الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
تصدر مشروع خط أنابيب النفط الخام في شرق أفريقيا المشهد الاقتصادي والسياسي لأوغندا، حاملاً آمالًا كبيرة في تحقيق نقلة نوعية للدولة وموقعها الإقليمي. في ظل العديد من التحديات المتشابكة، يراهن الرئيس يوري موسيفيني على هذا المشروع كأداة لتعزيز موقعه السياسي قبيل الانتخابات المقبلة، مستندًا إلى دوره في تحفيز التنمية وتأميم الموارد التي يأمل أن تعيد تشكيل مستقبل البلاد.
يُعد خط أنابيب النفط الخام في شرق أفريقيا "إيكوب" أكبر مشروع بنية تحتية تشهدها أوغندا وتنزانيا في العقود الأخيرة، يهدف إلى تمكين أوغندا من تصدير النفط الخام بكميات كبيرة إلى الأسواق العالمية، في خطوة تُغيّر موقعها الاقتصادي في المنطقة، حيث سينقل الخط 246 ألف برميل من النفط الخام يوميًا من أوغندا إلى الساحل الشرقي لأفريقيا. وقد وصلت نسبة إنجازه حتى يوليو/ تموز من العام الجاري نحو 64.5٪ بتكلفة تجاوزت 5.6 مليار دولار، مع توقعات باستكمال التمويل والإنشاء مطلع عام 2026.
يمتد الخط على طول 1,443 كلم من حقول النفط في بحيرة ألبرت غرب أوغندا إلى ميناء تانجا التنزاني على المحيط الهندي، ليكون منفذ البلاد الرئيسي نحو التجارة الدولية في مجال الطاقة. ويُتوقع أن يصبح الأطول عالميًا بين خطوط الأنابيب المسخنة كهربائيًا، ويتوزع هيكل ملكية المشروع بين شركة "توتال إنرجيز" الفرنسية بنسبة 62٪، بالإضافة للشركة الوطنية الصينية للنفط البحري، وشركة النفط الوطنية الأوغندية، ومؤسسة تنمية النفط التنزانية.
على الرغم من أن المشروع يُسوَّق على أنه بوابة أوغندا إلى أسواق النفط العالمية، إلا أن التكاليف الضخمة التي تتجاوز 5 مليارات دولار وضعت البلاد في دائرة الاعتماد المتزايد على الديون
انطلقت الأعمال الإنشائية للمشروع عام 2017، لكنها شهدت توقفات وتأخيرات نتيجة عقبات سياسية وتمويلية، قبل أن تتسارع وتيرة التنفيذ الفعلي عام 2023. وترجع جذور المشروع إلى الإعلان الرسمي عام 2013 عن خطط إنشاء خط الأنابيب، بهدف تحويل الاحتياطيات النفطية الكبرى المكتشفة عام 2006 في حقول "تيلينغا" و"كينغفيشر" - والبالغة نحو 6.5 مليار برميل، منها 1.4 مليار قابلة للاستخراج - إلى بنية تحتية استراتيجية لنقل النفط.
يشكّل مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق أفريقيا "إيكوب" نقطة تحوّل استراتيجية لأوغندا، إذ يُمكّنها للمرة الأولى من تجاوز عزلتها الجغرافية كدولة حبيسة، وربط حقولها النفطية في منطقة بحيرة ألبرت بميناء تانغا التنزاني على المحيط الهندي. ويضعها ضمن خارطة تصدير الطاقة في القارة الأفريقية بعد سنوات من الاكتشافات غير المستغلة.
من الناحية الاقتصادية، ترى الحكومة الأوغندية في المشروع رافعة كبرى لتحقيق عوائد نفطية ضخمة، فالتقديرات الرسمية تُشير إلى إمكانية جني ما بين 1.5 و3.5 مليار دولار سنويًا من صادرات النفط، أي ما يعادل نحو 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي لأوغندا. كما يتوقع أن يخلق المشروع أكثر من 32 ألف فرصة عمل (90 ألف فرصة عمل إضافية من مشاريع المنبع والتكرير والنقل والخدمات اللوجستية)، بذلك يصبح "إيكوب" أكثر من مجرد خط أنابيب، إنه أداة لتحفيز النمو الاقتصادي، وتخفيف الاعتماد على المساعدات الخارجية.
علاوة على ذلك، يمثل مشروع خط أنابيب النفط محورًا حيويًا في خطط أوغندا للتنمية الصناعية، حيث يتجاوز دوره مجرد نقل النفط، ليشمل بناء قاعدة صناعية متكاملة. فإلى جانب الأنبوب، يجري تطوير مجمع "كاباليغا للبتروكيماويات"، الذي يضم مصفاة لتكرير النفط ومطارًا دوليًا ومرافق صناعية متنوعة، بهدف خلق حزام صناعي متكامل في غرب البلاد. تساهم هذه المشاريع المصاحبة في تعزيز الاكتفاء الطاقي، وتوسيع قاعدة التصنيع المحلي، وربط التنمية الاقتصادية بمورد استراتيجي حيوي، ما يجعل المشروع عنصرًا رئيسيًا في تعزيز الاقتصاد الوطني ومكانة أوغندا الإقليمية.
يتحوّل المشروع الذي رُوِّج له كفرصة تنموية إلى عامل يفاقم الهشاشة الاجتماعية، ويثير تساؤلات حول مدى التزام الحكومة والشركات المنفّذة بمعايير حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية
في سياق آخر، يسعى المشروع إلى بناء قدرات وطنية مستدامة في قطاع النفط، فقد أُنشئت أكاديمية (EACOP) للتدريب المهني في أغسطس/آب 2024 بهدف إعداد قوة عاملة محلية قادرة على إدارة المشروع وتشغيله. وحتى الآن، استفاد منها أكثر من 140 مشاركًا، معظمهم من المجتمعات المحلية المحاذية لمسار الأنبوب، مع تخصيص ربع المقاعد للنساء، في انسجام تام مع استراتيجية الحكومة لإضفاء الطابع المحلي على الصناعة النفطية، وتقليل الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
رغم الأهمية الاقتصادية والسياسية للمشروع بالنسبة لأوغندا، إلا أنه يُواجه تحديات معقدة ومتداخلة تجعل مساره محفوفًا بالمخاطر، سواء من الناحية التمويلية أو الاقتصادية أو البيئية. فعلى الرغم من أن المشروع يُسوَّق بأنه بوابة أوغندا إلى أسواق النفط العالمية، إلا أن التكاليف الضخمة التي تتجاوز 5 مليارات دولار وضعت البلاد في دائرة الاعتماد المتزايد على الديون، في وقت تعاني فيه أساسًا من ضغوط مالية متصاعدة. حيث ارتفع إجمالي الدين العام لأوغندا حسب تقرير صادر في مارس/ آذار 2025 إلى 30 مليار دولار أمريكي. هذا العبء المالي يولد مخاوف من زيادة مديونية أوغندا، وتضييق هامش قدرتها على تمويل أولويات تنموية أخرى.
من الناحية التمويلية، يصطدم مشروع خط أنابيب شرق أفريقيا "إيكوب" بعقبة كبيرة بعد أن أعلنت 43 مؤسسة مصرفية و29 شركة إعادة تأمين عالمية رفضها تمويله أو تغطيته، في ظل الضغوط الحقوقية والبيئية التي تعتبره متعارضًا مع أهداف التحول إلى الطاقة النظيفة. نتيجة لذلك، عزل هذا الموقف المشروع ماليًا على المستوى الدولي، وقلّص بشكل حاد من فرصه في الحصول على دعم من المؤسسات المالية الغربية الكبرى.
أمام هذا الفراغ التمويلي، لجأت أوغندا وتنزانيا إلى البنوك الإقليمية، وعلى رأسها البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد، الذي أعلن عن المساهمة في الشريحة الأولى من التمويل ضمن اتحاد مالي تقوده شركة "توتال إنرجيز"، بحسب بيان رسمي للشركة. غير أن هذا الدعم يظل محدودًا مقارنة بحجم الاستثمارات المطلوبة، كما يُعزز الهواجس المطروحة بشأن شروط التمويل وأعباء الديون المستقبلية، ما يجعل التحدي الأساسي للمشروع هو قدرته على تأمين استقرار تمويلي طويل الأمد في بيئة دولية متحفظة ومتقلبة.
على صعيد آخر، يثير مشروع خط أنابيب النفط الخام في شرق أفريقيا مخاوف بيئية عميقة، إذ تشير تقديرات صحيفة الجارديان إلى أن المشروع قد يولّد أكثر من 379 مليون طن من انبعاثات الكربون خلال فترة تشغيله، أي ما يعادل الانبعاثات السنوية لدولة مثل أستراليا. كما يمر الخط عبر مناطق شديدة الحساسية، بينها 460 كلم من حوض بحيرة فيكتوريا التي يعتمد عليها نحو 40 مليون شخص في مياه الشرب والزراعة.
فضلاً عن ذلك، قد أشارت تقارير إلى أن آلاف الأسر تأثرت بعمليات الاستملاك، وسط اتهامات بعدم حصول المتضررين على تعويضات عادلة أو في الوقت المناسب. هذا الوضع قد يولد توترات اجتماعية، ويقوّض شرعية المشروع في أعين قطاعات واسعة من المواطنين، خصوصًا في ظل تراجع الثقة بالحكومة وقدرتها على إدارة الموارد بعدالة وشفافية.
من ناحية أخرى، يسبب "إيكوب" مخاطر اجتماعية مرتبطة بتهجير السكان المحليين، ونزع الأراضي الزراعية في أوغندا. فقد قدّرت منظمات حقوقية، بينها هيومن رايتس ووتش، أنّ أكثر من 13 ألف أسرة تأثرت مباشرة بعمليات نزع الأراضي لصالح المشروع، حيث فقد العديد منهم أراضيهم الزراعية التي تشكّل مصدر رزقهم الأساسي، ورغم وعود التعويض، أشار التقرير إلى أنّ آلاف الأسر لم تتسلم مستحقاتها في الوقت المناسب، أو حصلت على مبالغ زهيدة لا تكفي لإعادة بناء حياتهم.
يعوّل موسيفيني على أنّ مجرد اقتراب اكتمال الأنبوب، وما رافقه من دعاية ضخمة حول فرص العمل والعوائد المستقبلية، سيكون كافيًا لإقناع شريحة من الناخبين بدعمه
إلى جانب ذلك، كشفت تقارير أخرى صادرة عن منظمات مثل: Business & Human Rights Resource Centre أنّ العدد الإجمالي للأشخاص المتأثرين في أوغندا وتنزانيا قد يصل إلى 100 ألف شخص، نصفهم تقريبًا في أوغندا. هذا الحجم الكبير من التهجير يضع ضغوطًا هائلة على المجتمعات الريفية، إذ يهدد الأمن الغذائي، ويقوّض استقرار الأسر، في ظل غياب بدائل اقتصادية حقيقية. بذلك، يتحوّل المشروع الذي رُوِّج له كفرصة تنموية إلى عامل يفاقم الهشاشة الاجتماعية، ويثير تساؤلات حول مدى التزام الحكومة والشركات المنفّذة بمعايير حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
في ضوء ما سبق، فإن مشروع "إيكوب" يقف عند مفترق طرق بين الآمال في تحويل النفط إلى رافعة للتنمية، والمخاطر الكبيرة التي قد تجعله عبئًا اقتصاديًا وبيئيًا واجتماعيًا. وإذا لم تُعالج هذه التحديات بشفافية وبمراعاة المعايير الدولية، فإن أوغندا قد تجد نفسها أمام مشروع يضاعف مشكلاتها بدلًا من أن يكون مدخلًا لحلول مستدامة.
لا يمكن قراءة مشروع خط أنابيب النفط الخام "إيكوب" بمعزل عن الحسابات السياسية للرئيس يوري موسيفيني، الذي يستعد لخوض انتخابات 2026 بعد ما يقارب أربعة عقود في السلطة. بالنسبة لموسيفيني، لم يعد المشروع مجرد استثمار اقتصادي، بل أصبح ورقة انتخابية محورية يسعى عبرها لتثبيت صورته قائدا قادرا على إدخال أوغندا إلى "عصر الدولة المصدّرة للطاقة". ففي خطاباته الأخيرة، شدّد مرارًا على أن المشروع هو "ضمانة للتنمية المستقبلية"، وركيزة لبناء اقتصاد أكثر استقلالية، يقلّص الاعتماد على المساعدات الأجنبية، في وقت تتصاعد فيه المطالب الشعبية بتوسيع فرص العمل، وتحسين الخدمات الأساسية مثل: الصحة والتعليم.
غير أن المفارقة تكمن في أن العوائد النفطية لن تبدأ بالتدفق قبل عام 2027، أي بعد الانتخابات مباشرة، وهو ما يجعل المشروع أقرب إلى وعد انتخابي مؤجل أكثر من كونه إنجازًا ملموسًا. ومع ذلك، يعوّل موسيفيني على أن مجرد اقتراب اكتمال الأنبوب، والآلاف من فرص العمل التي تم الترويج لها سيكون كافيًا لتعزيز رصيده الانتخابي. ويُسوَّق المشروع داخليًا باعتباره "رمز النهضة الوطنية"، حتى وإن ظلت ثماره الاقتصادية بعيدة عن متناول المواطن العادي في الوقت الراهن.
في المقابل، تنظر المعارضة إلى المشروع بعين الشك والريبة. إذ ترى قوى مثل "حركة الوحدة الوطنية" بقيادة بوبي واين أن الرئيس موسيفيني يوظف المشروع لتعزيز سلطته، وإطالة أمد حكمه، بينما تتحمل الدولة أعباء التمويل والديون في ظل غياب شفافية واضحة، ويشير واين في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس إلى أن المشروع قد يتحوّل إلى "فخ اقتصادي" للأجيال القادمة، ويقيّد قدرة البلاد على استثمار مواردها بشكل مستدام، بدل أن يوفر منفذًا للتنمية.
كما استندت المعارضة إلى انتقادات حقوقية متعلقة بعمليات نزع الملكية والتعويضات غير العادلة للسكان المتأثرين بمسار الخط، معتبرةً هذه التجاوزات دليلًا على إخفاق الحكومة في إدارة الموارد الوطنية بعدالة. ويُبرز هذا التحليل أن المشروع، رغم طموحاته الاقتصادية، أصبح أداة في الصراع السياسي الداخلي، إذ تُستثمر المخاطر والتأخيرات لتشديد الضغط على الحكومة، وتسليط الضوء على نقاط ضعفها أمام الرأي العام، بما يجعل "إيكوب" محورًا ليس فقط للنقاش الاقتصادي، بل أيضًا للجدل السياسي المرتبط بالانتخابات المقبلة
في المحصلة، يقف خط أنابيب شرق أفريقيا "إيكوب" بين صورتين متناقضتين: بوابة واعدة تَعِد أوغندا بالتحول إلى دولة مصدّرة للطاقة، ومشروع مثقل بالديون والتحديات البيئية والاجتماعية التي قد تعصف بجدواه. ورغم أن اكتمال نسبة كبيرة من الأنبوب يُنظر إليه إنجازا استراتيجيا، إلا أن غياب التمويل الدولي، وتصاعد الانتقادات الحقوقية، وتنامي مخاوف المجتمعات المحلية تجعله مشروعًا محفوفًا بالمخاطر. في هذا السياق، يضع موسيفيني رهانه الأكبر على أن مجرد المضي في التنفيذ، والترويج لآثاره الاقتصادية المستقبلية، سيمنحه شرعية سياسية جديدة قبيل انتخابات 2026.