تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

استرداد التراث المنهوب: المعركة الأفريقية المؤجلة

9 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

لم يكن استحواذ القوى الإمبريالية على الثروات والأراضي المستعمَرة فحسب، إنما كانت تخصص جزءا من عملياتها لسرقة والسيطرة على الممتلكات الثقافية، فملايين القطع الفنية سُرقت إما من طرف الجنود أو البعثات وتجار التحف الفنية، وجرى نقلها إلى المتاحف أو المجموعات الخاصة. لذا نجد أن أغلب التحف الفنية المعروضة في أرقى المتاحف العالمية وجدت طريقها للعرض بطرق غير مشروعة، من بلدانها الأصلية خلال الفترة الاستعمارية، وبعضها مستمر إلى يومنا هذا.

لقد كانت أفريقيا من أكثر المناطق عرضة للنهب والتخريب لممتلكاتها الثقافية أو الاتجار غير المشروع، ولأنها تعتبر إرثا تاريخيا لدولها، تبقى مهمة الحماية القانونية للتراث الثقافي محل اهتمام. هنا تتجلى جهود منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة، اليونسكو، الممتدة منذ تأسيسها لصون وحماية التراث الثقافي، كما أقرت حق استرجاع التراث المسروق لبلدانها الأصلية. وبصرف النظر عن التقدم القانوني وحدوده، تعالت في السنوات الأخيرة دعوات البلدان الأفريقية لاستعادة ميراثها الثقافي بالمتاحف الأوروبية، كما توالت المطالب للمؤسسات المختصة بتسليم ممتلكاتهم الثقافية، غير أنها تظل حبيسة الرفوف، إلا من نزر قليل يُسلم على مضض.

التراث الثقافي الأفريقي المنهوب

تزخر أفريقيا مهد الحضارة الإنسانية، بموروث تاريخي وثقافي غني ومتنوع، يروي جزءا يسيرا من الهوية الثقافية الممتدة لشعوبها، فيما يتكفل الموروث الشفوي بما تبقى. ينفرد هذا الموروث بالثراء والامتداد، وتنوع التقاليد والعادات والتاريخ الخاص لمجمل مناطقها. كما يشمل جميع مناحي الحياة، من العمارة إلى النحت والنسيج ثم الأعمال الدنيوية والدينية فالمصنوعات الفنية.

كانت مهمة المستعمِر تتعدى القتل الفعلي والاستعمار المباشر للأرض والبشر إلى القتل الرمزي، عبر طمس الحقائق التاريخية، وفي مقدمتها انتزاع آلاف القطع الفنية من موطنها الأصلي لإشباع ملكة النهب وغريزة السيطرة لدى الغزاة، ولإفراغ البلدان المستعمَرة من ممتلكاتها وهويتها الحضارية

تعد سرقة هذه الممتلكات الثقافية أو الحصول غير المشروع عليها، إجهازا على الذاكرة الجماعية، واستهدافا لخصوصيات الهوية المحلية والتراث الثقافي المشترك للبشرية. وليس مبالغة أن كنوزا كثيرة سرقت خلال الفترة الاستعمارية، ونقلت بعيدا عن بلدانها الأصلية، ولهول تلك الوقائع، فقد قدر المتخصصون في المجال الفني أن حوالي 90٪ من التراث الثقافي الأفريقي يتواجد خارج القارة.

كل هذا يؤكد حقيقة أن السنوات الممتدة من السرقة والنهب المنظم لم تذهب سدى، فقد حقق المُستعمر غايته؛ إذ كانت مهمته بالدرجة الأولى تتعدى القتل الفعلي والاستعمار المباشر للأرض والبشر إلى القتل الرمزي عبر طمس الحقائق التاريخية، وفي مقدمتها انتزاع آلاف القطع الفنية من موطنها الأصلي لإشباع ملكة النهب وغريزة السيطرة لدى الغزاة، ولإفراغ البلدان المستعمَرة من ممتلكاتها وهويتها الحضارية، وانتصارا لسرديته بأن هذه الأراضي تحت سيطرة "المتوحشون" بلا ثقافة ولا فنون، وأن مهمة "الغزاة" نقل مشعل الحضارة وراية الثقافة المزعومة إليها.

حصل المستعمرون على كنوز متنوعة بطرق غير مشروعة، ونقلوا تلك "التحف المنهوبة" من القارة السمراء خلال الفترة الاستعمارية، لتنتهي معروضة في المتاحف العالمية، ويتأكد بأن لكل قطعة معروضة فيها حكاية خاصة، تتعدى ما هو مدون بشهادة تقييمها من قبل الخبراء والمتخصصون في التراث. وإذ يصعب الوقف على أصل وحكاية كل التحف المنقولة من مناطقها الأصلية إلى هذه المتاحف، سنشير إلى المعروف منها؛ ففي لندن، يحتفظ المتحف البريطاني بأكثر من مليون قطعة أثرية وفنية أفريقية وأسيوية، واشتهرت باسم البرونزيات البنينية، وهي آلاف اللوحات المعدنية والمنحوتات التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر، كانت تُزين القصر الملكي لمملكة بنين، نيجيريا الحالية، نُهبت بعد معارك دموية، ونقلت إلى بريطانيا، وبيع بعضها في ألمانيا، ثم توزعت في عدة متاحف، يشار إلى ملكية المتاحف الغربية لها. لكن ذلك لا يلغي النقاش حول إعادة النظر فيها بإعادتها لموطنها الأصلي، وإن ظل المُلاك الحاليون لها يتلكؤون في الاستجابة.

جارتها فرنسا نقلت بدورها آلاف القطع والأعمال الفنية والأشياء المقدسة؛ كالأقنعة والرموز والمجوهرات وغيرها من مستعمراتها لاسيما الأفريقية، وقد بدأت تلك العمليات بعد حملة نابليون وسيطرته على آلاف القطع الأثرية المصرية، وامتدت إلى مستعمراتها بشمال القارة، ثم تكرست باعتبارها توجها لجيوشها بشرق وغرب القارة. توزعت مجمل هذه الغنائم الفنية بين ممتلكات شخصية، ومعروضات بمتاحف مثل: اللوفر ومتحف كيه برانلي-جاك شيراك، الذي خصص للفن الأفريقي، حيث يضم 70 آلف قطعة فنية أفريقية.

ممارسات ممتدة إلى باقي القوى الاستعمارية، تؤكد أنها سياسة وسلوك إمبريالي بامتياز؛ فقد أنشأت بلجيكا المتحف الملكي لأفريقيا الوسطى، ليستوعب المنقولات الثقافية المنزوعة من مستعمراتها، ويحتوي على أكثر من 180 ألف قطعة معظمها من الكونغو.

ألمانيا ورغم تجربتها الاستعمارية التي انتهت مبكرا، إلا أنها تحتفظ بقطع كثيرة متحصل عليها من مستعمراتها السابقة، مثل ناميبيا والكاميرون. نفس الأمر ينطبق على هولندا وبقية المستعمرات، وحتى المتاحف الأمريكية الحديثة النشأة، أضحت زاخرة بموروث أفريقي، تسرب بطرق عديدة جلها غير مشروعة إلى رفوفها ومخازنها.

إلى ذلك، يُحتفل باليوم العالمي للتراث الأفريقي في 5 مايو/أيار، بكونه مناسبة لاستحضار المكانة المتميزة للإرث الأفريقي والتحديات التي يواجهها، وتتراوح بين إكراهات الصراعات المسلحة والتحديات الطبيعية ومخاطر التدمير والتهريب غير المشروع، ناهيك عن ضعف التشريعات الوطنية والدولية لحماية هذا الموروث.

حماية الموروث الثقافي، المهمة الصعبة

تعتبر الأعيان الثقافية تراثا تاريخيا للشعوب ورمزا لهويتها، وتسعى اليونسكو لحماية وصيانة هذا الموروث الثقافي العالمي، فيحظى بتقدير خاص في قوائمها للتراث العالمي للإنسانية، كما تصنف أي اعتداء عليها في مرتبة استهداف الشعوب وللإنسانية، وتنطلق من الحماية الخاصة للتراث العالمي بموجب القانون الدولي؛ إذ تكفل اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاعات المسلحة لسنة 1954، وأكدت الحاجة لتعزيز نظام حماية التراث، وتضمن صون الممتلكات ومعاقبة المخربين والمدمرين والمهربين، ومن أجل تجاوز إشكاليات التهريب وإعادتها إلى بلدانها الأصلية، ألحقت بها بروتكولات واتفاقيات خاصة.

في السياق ذاته، ومن أجل حماية الممتلكات الثقافية في وقت السلم، تم إقرار اتفاقية بشأن الوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة لسنة 1970. كما أقرت إعادة الممتلكات الثقافية، وحددت التعاون الدولي كآلية لحمايتها، فنصت في المادة 15 على السماح للدول بإبرام اتفاقيات ثنائية خاصة لإعادة الممتلكات الثقافية. كما تناولت اتفاقية 1995 الممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدرة بشكل غير قانوني، وقررت إعادة الممتلكات الثقافية المصدرة بشكل غير مشروع.

تحضر اليونسكو كالحارس الملاك للتراث غير أن تحركات محصورة، كمحدودية التحرك في عالم تسييره القوة

شكلت اليونسكو، من أجل تعزيز الالتزام بهذه الاتفاقيات واللوائح، اللجنة الدولية الحكومية لتعزيز إعادة الممتلكات الثقافية إلى بلدانها الأصلية، أو ردها في حالة الاستيلاء غير المشروع، التي تأسست عام 1978، ورغم الطابع الاستشاري لوظيفتها، إلا أنها تساهم في تسهيل عمليات استرداد الممتلكات الثقافية، وتحاول تنظيم آليات رد الممتلكات والمفاوضات حولها بين الدول.

وفي خطوة رمزية، يحتفل العالم كل عام 14 نوفمبر/تشرين الثاني باليوم العالمي لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، منذ إقراره في عام 2019، وذلك بهدف لفت الانتباه لهذه الجريمة، وإعادة استرداد هذه الممتلكات المسروقة. لكن قد يقال، ليس بالاحتفالات والشعارات تحقق الذرائع لوقف استنزاف الثروات. ورغم ذلك، خلقت هذه التحركات على رمزيتها نقاشات قانونية وأخلاقية، كما أعادت في السنوات الأخيرة طرح إشكالية أحقية ومكانة التراث، وعززت التساؤل عن ضرورة إرجاع هذه الكنوز لأصحابها وأماكنها الأصلية والطبيعية.

الاسترداد والاسترجاع، حسابات مؤجلة

تحضر اليونسكو كالحارس الملاك للتراث غير أن تحركات محصورة، كمحدودية التحرك في عالم تسييره القوة. لكنها وسط هذه الحقول المؤبؤة، استطاعت أن تحقق اعترافا بأصول الممتلكات الثقافية والحق في الاسترداد. نجحت في محطات، وإن كانت معدودة على أصابع اليد، في إعادة الممتلكات إلى أصحابها، على قاعدة تعزيز التعاون الثقافي كروح لفلسفتها، ومفتاحا لإعادة هذا التراث وحمايته. غير أنها تثير أسئلة ونقاشات حول كنوز كثيرة لم توفق البلدان في إعادتها، مؤكدة أنها يجب أن تتحرر وتعود لبيئتها الأصلية.

عبّر إيمانويل ماكرون في خطابه بواغادوغو  عام 2017، عن حق الأفارقة في استرداد تراثهم الثقافي القابع بفرنسا، وخلُص التقرير الذي كلف الكاتب السنيغالي فلورين سار والمؤرخة في الفنون بنيديكت سفو لذات المقتضى، حيث أوصى بإعادة الممتلكات الثقافية إلى بلدانها الأصلية. وفتح النقاش حول استرجاع الثروات الثقافية الأفريقية، فتقدمت عدة دول بطلبات استرداد مثل: البنين والكوديفوار والسنيغال، غير أن الأمر واجهته تحديات قانونية فرنسية تمنع ذلك، وضعف استجابة المؤسسات والمتاحف لذلك، فتحول خطاب ماكرون إلى مجرد وعود. وهذا ما تؤكده الاستجابة لطلبات الاسترجاع التي كانت متواضعة، فبعد خمس سنوات من هذا القرار سلمت باريس 26 قطعة أثرية فقط لدولة البنين، وسيفا لدولة السنيغال يعود للزعيم التيجاني الحاج عمر الفوتي.

تستند السردية الغربية المضادة للمطالب المشروعة للأفارقة إلى صعوبة رد هذه الممتلكات لأصحابها، بمقتضى أن بلدانها تفتقر إلى متاحف خاصة تكفل عرض وحماية هذه الممتلكات، غير أن بلدانا كثيرة فندت هذا الاعتراض بتأسيسها لمتاحف حديثة

يتأكد بأن الأسئلة عن مصير هذه القطع محدود، إذ أن آلاف القطع المنهوبة لسنوات لم تتنازل عنها المتاحف الغربية، ولم تتمكن الدول الأفريقية إلا من استرجاع عشرات القطع. لقد نجحت مصر مثلا في استرداد عدد ضئيل من قطعها الموزعة بين فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فأعاد لها المتحف البريطاني ممتلكات قليلة، وإن ظل يتلكأ في الاستجابة لطلبات كثيرة، في مقدمتها طلبها الجديد القديم لاستعادة حجر رشيد.

وعلى نفس النهج، طلبات كثيرة لدول أفريقية أخرى، واستجابتها كانت أيضا محدودة، ولعل أبرزها إعادة قصتي شعر الإمبراطور الإثيوبي تيودروس الثاني، كما استجابت ألمانيا لطلب ناميبي بإعادة قطعة تعرف بالصليب الحجري كاب كروس، كان بمثابة علامة ملاحية، نقل إلى برلين خلال الاستعمار الألماني للبلد، ليعدو مجرد قطعة من بين آلاف القطع التي ينتظر تسليمها، ولكنها انتظارات معلقة.

تستند السردية الغربية المضادة للمطالب المشروعة للأفارقة إلى صعوبة رد هذه الممتلكات لأصحابها، بمقتضى أن بلدانها تفتقر إلى متاحف خاصة تكفل عرض وحماية هذه الممتلكات، غير أن بلدانا كثيرة فندت هذا الاعتراض بتأسيسها لمتاحف حديثة، ففي افتتاحه لمتحف حضارات السود بداكار، ويضم أكثر مجموعة أعمال فنية أفريقية، صرح الرئيس السينغالي ماكي سال بأن "الحفاظ على ثقافتنا هو ما أنقذ الشعوب الأفريقية من محاولات تحويلهم إلى شعوب بلا روح ولا تاريخ".

وفي الإطار ذاته، أسست دولة بنين متحف الملوك ومحاربات داهوني، والذي سيعرض التراث التي تم تسليمها من فرنسا، وعلى منوالهم سارت دول أخرى مثل الكونغو الديمقراطية وغيرها، تأتي هذه المبادرات لدحض تلك الادعاءات، وبالتالي توسيع الضغط لتسليم الممتلكات المنهوبة، فضلا عن كونها دلالة رمزية على تطور المقدرات الأفريقية.

أسقطت هذه المشاريع وغيرها الادعاءات الغربية بأن الأفارقة غير قادرون على حماية تراثهم، وللمفارقة، يتأكد بأن هذه المؤسسات الغربية تتجاهل حماية هذه الكنوز، فقد فضحتها تقارير التخزين السيء للموروث الثقافي الأفريقي. كما تؤكد تقارير أخرى سرقة آلاف القطع الفنية من المتحف البريطاني، والمذهل من كل هذا أن أمثال هذه المؤسسات لا تتوانى عن إطلاق أنصاف حلول، إما إعادة عرضها على سبيل الإعارة أو القيام بعروض لتداول هذه الأعمال، وذلك من أجل التهرب من مطلب إعادتها إلى أصلها.

إجمالا، تتحرك الدول الأفريقية للمطالبة بالتعويض عن الفترة الكولونيالية، وإذ تجزم الدول المستعمِرة بصعوبة تعويض الخسائر في الأرواح والممتلكات، لكن يمكن أن يشكل إعادة الممتلكات الثقافية الأفريقية تعويضا معنويا عن تلك الجرائم المرتكبة بحق الشعوب الأفريقية، غير أن تقاعسها في الاستجابة لمطالب الاسترداد يؤكد أنها بدورها معركة مؤجلة إلى حين.