السبت 8 نوفمبر 2025
هبطت يوم الأربعاء الماضي أول رحلة ركّاب داخلية في مطار الخرطوم الدولي، منذ أكثر من عامين على اندلاع الحرب، في إشارة تُعدّ الأوضح حتى الآن لمحاولة إعادة تشغيل حركة الطيران تدريجيًا في البلاد. وأكّدت السلطات أن الطائرة كانت تابعة لشركة "بدر للطيران"، أقلعت من بورتسودان على ساحل البحر الأحمر إلى العاصمة الخرطوم، ما يُعيد وصل مسارين جويين يكتسبان أهمية لوجستية واقتصادية لسكان العاصمة والولايات المجاورة.
ظلّ المطار خارج الخدمة المدنية طوال فترة سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من العاصمة ومحيطها، قبل أن يعلن الجيش في مارس/آذار الماضي استعادة المرفق الحيوي إثر معارك ضارية. ورغم أن الجيش يُمسك بزمام المطار حاليًا، لا تزال قوات الدعم السريع تتمركز في أجزاء من دارفور ومناطق أخرى، ما يجعل تشغيل الرحلات محكومًا بمعادلة أمنية متحركة تحتاج إلى اختبارات ميدانية متتالية لضمان الاستمرارية وسلامة الطيران.
تزامن استئناف الحركة الداخلية مع تصاعد العمليات العسكرية. ففي فجر الثلاثاء، أعلن الجيش اعتراض طائرات مسيّرة أطلقتها قوات الدعم السريع لاستهداف المطار. وبعد ساعات، ظهر قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في تسجيل مصوّر مهددًا بمواصلة استهداف أي طائرة تقلع من مطارات داخلية أو من دول مجاورة إذا رُصدت وهي "تسقط الإمدادات" أو "تشارك في القتال"، في خطاب يعكس اتساع رقعة الحرب لتشمل المجال الجوي. وتنذر هذه الرسائل المتبادلة بأن مسار التطبيع الملاحي لن يكون خطيًا، وأن الأمن الجوي سيظل شرطًا لازمًا لأي توسّع لاحق.
على الصعيد الرسمي، أجرت هيئة الطيران المدني ترتيبات تشغيلية وفنية لاستئناف الرحلات، مؤكدة أن الخطوة تبدأ داخليًا قبل النظر في فتح مسارات خارجية. ولم يتضح بعد عدد الشركات التي ستلتحق ببرنامج التشغيل الجديد، فيما كان المطار قد استقبل خلال الأشهر الماضية رحلات محدودة، حملت قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في زيارات متفرقة، من دون أن يعني ذلك عودة الخدمة المدنية آنذاك. الجولة التفقدية التي قام بها البرهان الثلاثاء هدفت، وفق خطابه، إلى طمأنة المواطنين، وإبراز جاهزية القوات لتأمين محيط المطار وممراته.
يحضر البعد الإنساني بقوة في خلفية هذا التطور، فالحرب التي تفجّرت بصراع نفوذ بين الجيش والدعم السريع أوقعت، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية، ما لا يقل عن 40 ألف قتيل، وأجبرت نحو 12 مليون شخص على النزوح، بينما يواجه أكثر من 24 مليونًا انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي بحسب الأمم المتحدة. في هذا السياق، قد تتيح الرحلات الداخلية في حال استقرارها نافذة للحركة الطبية والإغاثية، بحيث تُيسّر انتقال المرضى، وتخفّف كلفة السفر البري الخطِر بين المدن الرئيسية. لكنها، في المقابل، ترفع سقف التوقعات لدى السكان بأسعار تذاكر مقبولة، وبرامج رحلات منتظمة، وهي متطلبات تحتاج إلى بيئة تشغيل مستقرة وإمدادات وقود وسلسلة خدمات أرضية تعمل بلا انقطاع.
اقتصاديًا، يُنظر إلى إعادة تشغيل مطار الخرطوم كاختبار مبكر لمرونة القطاعات الخدمية بعد الضربة الثقيلة التي أصابت بنيتها التحتية. فعودة الحركة، ولو بشكلجزئي، قد تنشّط قطاعات النقل والتموين والصيانة الأرضية والتأمين، وتُنعش سلاسل التوريد المرتبطة بالمطار. لكن كل ذلك مرهون بمعادلة أمنية دقيقة، تضمن عدم تعرّض المنشأة لهجمات تُربك الجدول، وتُفقِد المستخدمين الثقة. لذلك، فإن أي إعلان لاحق عن توسيع نطاق الرحلات سواء بزيادة الترددات الداخلية أو التفكير في وجهات خارجية سيحتاج إلى أدلة تشغيلية صلبة على انتظام الحركة وفعالية الحماية، أكثر من حاجته إلى تصريحات سياسية.
في النهاية، يمثل وصول رحلة "بدر" من بورتسودان إلى الخرطوم حدثًا رمزيًا وعمليًا في الآن نفسه؛ ويشي بأن نافذة عودة الحياة اللوجستية إلى العاصمة قد فُتحت، لكنه يذكّر في الوقت نفسه بأن الحرب لم تُطوَ صفحتها. بين تهديدات المسيّرات ومقتضيات السلامة الجوية، ستتوقف استدامة هذا المسار على القدرة الفعلية للدولة على تحييد التهديدات، وتوسيع الممرات الآمنة، وتثبيت تشغيل منتظم يُراكم الثقة لدى شركات الطيران والركاب معًا. إلى أن يتحقق ذلك، ستظل كل رحلة تهبط في الخرطوم اختبارًا إضافيًا لقدرة البلاد على استعادة وظائفها الأساسية، وسط استمرار الحرب المكلفة.