماسية الأمريكية والغربية (وشركاء هذه الدبلوماسية من قوى إقليمية، مثل تركيا والإمارات) حرية التحرك في هذه الأزمات تصعيدًا واحتواءً وتسوية، طالما ظلت مصالح بكين واستثماراتها مصانة في مناطق الأزمات تلك وغيرها.