تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
سينما

أشباح الضحايا تطارد الطغاة: مرآة الحكم بأفريقيا في "أصوات مع الرياح"

15 أكتوبر, 2025
الصورة
  أشباح الضحايا تطارد الطغاة: مرآة الحكم بأفريقيا في "أصوات مع الرياح"
Share

تعد مسرحية "أصوات مع الرياح" (عام 1970) للكاتب الكبير برنارد دادييه من ساحل العاج شهادة أدبية خالدة على أزمة القيادة والاستبداد في أفريقيا ما بعد الاستقلال. إذ تعد نقداً لاذعاً لجيل القادة الذين وصلوا إلى الحكم بطرق غير ديمقراطية، وتحولوا إلى طغاة يمارسون العنف والقمع على شعوبهم، وهي الثيمة الأساسية لهذه المسرحية التي تدور حول شخصية ناهوبو، الرجل الذي تحوّل من رجل مهان إلى حاكم سفاح تطارده أشباح ضحاياه.

لهذا، فإن هذه القراءة لا تقتصر على تحليل وقائع المسرحية؛ بل تتجاوزها إلى التعمّق في رموزها، وذلك لفهم التحديات المشتركة التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية التي تشهد حالياً صراعاً أو تنافساً عنيفاً على السلطة. من خلال هذا التحليل، نؤكد أن "ناهوبو" لم يكن شخصية تاريخية محددة، بل نموذجاً متواتراً في البيئات السياسية الأفريقية.

وقائع التراجيديا: من الإهانة إلى ميثاق الدم

يبدأ صعود ناهوبو من نقطة ضعف شخصية: تعرضه للإهانة وسلب صيده على يد رجال الديكتاتور ناكاتا. هذه الحادثة تختزل إحساس المواطن بالغَبن تحت سلطة غاشمة. لكن ما يحوّل الإهانة إلى طغيان ليس الغَبن فحسب، بل دور الزوجة التي دفعته نحو الانتقام والقوة، عبر التهكم من ضعفه، واختيار القوة والبطش سبيلا وحيدا لإثبات الذات.

بدافع الطموح الأعمى، يذهب ناهوبو إلى الساحر باكولو لإبرام ميثاق للحصول على قوة الحكم المطلقة. ويعطي الساحر شرطه الصريح والمروع؛ يجب على ناهوبو أن يضحي بشخصين عزيزين على قلبه ليضمن قوته. هكذا يوافق ناهوبو على الثمن، ويُقدم على قطع أقدس الروابط البشرية بقتله أمه وأخيه.

هذه الأساليب لا تقوّض الأسس الديمقراطية فحسب، بل تمثل خيانة للنسيج الاجتماعي، حيث تكون النتيجة النهائية هي نفسها: إزاحة المنافسة الشرعية، وتأسيس حكم يفتقر إلى التمثيل الحقيقي للشعب

بعد اعتلائه العرش وتأسيس حكمه على هذا الدم، يبدأ الثمن الشخصي في الظهور. يفشل الملك ناهوبو في تحقيق السعادة والأمان؛ فبالرغم من القوة، جاء الرفض القاسي من فتاة أحبها ومثلت قيم النقاء، مما أكد فشل سلطته في كسب القلوب أو الشرعية الأخلاقية.

يجد ناهوبو نفسه محاطًا بالوحدة داخل أسوار قصره، ناسياً في غمرة صعوده أنه قد قتل أشخاصاً كان يمكن أن يعتمد عليهم لاحقاً لدعم شرعيته أو كسر عزلته. علاوة على ذلك، يواجه ناهوبو معارضة صريحة من النساء اللواتي رفضن طموحه في إشعال الحروب، مؤكدات أن حكمه لن يجلب إلا الدمار.

أبعاد الرمزية: حصن الطاغية وتآكل الشرعية

تنتقل المسرحية من السرد إلى التحليل لاستكشاف الرموز العميقة التي استخدمها دادييه لنقد الاستبداد، حيث تمثل الزوجة الانتهازية السياسية التي تُشجع على العنف والتحايل، فهي رمز للإغراء الذي يُحوّل الطموح المشروع إلى هوس بالسيطرة بأي ثمن.

أما قتل الأم والأخ، فيمثل الرمز الأكثر دموية؛ فقتل الأم يرمز إلى خيانة الوطن والمبادئ الأولى للقيادة، وقتل الأخ يرمز إلى الخيانة العظمى للنسيج الاجتماعي ووحدة الشعب. ولذلك كانت سلطة ناهوبو المؤسسة على هذا الدم تفتقر للشرعية الأخلاقية منذ اللحظة الأولى. في حين يرمز شرط الساحر باكولو إلى الميثاق الشيطاني الذي يبرمه المستبد مع قوى الفساد، حيث يكون الثمن هو التخلي عن الإنسانية والضمير مقابل السلطة المطلقة.

إن التحايل على الدستور يُعد إبراماً لاتفاق جديد مع القوة الغاشمة، وهو ينزع الشرعية الأخلاقية عن الحكم كما فعل ناهوبو بقتله لأقرب الناس إليه

هذا التنازل عن المبادئ يؤدي إلى العزلة الأبدية: يرمز نسيان ناهوبو لضحاياه الأوائل إلى الإلغاء المتعمد لأركان الدعم في الاستبداد؛ حيث يضحي الطاغية بأقرب الناس إليه في سبيل الصعود، ليكتشف أنه أحاط نفسه بالفراغ. وفي المقابل، يمثل رفض الفتاة ومعارضة النساء الرفض الاجتماعي النقي ودعاة السلم المجتمعي، ما يؤكد أن قوة العرش لا تستطيع كسب القلوب أو الشرعية الحقيقية.

أصداء المسرحية في أزمات الحكم الأفريقية

تظل مسرحية دادييه ذات صلاحية مستمرة؛ ولذلك، نجد تيماتها ورموزها تنعكس مباشرة في الواقع السياسي الأفريقي المعاصر.

التحايل الدستوري كعقد شيطاني: تتجلى روح ناهوبو اليوم في التحايل على المرجعيات الدستورية، وذلك بالسعي لفترات رئاسية إضافية أو تغيير القواعد المؤسسية بشكل انتقائي. هذا المسعى يعكس عقد "الساحر باكولو" المعاصر، حيث يتم التخلي عن المبادئ الأساسية للحكم الرشيد مقابل ضمان الهيمنة المطلقة. إن التحايل على الدستور يُعد إبراماً لاتفاق جديد مع القوة الغاشمة، وهو ينزع الشرعية الأخلاقية عن الحكم كما فعل ناهوبو بقتله لأقرب الناس إليه.

هذه النهاية ليست مجرد إنهاء لحكم فرد، بل هي تأكيد على أن النظام المؤسس على الخطيئة والطغيان يحمل بذور عقابه الذاتي

الإقصاء السياسي الحديث كـ "قتل للأخ" بينما يمثل قتل ناهوبو لأخيه ذروة الخيانة، لضمان تثبيت الحكم بالقوة المباشرة، تجد هذه الدلالة صداها اليوم في ممارسات الأنظمة المستبدة عبر الإقصاء السياسي والقضائي للمنافسين المعارضين. فبدلاً من القتل المادي، يتم تحييد المنافسة الشرعية باستخدام القضاء أو الشروط الإدارية كـ "غطاء قانوني" زائف. هذه الأساليب لا تقوّض الأسس الديمقراطية فحسب، بل تمثل خيانة للنسيج الاجتماعي، حيث تكون النتيجة النهائية هي نفسها: إزاحة المنافسة الشرعية، وتأسيس حكم يفتقر إلى التمثيل الحقيقي للشعب.

ثورة الأشباح وانهيار الطغيان

تتصاعد الأحداث عندما تبدأ أشباح ضحاياه بمطاردته داخل القصر، وتتحول حياته إلى كابوس مستمر. هذه الأشباح هي التجسيد المادي لعبء الجرائم وقانون العدالة الكونية، وتثبت أن القوة الحقيقية تكمن في الذاكرة والضمير، وأن الطاغية يعيش في رعب مطلق، وأن العقاب يبدأ بالانهيار النفسي، مما يجعله جلاد نفسه. بالإضافة إلى ذلك، تظهر الأفاعي الكبيرة التي كانت تحرسه، ثم يقتلها حراسه أنفسهم بالرغم من أوامره، وهي رمزية الأفاعي التي تمثل الأسس المظلمة التي قام عليها عرشه، مشيرة إلى أن آلة القمع نفسها (الحراس) بدأت تتصدع، وأن الحكم يحمل بذرة فنائه بداخله.

تُقدم مسرحية "أصوات مع الرياح" نهاية تراجيدية حتمية، حيث ينهار الطاغية ناهوبو تحت وطأة هذه الكوابيس والأصوات. هذه النهاية ليست مجرد إنهاء لحكم فرد، بل هي تأكيد على أن النظام المؤسس على الخطيئة والطغيان يحمل بذور عقابه الذاتي، إذ تنبئ المسرحية بأن القوة المجردة لا يمكن أن تصمد أمام قوة الحقيقة.

تُعد رسالة المسرحية دعوة سياسية للعدالة وتحذيراً للطغاة بأن التمسك بالسلطة بالقوة يؤدي حتماً إلى ثورة الضمير الشعبي. ولذلك تبقى تراجيديا دادييه صرخة لا تموت، مؤكدة أن قوة الحق هي المنتصرة على حق القوة، وأن القائد الحقيقي لن يجد الراحة والاستقرار إلا عندما يضمن لشعبه الأمان واحترام حقوقه وكرامته.

المزيد من الكاتب