الاثنين 23 يونيو 2025
تشهد طموحات تركيا في القرن الأفريقي تصعيدًا لافتًا خلال الفترة الأخيرة، حيث اعتمدت أنقرة استراتيجيات تعاون متعددة الأبعاد. خطوات تندرج ضمن مساعيها تعزيز نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، مستندة إلى سياسة خارجية تهدف إلى تحقيق مكاسب بعيدة المدى.
كشفت تقارير عن تفاصيل اتفاق مثير للجدل أبرمته الحكومة الصومالية مع الجانب التركي، يمنح أنقرة امتيازات غير مسبوقة في استغلال النفط والغاز في المياه الإقليمية الصومالية. وتنص الوثيقة على منح تركيا سيطرة حصرية على 90٪ من عائدات هذه الموارد، مقابل حصول الصومال على نسبة لا تتجاوز 5٪ خلال فترة الاسترداد الأولي، وهي المرحلة التي تُسترد فيها نفقات الشركات المستثمرة من إجمالي العائدات قبل توزيع الأرباح حسب نظام "نفط التكاليف". بالإضافة إلى ذلك، يحصل الصومال على 5٪ أخرى كرسوم تشغيلية، ليكون إجمالي نصيب الصومال في هذه المرحلة ضئيلاً جداً، غير متناسب البث مع حجم موارده.
من الواضح أن النسبة الممنوحة لتركيا في الاتفاق تتجاوز بشكل كبير المعدلات المتعارف عليها في مثل هذه الاتفاقيات، حيث تتراوح النسب عادةً بين 20٪ و70٪. فعلى سبيل المثال، تتراوح نسب الشراكة خلال فترة الاسترداد، في مصر بين 25٪ و40٪، بينما تصل في كينيا إلى حدود 60٪.
تمتلك تركيا الحق الحصري في استغلال هذه المناطق، وفقًا للمادة (4.1)، ولا يجوز لأي دولة أخرى إبرام اتفاقيات مع الصومال بشأنها. ما يظهر بوضوح كيف أن الاتفاق يميل بشكل مفرط لصالح الجانب التركي، على حساب المصالح الصومالية.
في سياق متصل، أعلن وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان، في 11 أبريل/ نيسان الماضي، أن سفينة الأبحاث التركية "أوروتش رئيس" تتواجد حالياً في المياه الإقليمية الصومالية، وقد أنجزت نحو 78٪ من أنشطة الاستكشاف الموكلة إليها. ومن المنتظر، بحلول سبتمبر/أيلول المقبل، أن تنتشر خمس سفن حربية تابعة للبحرية التركية في المنطقة، في تحرك لا يخلو من رسائل سياسية، تتجاوز مجرد الطابع الاستكشافي، لتعكس أيضاً تصاعد الحضور العسكري التركي في المنطقة.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية وُقِّعت في مارس/آذار 2024، حيث منحت الحكومة الصومالية بموجبها شركة البترول التركية (TPAO) حقوقًا حصرية لاستكشاف وإنتاج النفط والغاز في ثلاث مناطق بحرية، تمتد على مساحة تبلغ 16 ألف كلم، من أصل 216 منطقة بحرية صومالية، كما أشار وزير الخارجية الصومالي عبر منصة X.
أثارت الاتفاقية جدلا واسعًا في الأوساط الصومالية، وسط اتهاماتٍ بأنها تمثل شكلًا جديدًا من الهيمنة الاقتصادية، مُغلّفًا بخطاب "الشراكة التنموية". تتمثل جوهر الاعتراضات في الإعفاءات غير المسبوقة الممنوحة للشركات التركية، والتي شملت إعفاءً كاملًا من الرسوم السيادية
كما نصّت الاتفاقية على العمل على إعادة بناء البحرية الصومالية، ودعم جهود مكافحة القرصنة والإرهاب. وقد صادق البرلمان الصومالي على هذه الوثيقة، إلا أن عددًا من النواب الصوماليين صرّحوا بأنهم لم يطّلعوا على النسخة الرسمية للاتفاقية. وفي هذا السياق، وصفت إحدى الصحف الصومالية الاتفاقية بأنها "فاضحة"، مشيرة إلى أن الرئيس الصومالي تعمّد إخفاء تفاصيلها.
من جانبه، دافع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود عن الاتفاقية، مؤكدًا أنها تقوم على أساس المصالح المتبادلة بين الطرفين، مشيرًا إلى أن العلاقات بين الصومال وتركيا تمتد لسنوات طويلة، وتشهد تعاونًا استراتيجيًا. وأوضح أن تركيا تلعب دور الوسيط في حال حدوث خلافات مع الدول المجاورة. كما شدد الرئيس على أن عمليات التنقيب عن النفط والغاز في الصومال لن تكون حصرية لتركيا، مبينًا أن أنقرة كانت الدولة الوحيدة التي تقدمت بعرض رسمي للتنقيب في البلاد.
أثارت الاتفاقية جدلًا واسعًا في الأوساط الصومالية، وسط اتهاماتٍ بأنها تمثل شكلًا جديدًا من الهيمنة الاقتصادية، مُغلّفًا بخطاب "الشراكة التنموية". تتمثل جوهر الاعتراضات في الإعفاءات غير المسبوقة الممنوحة للشركات التركية، والتي شملت إعفاءً كاملًا من الرسوم السيادية، التي تُعد أداةً جوهريةً لحماية المصالح الوطنية، ومصدرًا مهمًا للإيرادات العامة، لا سيما في الدول النامية. ففي حين تتراوح نسبة الرسوم عالميا بين 5٪ و25٪، تُعفى الشركات التركية، بموجب المادة 4.5 من الاتفاق، من دفع أي رسوم مسبقة تتعلق بالتوقيع أو المكافآت أو الإدارة، على خلاف ما هو معمول به مع شركات النفط العالمية. ويُعد إعفاء الشركات التركية سابقةً تُثير الكثير من التساؤلات حول مدى مراعاة مصلحة البلاد.
تعززت هذه الانتقادات بما نصّت عليه المادة (6) من الاتفاقية، التي تمنح تركيا الحق الحصري في تأمين مشاريعها الاقتصادية داخل الأراضي الصومالية، باستخدام قواتها العسكرية. وهو بند أثار مخاوف مشروعة من احتمال استغلال هذا التواجد العسكري في أنشطة غير قانونية، مثل تهريب النفط الصومالي، وهو سيناريو سبق أن شهدته دول أفريقية أخرى، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية.
تسمح لتركيا بالانسحاب من الاتفاقية أو استبدال شركائها دون الرجوع إلى الحكومة الصومالية. وهذا يمثل تهديدًا مباشرًا للسيادة الوطنية، ويثير مخاوف من سيناريوهات شديدة الحساسية، مثل إدخال أطراف ثالثة – كإسرائيل مثلاً – في الشراكة من دون موافقة الدولة الصومالية
تجدر الإشارة إلى أن تكاليف هذا التأمين أُدرجت ضمن نظام "نفط التكاليف"، ما يعني تحميل الدولة الصومالية أعباءً مالية إضافية، وتقليص العائد. كما أن الاتفاق يُلزم الحكومة الصومالية بتحمل أي أعباء مالية ناتجة عن تعديلات تشريعية مستقبلية قد تزيد من تكاليف الاستثمار التركي، وهو ما يمثل سابقة تمس السيادة التشريعية للدولة.
في السياق ذاته، زادت المادة (9) من حدة الجدل المحيط بالاتفاقية، إذ نصّت على أن يكون مقر التحكيم في حال نشوء نزاع في مدينة إسطنبول، مع إعطاء الأولوية للاختصاص القضائي التركي على المحاكم الصومالية. وقد اعتُبر هذا الأمر إخلالًا بمبدأ الحياد، وتجاوزًا للأعراف الدولية التي تفضّل أن يتم التحكيم في دول محايدة أو في الدولة المالكة للموارد، ضمانًا لاستقلالية القانونية.
بالإضافة إلى ذلك، تنص المادة (4.2) على إعفاء الشركات التركية من شرط إنشاء مكتب محلي لإدارة المشروع داخل الصومال، وعدم التزامها بتطوير البنية التحتية، أو نقل التكنولوجيا إلى البلاد. ويُعدّ ذلك حرمانًا مباشرًا للدولة من فرص حيوية في مجالات توفير فرص العمل، وبناء القدرات الوطنية.
أما المادة (4.8)، فقد منحت تركيا سلطة حصرية في تصدير النفط الصومالي، دون إشراك الحكومة الصومالية في اتخاذ القرارات التجارية المتعلقة بالمشروع أو في إدارة عائداته، التي من حق تركيا أن تحتفظ بها في الخارج. يؤدي هذا الوضع إلى حرمان الاقتصاد الصومالي من تدفقات العملة الأجنبية عبر البنوك المحلية، ما يؤثر سلبًا على الاستقرار المالي للدولة، ويُضعف قدرتها على تتبع حركة الأموال المرتبطة بمواردها.
أما الأخطر من ذلك، فيتمثل في ما نصت عليه المادة (4.3)، التي تسمح لتركيا بالانسحاب من الاتفاقية أو استبدال شركائها دون الرجوع إلى الحكومة الصومالية. وهذا يمثل تهديدًا مباشرًا للسيادة الوطنية، ويثير مخاوف من سيناريوهات شديدة الحساسية، مثل إدخال أطراف ثالثة – كإسرائيل مثلاً – في الشراكة من دون موافقة الدولة الصومالية.
لم يقتصر الجدل الذي أثارته هذه الاتفاقية على الداخل الصومالي، بل امتد ليشمل منطقة القرن الأفريقي بأكملها، في ظل تصاعد المخاوف من تنامي النفوذ التركي في الإقليم. ووفقًا لتقرير إثيوبي، زاد الغموض المحيط ببنود الاتفاقية، ولا سيما تلك المتعلقة بمنح أنقرة نفوذًا شبه كامل على قطاع الطاقة الصومالي، من حدة الجدل والمخاوف الإقليمية. وفي هذا السياق، عبّر إقليم صوماليدلاند - الذي أعلن الاستقلال من طرف واحد عن الصومال - عن رفضه القاطع للاتفاقية، معتبرًا إياها خطوة خطيرة وغير شرعية، تهدد استقرار المنطقة، وتزيد من تعقيد التوازنات الجيوسياسية الهشة في القرن الأفريقي.
في سياق استراتيجيتها للانفتاح على أفريقيا، أشار تقرير تركي إلى أن الاتفاقية الموقعة مع الصومال تمثل محورًا رئيسيًا في تحركات أنقرة نحو القارة السمراء. وصنّف التقرير الصومال دولة ذات أولوية، نظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي على البحر الأحمر وفي القرن الأفريقي. كما أبرز ذات التقرير أن الصومال تزخر بموارد طبيعية غير مستغلة، تُقدّر بنحو 6 مليارات متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة، بالإضافة إلى ما يقرب من 30 مليار برميل من الهيدروكربونات البحرية. وأكّد أن الاتفاقية تمثل خطوة متقدمة لتعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا، وتنويع مصادر اقتصادها عبر توسيع حضورها في واحدة من أكثر المناطق حيوية على المستوى العالمي. كما، رأت BBC أن الاتفاقية التركية مع الصومال تُعد الأهم ضمن أكثر من 20 اتفاقية وقعتها أنقرة مع دول أفريقية أخرى، من بينها السودان والنيجر وجيبوتي ونيجيريا.
لم يقتصر الجدل الذي أثارته هذه الاتفاقية على الداخل الصومالي، بل امتد ليشمل منطقة القرن الأفريقي بأكملها، في ظل تصاعد المخاوف من تنامي النفوذ التركي في الإقليم
أما على صعيد العلاقات الثنائية، فقد شهدت العلاقات الصومالية التركية تقاربًا ملحوظًا منذ عام 2011، عقب الزيارة التاريخية للرئيس التركي رجب أردوغان إلى مقديشو، حيث استثمرت أنقرة الأوضاع الإنسانية الصعبة لتعزيز حضورها الإقليمي، متعهدة بتقديم مساعدات شاملة. وبحسب تصريحات أردوغان، قدمت تركيا للصومال أكثر من مليار دولار بين عامي 2011 و2022، مستثمرة هذه المساعدات لترسيخ نفوذها في البلاد والمنطقة بأسرها.
عززت تركيا وجودها بإنشاء قاعدة عسكرية في مقديشو، عام 2017، قامت عبرها بتدريب أكثر من 16 ألف جندي صومالي. ويقدّر عدد الجنود الأتراك المنتشرين حالياً في الصومال بنحو 2500 جندي، بعد إرسال 500 جندي مؤخراً. وبينما تعلن أن تواجدها العسكري يهدف إلى دعم الحكومة الصومالية في مواجهة حركة الشباب المسلحة، تشير تقارير متعددة إلى أن جزءًا كبيرًا من مهمة القوات التركية يتركز على حماية المشاريع الاقتصادية والمصالح التركية المتنامية داخل الصومال.