تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

أسطورة "إبادة المسيحيين" في نيجيريا: توظيف أمنيّ لتبييض جرائم إسرائيل

4 نوفمبر, 2025
الصورة
أسطورة "إبادة المسيحيين" في نيجيريا: توظيف أمنيّ لتبييض جرائم إسرائيل
Share

خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، جدّد نائب الرئيس النيجيري كاشم شيتيما تأكيد تضامن بلاده مع الشعب الفلسطيني، الذي تعرّض طوال الأشهر الثلاثة والعشرين الماضية لحملة إبادة جماعية، تمثّلت في قصف متواصل وغزوات برّية نفّذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وفي الزيارة نفسها، صوّت الوفد النيجيري لصالح "إعلان نيويورك" الداعي إلى خطوات ملموسة لتنفيذ حلّ الدولتين بوصفه مسارًا لتسوية سلمية للقضية الفلسطينية.

هذا الموقف ليس طارئًا على السياسة الخارجية لنيجيريا، فمنذ اعترافها بدولة فلسطين عام 1988 ظلّت مواقفها متسقة إزاء ما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي إسرائيل وحلفائها الغربيين. ففي عام 2009 اضطلعت نيجيريا بدورٍ محوري في تشكيل بعثة تقصّي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان بشأن غزة، المعروفة بتقرير "غولدستون"، وقد ترأس المجلس آنذاك السفير النيجيري في جنيف الدكتور مارتن أُهويوبه. وفي 2012 صوّتت نيجيريا لصالح قرار الجمعية العامة الذي منح فلسطين صفة دولةٍ مراقب غير عضو ((A/RES/67/19، أُقرّ بأغلبية 138 مقابل 9 وامتناع 41. ثم عادت في 2017، خلال الجلسة الطارئة حول "وضع القدس" ((A/RES/ES‑10/19، بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2017، لتصوّت لصالح قرارٍ يعلن أن الاعتراف الأحادي من الولايات المتحدة ورئيسها آنذاك دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل "لاغٍ وباطل".

كما جرت العادة، انقسمت ردود الفعل داخل نيجيريا على خطاب كاشم شيتيما في الأمم المتحدة، ففريقٌ غير قليل رحّب بقدرٍ من الاعتزاز بقدرة بلادهم على اتخاذ موقف دبلوماسي واضح على الساحة الدولية رغم تعقيدات الداخل، ولا سيما أنّ نائب الرئيس أكّد صراحة أنّ نيجيريا "خاضت نضالًا طويلًا وشاقًّا مع التطرّف العنيف" ومع ثقافة التمرّد. في المقابل، رأى منتقدون أنّ تصريحاته لا تعكس واقع أداء الحكومة، في وقت يعيش فيه المواطنون دوامة عنفٍ مسلّح لا تهدأ، وتُترك جماعات هشّة، ومنها أقليات إثنية ومجتمعات مسيحية، مكشوفةً للمخاطر، فيما يرزح عموم الناس تحت وطأة انفلاتٍ أمنيٍّ مزمن.

إن آلاف الأرواح التي فُقدت في مجتمعاتنا، وأحزان العائلات المكلومة هنا، لا تعني، في نظر ماكينة الدعاية لإسرائيل والولايات المتحدة، أكثر من "ملحقٍ دعائي" يُشغل به الرأي العام كي لا تُواجِه إسرائيل المساءلة حيث يجب

وأعقب ذلك مباشرةً موجةٌ دولية مصطنعة من "الغضب" المعلّب، صيغت بعنايةٍ في غرف الدعاية الرقمية، زعمت وجود قتلٍ منهجي للمسيحيين في نيجيريا يبلغ حدّ "الإبادة الجماعية". قادت هذه الحملة حساباتٌ نافذة في أوساط اليمين المتطرّف على وسائل التواصل -منها حسابات للصهيوني‑المسيحي إيال ياكوبي- مستعيدةً الحماسة نفسها التي رُوّج بها من قبل لسردية "إبادة البيض" المختلَقة في جنوب أفريقيا. وتبنّى هذا الخطاب أيضًا السيناتور الأميركي المؤيد لإسرائيل تِد كروز، فانهالت عليه إعادة التغريد من آلاف مستخدمي منصة «إكس» مدعومةً بجيشٍ من الحسابات الآلية تجاوز مئة ألف، ورفعتها خوارزميات المنصة إلى مراتبٍ عليا من الانتشار. وفي السياق التحريضي نفسه، أسهم الإعلامي الأميركي بيل ماهر في خدمة أهداف الدعاية الإسرائيلية، مُكرّرًا رواياتٍ فظيعة فنّدتها كبريات الصحف عن اغتصابات وقطع رؤوس وحرق أطفالٍ أحياء في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ وقد زعم أنه "شاهد مقاطع الفيديو" من دون أن يقدّم دليلًا واحدًا، وهو المنوال نفسه الذي سلكه سائر مروّجي هذه المزاعم الكاذبة.

إلى جانب ذلك "التعاطف المفاجئ" مع مسيحيي نيجيريا، يجمع هذه الأصوات قاسمٌ واحد واضح: ولاءٌ غير مشروط لإسرائيل. والغاية لا تكاد تختبئ خلف الأقنعة، وهو اختطاف نقاشاتٍ وأحداثٍ جارية في بلدان أخرى، وإعادةُ تأطيرها أدواتٍ لدفع أجنداتهم الدعائية والاستخبارية.

ومع ذلك، فالتنبيه إلى التلاعب الدعائي لا يعني إنكار الواقع القاسي؛ إذ لا تزال نيجيريا تشهد هجمات دامية تُثقل الحياة اليومية للناس. وتواصل وكالات الأنباء توثيق اعتداءات مدمّرة تطال مجتمعاتٍ مسيحية ومسلمة على السواء، وسط غيابٍ أو عجزٍ واضح محليًّا ودوليًّا عن الاستجابة الفاعلة لها. وحتى قياداتٌ دينية مسيحية بارزة، مثل القس إينوك أديبوي من كنيسة جماعة المؤمنين المفديين (RCCG) وآخرين، طالتهم انتقاداتٌ لقربهم من سياسيين تتحمّل حكوماتهم -بكفاءتها المتدنية وتقصيرها- نصيبًا من المسؤولية عن تفاقم معاناة رعاياهم. وتعكس هذه "المساءلة" في جوهرها رخاوة قبضة الدولة على وظائفها الأساسية تجاه المواطنين، ما يدفع شرائح واسعة إلى الاحتماء بِبُنى دينية أو مجتمعية محلية، أو برموز نفوذٍ تقليدية، لتمثيل مصالحهم وضمان كرامتهم وأمنهم. هذا المشهد المتكرّر في السجال العام ينبغي ألّا يُخلَط بينه وبين ادعاء ظهور «حركة مسيحية متنامية» تتصدّى لـ«إبادة جماعية منهجية» لأتباعها.

لطالما اتخذت جماعاتٌ متمرّدة في نيجيريا من الدين غطاءً، فجعلت الإسلام واجهةً لتبرير أيديولوجياتٍ عنيفة ومتطرّفة. وبسبب هذا الغطاء، تميل قطاعاتٌ محلية إلى النظر في أفعالها من زاويةٍ دينية بحتة، فيُسقِط بعضهم جرائم قلّةٍ مارقة على "دين" ملايين المسلمين. ومع أن نشاط هذه الجماعات يحمل تلوينًا دينيًا لا يُنكر، فإن دوافعها في كثير من الحالات سياسيةٌ أو إجرامية. فهذه التشكيلات تلجأ إلى الخطف والاتجار بالسلاح والابتزاز، لإرباك النظام السياسي والاقتصادي القائم أو للحصول على مكاسب مباشرة.

حوّلت الأذرع الرقمية الموالية لإسرائيل بوصلتها إلى الترويج لأسطورة "إبادةٍ" في نيجيريا، استكمالًا لمحاولاتٍ سابقة لجرّ الرأي العام النيجيري إلى خطابٍ مؤيّد لإسرائيل

وعليه، تسقط محاولةُ تفسير الأزمة الأمنية في نيجيريا بوصفها دينيةً قبل كل شيء أمام حقيقةٍ أساسية: المسلمون هناك ليسوا متفرّجين محصّنين من العنف، بل هم ضحايا متكررون له، ويتكبّدون إلى جانب غيرهم أهوال دورة الدم التي تُقدَّم في خطاب التحريض على أنها "موجّهةٌ حصراً ضد المجتمعات المسيحية". والإنصاف يقتضي الإقرار بأن الفاعلين والضحايا موزّعون على مختلف الأديان والأعراق؛ ففي 11 أغسطس/آب 2025، تعرّضت رعية القديس بولس في أَيِ‑توار (محافظة كاتسينا‑آلا، محور سانكيرا، ولاية بنوِي) لهجومٍ شنّته ميليشيات من الفولاني؛ فأُحرقت الكنيسة ومعظم دور العبادة في المنطقة، وامتدّ الحريق إلى المنازل والمباني الملحقة، وقُتل عشراتٌ وجُرح كثيرون.

بعدها بأيام فقط، في 19 أغسطس/آب 2025، هاجم مسلحون مسجدًا في قرية أونغوان مانتاو (منطقة ملومفاشي، ولاية كاتسينا) أثناء صلاة الفجر؛ وقدّرت المصادر الحكومية القتلى بسبعة عشر، فيما رفعت مصادرُ محلية الرقم إلى نحو 27 فردا، وذهبت تقاريرُ أخرى إلى أنه ربما بلغ خمسين. أُضرمت النيران في منازل، وتعرّض كثيرون للتهجير أو الخطف.

وفي أبرشية ماكردي (ولاية بنوِي)، قُتل في يونيو/حزيران أكثر من خمسين شخصًا، واضطرّت خمس عشرة رعية كاثوليكية إلى إغلاق أبوابها خلال شهر واحد بفعل هجمات رعاةٍ مسلّحين. وفي يوليو/تموز، هاجم مسلّحون يُعتقد أنهم من «مجموعة لكورافا» (المرتبطة بولاية الساحل لتنظيم «الدولة الإسلامية») قرية كوالاجيا في منطقة تنغزا (ولاية سوكوتو). كان كثير من الأهالي عند أوقات الصلاة أو يعملون في الحقول؛ فذُبح أكثر من عشرين مسلمًا، وأُصيب آخرون، وأُحرقت مساجد ومنازل ومزارع.

ومع ذلك، ينبغي التشديد على أنّ المسيحيين يكونون في أحيانٍ كثيرة هدفًا مباشرًا لاعتداءات بعينها: تعرّضت كنائس للهجوم أثناء العبادة، وخُطف كهنة، وأُحرقت قرى مسيحية بكاملها في ولايات الهضبة وبنوِي وجنوب كادونا. هذه الوقائع ليست منفصلة عن الأزمة العامة؛ إنها لحظات تُسْتَخدم فيها الهوية الدينية كـ"وسمٍ" يُشار به إلى جماعة بعينها لإرهابها. وبهذا المعنى، يتحمّل المسيحيون عبءَ انعدام الأمن العام شأنهم شأن سائر النيجيريين، فوق أذى إضافي ناجم عن "الاستهداف القائم على الإيمان" في هجمات محدّدة. الاعتراف بهذا الواقع لا يمحو معاناة المسلمين، ولا يرفد سردية "الإبادة" الملفّقة، بل يرسّخ النقاش في تعقيد أنماط العنف عبر المشهد النيجيري المتشظّي.

وبسبب التمرّد، انهارت اقتصاداتٌ زراعية كانت مزدهرةً في ولاياتٍ شمالية ذات غالبية مسلمة، وتراجعت مكاسب التعليم ومكافحة الفقر. وبحكم الثقل السكاني، يتحمل المسلمون، من حيث الأرقام المطلقة، القسط الأكبر من الكلفة البشرية. وفوق ذلك، شهد الشمال اغتيال عشرات الدعاة المسلمين البارزين الذين انتقدوا التمرّد وإهمال الدولة، وتردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية التي وفّرت للتطرّف بيئةً خصبة؛ وقد قُتل بعضهم مع أفراد من عائلاتهم.

غالبًا ما تتكرّر هذه الصورة في البيئات التي مزّقتها الجماعاتٌ المسلّحة؛ فيكون أوّل الضحايا أولئك الذين يشتركون، ظاهريًا، من أبناء الطائفة أو الجماعة الإثنية نفسها، لكنهم يرفضون أيديولوجيا المسلّحين ومناهجهم؛ فيُستهدفون لأن المتطرّفين يصنّفونهم «مرتدّين» أو «غير جديرين» بالانضواء تحت لوائهم. ويستدعي ذلك إلى الأذهان ما وقع قبيل قيام دولة إسرائيل من تفجيراتٍ طالت مواقع تراث يهودية في عدد من بلدان المشرق، نفّذتها عصابات صهيونية لبثّ الرعب في أوساط التجمعات اليهودية، وتأليبها على محيطها الاجتماعي، ودفعها إلى الهجرة نحو فلسطين خدمةً لأهداف سياسية واقتصادية؛ وقد انخرط كثير من أفراد تلك العصابات، بسجلاتهم المعروفة، لاحقًا في ما يُعرف اليوم بـ«جيش الاحتلال الإسرائيلي».

وعلى الضفة الأخرى من المشهد الدولي، برز خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان كلٍّ من المملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا وكندا والبرتغال الاعتراف بدولة فلسطين، وهو تحوّل لافت في مواقف عدد من حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل، ممّن طالما غضّوا الطرف عن عنفٍ منهجي وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي. وتستعد بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وأندورا وسان مارينو لخطواتٍ مماثلة، فيما استضافت فرنسا فعاليةً جانبية مشتركة مع السعودية بعنوان "قمّة حلّ الدولتين" لتكثيف الجهد نحو وقف القتال وفتح مسارٍ سياسيٍّ يقوم على هذا الحل، رغم ضغوطٍ إسرائيلية وأميركية واسعة. ومع هذا التراجع الدبلوماسي، حوّلت الأذرع الرقمية الموالية لإسرائيل بوصلتها إلى الترويج لأسطورة "إبادةٍ" في نيجيريا، استكمالًا لمحاولاتٍ سابقة لجرّ الرأي العام النيجيري إلى خطابٍ مؤيّد لإسرائيل.

في الداخل النيجيري تنشط أيضًا مجموعات ضغطٍ إسرائيلية، بعضها تحت غطاء تعزيز العلاقة بين نيجيريا والولايات المتحدة. من بينها مجموعة يقودها الأميركي جاك باركروفت، تقاضت 20 ألف دولار للضغط على أعضاء الكونغرس الأميركي من أجل إدراج نيجيريا في "اتفاقات إبراهيم". ومثل هذا المسار -إن تمّ- ينطوي على خطر تحويل نيجيريا من فاعلٍ دوليٍّ مستقل وعضو في حركة عدم الانحياز إلى تابعٍ للمحور الأميركي–الإسرائيلي، يتبع إملاءات القوة دون التفاتٍ للرأي العام المحلي أو الالتزامات الدولية أو الاعتبارات الأخلاقية. كما يقوّض مباشرةً ثوابت السياسة الخارجية النيجيرية، وفي مقدّمها دعم قيام دولة فلسطينية. وإلى جانب ذلك، تشير وقائع حديثة منها لقاء وزير الدولة النيجيري للشؤون الخارجية بنائب وزير الخارجية الإسرائيلي إلى تعهّداتٍ بتوسيع التعاون في مكافحة الإرهاب والابتكار والتكنولوجيا؛ وهي القطاعات نفسها التي يستخدمها المتعاقدون الإسرائيليون لتشديد قبضتهم. مجمل هذه الخطوات يوحي بمسعى لتحويل نيجيريا إلى "قمرٍ صناعي" سياسي لبلدٍ يفوق سكانه 200 مليون نسمة، عبر استغلال بيئة الانفلات الأمني التي أسهمت السياسات الغربية والإسرائيلية أصلًا في تفاقمها.

من المفارقات الكاشفة أن عددًا من المعلّقين الموالين لإسرائيل، الذين اكتشفوا فجأةً "إبادةً للمسيحيين" في نيجيريا، اختتموا تعليقاتهم بالسؤال: "لماذا لا يتحدّث أحدٌ عنها؟"؛ وهو سؤالٌ يكشف سياق الحملة: صرف الأنظار عن الغضب العالمي من إسرائيل. فبحسب دراسة منسوبة إلى جامعة هارفارد، "أخفَت" إسرائيل نحو 400 ألف إنسان في غزة، أكثر من نصفهم أطفال. ويقدّر مقالٌ نشرته مجلّة «ذي لانست» في يناير/كانون الثاني عدد القتلى المباشرين للقصف الإسرائيلي بأكثر من 80 ألفًا، غالبيتهم من الأطفال. وقد وثّقت تقارير وشهادات متواترة انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الدولي ارتكبتها القوات الإسرائيلية: استهدافٌ متعمّد للأطفال، قصفٌ عشوائي للعائلات، نهب ممتلكات، وممارساتٌ منهجية لإذلال السكان ونزع إنسانيتهم. وهذه الأنماط، الممتدة لعقود، ظلّت محميةً بمنظومةٍ دعائية متطورة تُضلّل العالم، وتستدرّ التعاطف وتزيف صورة إسرائيل الحقيقية. غير أن هذا القناع يتهشّم سريعًا؛ إذ تتجه الأنظار أكثر فأكثر إلى الفظائع، وتتشكل كتلةٌ دوليةٌ آخذةٌ في الاتساع. لقد بات العالم متوجسًا من دولةٍ لا تعوّل إلا على القوة التعسفية والعنف وتقويض القواعد، فبدأت دولٌ كثيرة تتراجع عن دعمها غير المشروط لإسرائيل.

لقد بات العالم متوجسًا من دولةٍ لا تعوّل إلا على القوة التعسفية والعنف وتقويض القواعد، فبدأت دولٌ كثيرة تتراجع عن دعمها غير المشروط لإسرائيل

لذلك تسعى إسرائيل، في الفضاءات التي تملك فيها النفوذ، إلى إعادة بناء جهازها الدعائي، وهو ما يتبدّى في تشديد أنظمة الرقابة داخل الولايات المتحدة، وفي مساعي الاستحواذ القسري على منصّاتٍ جماهيرية بدعم من شخصيات نافذة في صناعة التكنولوجيا. أمّا في البيئات الأبعد، مثل نيجيريا، فتعود هي وواشنطن إلى "دفتر وصفات" الشراكات الانتقائية: الاستثمار المنهجي في الانقسامات الداخلية (الإقليمية والدينية والإثنية) والتمركز داخل الشقوق البنيوية للمجتمع وتغذيتها، لتُستخدَم لاحقًا أدواتٍ لتشتيت الانتباه عن الجرائم المرتكبة في فلسطين.

الغاية بسيطةٌ ومضلّلة في آن: إذا تمّ تعميم مقولة أن "المسلمين عنيفون بطبعهم، والمسيحيين مهددون في كل مكان"، أمكن تبرير الحرب على غزة. وإذا أُثيرت مشاعر عداءٍ كافية تجاه المسلمين في نيجيريا، أمكن تسويغ الكراهية ضد الفلسطينيين ومقاومتهم -التي تصرّ إسرائيل وحليفتها واشنطن على وسمها بـ«الإرهاب الإسلامي». هذه فبركةٌ فاقعة للواقع، وهي تكتيكٌ معلوم ينبغي للمعلّقين والجمهور في نيجيريا أن يدركوه حتى لا يقعوا في مصيدته. إن آلاف الأرواح التي فُقدت في مجتمعاتنا، وأحزان العائلات المكلومة هنا، لا تعني، في نظر ماكينة الدعاية لإسرائيل والولايات المتحدة، أكثر من "ملحقٍ دعائي" يُشغل به الرأي العام كي لا تُواجِه إسرائيل المساءلة حيث يجب.

وأوافق على أنه حين نتحدث عن الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون، ينبغي أيضًا أن نتحدث عن القتل في نيجيريا وعبر الساحل، وعن الإبادة في السودان، والمجازر في الكونغو وأجزاءٍ من موزمبيق. الخيط الجامع بين هذه المسارح هو تشابك مصائرها في شبكة مصالحٍ إمبريالية عالمية. ففاعلو الدمار فيها إما مسلحون وممولون مباشرةً من قوى غربية وحلفائها، أو أنهم نتاجٌ متوقّع لسياسات تفكيكٍ ممنهجة استهدفت دولًا دولًا تجرّأت على تجاوز الخطوط الحمراء المصمّمة لحماية تلك المصالح. وفي الوقت نفسه، تُدعَم قياداتٌ محلية غير مكترثة وغير كفؤة بوصفها «شركاء»، لأنها عاجزة عن معالجة الأسباب البنيوية-الاجتماعية التي راكمت تلك الأزمات. ثم تُعاد توظيف الأدوات عينها -القمع والمراقبة والعنف المنظّم- المستخدمة ضد أهل غزة، وتُنقل بالجملة تحت لافتة «التعاون الأمني» إلى نظمٍ تابعة تُسخّرها لخنق المعارضة ووأد الحركات السياسية. إنها امتداداتٌ لـ"عقيدة" شرطية وعسكرية أميركية‑إسرائيلية، تُسلّح من أجل السيطرة والفصل العنصري والعنف أكثر مما تُسلّح لصون الأرواح.

إن انتقائية الحديث عن العنف في موضعٍ وتجاهله في موضعٍ آخر يقطع الروابط البنيوية التي تربط هذه الوقائع، فهو يساير حسابًا إمبرياليًا يعتبر تجويع آلاف الأطفال في غزة "تكتيكًا"، ويمدّ الأنظمةَ التابعة في الشرق الأوسط والمستبدّين في أفريقيا بأدوات البطش. ومن ثمّ، فإنّ السعي الجادّ إلى العدالة يقتضي النظر إلى الصورة الكاملة: مواجهة الفاعلين المباشرين، وتسمية المنظومات الداعمة التي تموّلهم وتؤمّن لهم الحماية. أمّا ما لا يجوز التساهل فيه، أخيرًا، فهو أن يُملي مرتكبو الجرائم على العالم أين يوجّه بصره ولمن يُصغي وكيف يحكم؟