السبت 8 نوفمبر 2025
دشّنت إثيوبيا في 9 سبتمبر/أيلول 2025 "سدّ النهضة الإثيوبي الكبير" على النيل الأزرق، بعد 14 عامًا من الأعمال، وماراثون تفاوضي مع دولتي المصبّ؛ مصر والسودان. يفتح هذا الحدث صفحة جديدة في جيوسياسة حوض النيل، حيث سينتقل من منطق الخلاف والاعتراض إلى نقاش عملي حول التكيّف والتشغيل المنسق، أو الذهاب إلى إدارة خلافات طويلة إذا تعذّر التفاهم، لا تقل صعوبة عن تلك التي رافقت عملية تشييد السد في السنوات الماضية.
تأتي هذه اللحظة فيما تقرّ دولتا المصبّ بأن جولات الوساطة والضغط الدبلوماسي لم تؤدي إلى اتفاق نهائي ملزم لإثيوبيا لقواعد الملء والتشغيل، بينما تصرّ أديس أبابا أن السد مشروع تنموي ورافعة للطاقة، وفرصة لتعاون إقليمي عبر تجارة الكهرباء. وبين المقاربتين، يبدو "اليوم التالي" رهنًا بقدرة الأطراف على تحويل الحقائق الفنية - تنظيم التدفّقات وإدارة مشتركة لفترات الجفاف والفيضان وتبادل فوري للبيانات - إلى ترتيبات مؤسسية قابلة للتطبيق.
أُعلن التشغيل الرسمي لسدّ النهضة في موقعه بغوبا، إقليم بنيشنقول–قمز، خلال مراسم موسّعة حضرها قادة أفارقة، بينهم رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله، ورئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، ورئيس الصومال حسن شيخ محمود، ورئيس كينيا وليام روتو، إلى جانب شخصيات أفريقية ودولية. وغابت عن الحفل وفود رسمية من مصر والسودان، في إشارة سياسية عكست استمرار تباعد المواقف رغم اكتمال المشروع.
والمخرج الأكثر واقعية هو ترقية «إعلان مبادئ 2015» إلى عقدٍ تشغيلي تفصيلي ومتدرّج، يوازن بين حقوق الانتفاع المنصف وضمانات التدفق الآمن، ويؤسّس لشراكة تُدار بالأرقام لا بالشعارات
في كلمته، شدّد رئيس الوزراء آبي أحمد على أنّ السد "إنجاز أفريقي" يهدف إلى التنمية، ولا يستهدف الإضرار بدول المصبّ، مؤكّدًا أن المرحلة المقبلة تقوم على التعاون وتبادل المنافع. ورافقت المراسم فعاليات داخل موقع السد وفي مدن إثيوبية أخرى، في أجواء احتفالية أرادت أديس أبابا من خلالها تأكيد رمزية المشروع، بوصفه محطة مفصلية في مسار الطاقة والتنمية.
تعلن أديس أبابا قدرة تصميمية تقارب 5,150 ميغاواط عبر 13 توربينًا من نوع «فرانسيس»، وخزانًا أقصاه نحو 74 مليار متر مكعّب. بدأ التوليد جزئيًا منذ 2022، على أن يرتفع الإنتاج تدريجيًا مع دخول وحدات إضافية إلى الخدمة، واستكمال الربط بالشبكة الوطنية وشبكات الربط الإقليمي تمهيدًا للتصدير.
تراوحت تقديرات الكلفة بين نحو 4.2 و5 مليارات دولار، بتمويل داخلي واسع ومساهمات شعبية في ظل محدودية التمويل الدولي. تعني هذه الأرقام لإثيوبيا، تقليص عجز الإمداد، ورفع معدلات الوصول للكهرباء وتثبيت موثوقية الشبكة، مع أثر مباشر على كلفة الطاقة للقطاعين الصناعي والخدماتي. أما بالنسبة للدول المجاورة، فالمشروع نافذةً أمام تبادل الكهرباء عبر الربط الإقليمي متى اكتملت البنية الناقلة، واتُّفِق على ترتيبات تجارية مستقرة.
التدشين يكرّس واقعًا تشغيليًا جديدًا في الحوض، ويعيد ترتيب موازين التفاوض، من دون أن يلغي الحاجة إلى تسوية تضبط العلاقات المائية وتحدّد آليات التنسيق في الطوارئ
وبالتوازي، أثار تزامن الإعلان عن اكتمال البناء مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023 مع رصد نشاط زلزالي ملحوظ نقاشًا حول السلامة الزلزالية. فقد سُجّلت عشرات الهزات خلال أسابيع، بينها هزة بلغت 5.7 درجات، ما دفع بعض الخبراء إلى طرح فرضية «أثر الكتلة المائية» لخزان يتراوح أقصاه بين 71 و74 مليار م³ (مع تخزين فعلي قُدِّر آنذاك بنحو 62.5 مليار م³) في نطاق الأخدود الأفريقي العظيم. في المقابل تُظهر سجلات العقود الماضية أن تكرار الزلازل ليس حدثًا طارئًا على إثيوبيا (سُجِّل مثلًا أكثر من 170 هزة عام 2005 قبل بدء البناء)، كما أن الربط السببي بين التخزين والنشاط الزلزالي لم يُحسَم علميًا؛ وقد حذّر باحثون - منهم العالم المصري في وكالة ناسا عصام حجي - من التهويل والحديث عن "انهيار وشيك".
إقليميًا، تقدّم الحكومة الإثيوبية السد باعتباره "فرصةً مشتركة" إذا قورن التشغيل بإجراءات تنسيق واضحة مع دولتي المصبّ. وتشير التقديرات الفنية إلى أن التشغيل المتناسق بين «سد النهضة» والسدود أسفل النهر يمكن أن يخفّف عجز المياه، ويحافظ على استخدامات السودان، ويقلّص خسائر التبخّر على مستوى النظام، بينما يفاقم غياب التنسيق المخاطر في سنوات الجفاف المتعدّدة.
عمليًا، سيقاس نجاح "اليوم التالي" بوجود قواعد تشغيل مرنة، وتبادل آني للبيانات الهيدرولوجية، وآليات إنذار وتسوية فنية سريعة - وهي عناصر تحدّد ما إذا كان السد سيبقى مشروعًا وطنيًا للطاقة فحسب، أم يتحوّل أيضًا إلى رافعة تعاونٍ يعمّ أثرها إثيوبيا وجوارها.
على مدى أكثر من عقد، استنفدت القاهرة والخرطوم مسارات التفاوض والوساطة والضغط الدبلوماسي لمحاولة وقف المشروع أو تعديل قواعد ملئه وتشغيله. ومع إعلان الجانب المصري في يوليو/تموز 2025 بلوغ المحادثات "طريقًا مسدودًا" بعد اثني عشر عامًا من الجولات، تبدّل السؤال من «كيف نمنع؟» إلى «كيف نتكيّف؟». فالتدشين يكرّس واقعًا تشغيليًا جديدًا في الحوض، ويعيد ترتيب موازين التفاوض، من دون أن يلغي الحاجة إلى تسوية تضبط العلاقات المائية وتحدّد آليات التنسيق في الطوارئ.
تطلب القاهرة والخرطوم اتفاقًا قانونيًا ملزمًا يضمن تدفقات مأمونة، خصوصًا في سنوات الشحّ، فيما تتمسّك أديس أبابا بمبدأ "الانتفاع المنصف والمعقول" ورفض القيود المسبقة
يحمل هذا التحوّل أبعادًا قانونية ونفسية؛ إذ استندت الذهنية الرسمية طويلًا إلى اتفاقيتي 1929 و1959 اللتين كرّستا حصصًا سنوية (نحو 55.5 مليار م³ لمصر و18.5 مليار م³ للسودان) ومنطق "حق الاعتراض" من المصبّ. اليوم، ومع وجود منشأة تخزين وتوليد ضخمة في المنابع، تطلب القاهرة والخرطوم اتفاقًا قانونيًا ملزمًا يضمن تدفقات مأمونة، خصوصًا في سنوات الشحّ، فيما تتمسّك أديس أبابا بمبدأ "الانتفاع المنصف والمعقول" ورفض القيود المسبقة.
عمليًا، لا يصنع أي اتفاق مياهًا في مواسم الجفاف؛ ما يصنع الفارق هو قواعد تشغيل مرنة، وتبادل فوري للبيانات الهيدرولوجية، وآليات إنذار مبكر تُفعَّل تلقائيًا عند انخفاض الإيرادات، إلى جانب حزم تكيّف محلية - في مصر مثلًا - لتحديث أساليب الري، وتقليل الفاقد، وتنسيق إدارة السد العالي مع تشغيل «النهضة».
في المنظور الإثيوبي الرسمي، يمثّل التدشين نهاية "فيتو المصبّ" وبداية انتفاعٍ تنموي في المنابع يقوم على عدم الإضرار وتقاسم المنافع. في المقابل، ترى القاهرة أنه انتقاص من أمنها المائي ووزنها الإقليمي، وتطالب بضمانات تشغيلية مُلزِمة ومقعدٍ في آليات الإدارة. بين السرديتين تقف حقائق التشغيل: السد لا يستهلك المياه بل يمرّرها بعد توليد الكهرباء، فيما يكمن الاختبار الحقيقي في إدارة سنوات الجفاف المتعدّدة. تشير النماذج الهيدرولوجية إلى أن التشغيل المتناسق يمكن أن يخفّف تقلبات التدفّق، ويقلّص خسائر التبخّر ويرفع اعتمادية الإمداد، لكن نقل هذا الاحتمال التقني إلى واقع سياسي يحتاج إلى ثقة متبادلة وبنية مؤسسية لتبادل البيانات واتخاذ القرار المشترك.
عمليًا، يلوح في الأفق مساران: "تهدئة منظّمة" عمادها تبادل البيانات في الزمن الحقيقي، وسياسات تشغيل مرنة تُفعَّل تلقائيًا في الجفاف الممتد، ولجنة فنية دائمة بآلية سريعة لفضّ النزاعات؛ أو "إدارة خلاف مزمن" تتجدّد مع كل موسم شحّ بما يرفع الكلفة على الجميع، ويقضم ثقة المستثمرين وشبكات الربط. والمخرج الأكثر واقعية هو ترقية «إعلان مبادئ 2015» إلى عقدٍ تشغيلي تفصيلي ومتدرّج، يوازن بين حقوق الانتفاع المنصف وضمانات التدفق الآمن، ويؤسّس لشراكة تُدار بالأرقام لا بالشعارات.
خلاصة المشهد أنّ حوض النيل انتقل عمليًا إلى زمن "تشغيل المنبع" مع مسؤوليات مشتركة على الجميع؛ فبعد تدشين «النهضة» صار الامتحان الحقيقي سياسيًا-فنيًا في آن: شفافيةٌ ثابتة في تبادل البيانات، وقواعد تشغيل مرنة تُدار تحت ضغط الجفاف والفيضان، ومؤسسيةٌ إقليمية قادرة على اتخاذ قرارات سريعة وملزِمة. ما يعني لإثيوبيا كهرباء أوثق وربطًا إقليميًا أوسع، وللدولتين عند المصبّ أمنًا مائيًا أكثر متانة حين تُدار الخزانات بتنسيقٍ فعلي. وبين براغماتية التعايش وكلفة التصعيد، تُظهر خبرات الأحواض المشتركة والأدلة العلمية أن التعاون يوفّر مكاسب لا تحققها المواجهة؛ ويبقى الحسم لإرادةٍ سياسية تُحوّل الإمكانات التقنية إلى ترتيبات نافذة تُخفّف المخاطر وتوزّع المنافع بعدالة.