تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
ثقافة

إريتشا تعيد تعريف علاقة أديس أبابا بالطبيعة

9 أكتوبر, 2025
الصورة
إريتشا تعيد تعريف علاقة أديس أبابا بالطبيعة
Share

يحوّل عيد الشكر الأورومي العريق "إريتشا" العاصمة الإثيوبية إلى كونٍ مقدّس حيّ، ويدعو المدينة إلى الاعتراف بمشاركيها غير البشريين ــ من الأنهار إلى الطرق ــ بوصفهم كائنات أخلاقية داخل نظامٍ مشترك للوجود. في ذلك اليوم تبدو أديس أبابا كأنها تستعيد ذاكرتها الأولى، فتمنح المكان صوته، وتسمح للطبيعة بأن تحضر لا كزينة هامشية، بل كطرفٍ متكافئ في العقد الأخلاقي للحياة.

"إريتشا"، مهرجان الشكر لدى الأورومو، هو طقس امتنانٍ يُقدَّم لـ«واقا» (الله) في نهاية موسم الأمطار. إنّه علامة تجديد وسلام وازدهار للحياة. متجذّر في قرونٍ من الممارسة الروحية الأصيلة، وهو احتفال تجتمع فيه الجماعات قرب الأنهار والبحيرات لتكريم التوازن بين حياة الإنسان والعالم الطبيعي، وتذكير الجميع بأن دورة الماء والزرع هي الإطار الذي يهب المعنى لوجودهم اليومي.

خلال السنوات الأخيرة، غدا "إريتشا" واحداً من أكثر الاحتفالات ترقّباً واتساعاً في أديس أبابا، فتموج الطرق وضفاف الأنهار والساحات العامة باللون والغناء والهتاف. يصل المشاركون مرتدين أزياءً تقليدية نابضة، فتتحوّل الشوارع الحضرية إلى مسالك شعائرية. وما كان يوماً طقساً موسمياً مرتبطاً بالمشهد الريفي، وجد اليوم مكانه في قلب العاصمة، حيث تتسلّل الحركة الإيقاعية للحشود إلى قلب المدينة الحديثة، وتعيد ترتيب إيقاعها اليومي.

غير أنّ ذكرى عام 2016 ما زالت منسوجةً عميقاً في هذا التجمّع السنوي؛ يومها تسبّبت حالةُ فوضى أعقبت إطلاق نارٍ واستخدام الغاز المسيل للدموع من قبل قوات الأمن في تدافعٍ مميت، قضى فيه مئاتٌ وهم يفرّون من الهلع. ظلّ ذلك حدثاً كئيباً يذكّر بقدرة المجتمع على الصمود والإصرار، ويُحمّل كل دورةٍ من دورات المهرجان معنى إضافياً من الحزن والوفاء لضحاياه.

ما كان يوماً طقساً موسمياً مرتبطاً بالمشهد الريفي، وجد اليوم مكانه في قلب العاصمة، حيث تتسلّل الحركة الإيقاعية للحشود إلى قلب المدينة الحديثة، وتعيد ترتيب إيقاعها اليومي

مع تطوّر المهرجان، تجاوز جذوره في "واقيفانا"، الديانة الأورومية الأصيلة، ليغدو تعبيراً ثقافياً وفلسفياً أوسع. اليوم يُحتفى بـ"إريتشا" ليس من قبل أتباع "واقيفانا" وحدهم، بل أيضاً من قبل من يرون فيه لغةً مشتركة للسلام والتجدد والانتماء، وعلامة على إمكانية بناء هويةٍ جامعة، تتخطّى التخوم الدينية الصارمة من دون أن تمسّ بالقداسة التي يحملها الطقس في أصلِه.

في قلب الاحتفال تكمن الرؤية الكونية لـ"واقيفانا"، وهي رؤيةٌ تقوم على العلاقة قبل كل شيء. كما يشرح الدكتور جيميتشو نيغر (2021) وآخرون، فإن الوجود يُفهَم هنا بوصفه قائماً على تواصلٍ دائم بين «واقا» (الله)، والإنسان، و«أوما» (الطبيعة). ويحكم هذا الوجود مبدأ «سافو»، وهو قانون أخلاقي كوني للتوازن، تُؤكّده أفعال الناس ولا يكتسب فعاليته إلا بممارسته في المجتمع.

إن التزام أتباع «واقيفانا» بـ«سافو» يقرّ بأن الوجود يقوم على الاحترام المتبادل لا الهيمنة. ويُظهر «واقا» قوّته عبر «أَيانا» (الأرواح القدسية) المرتبطة مباشرةً بالكيانات الطبيعية مثل: الأنهار والأشجار المقدّسة. وضمن هذا الإطار، يصبح فعل الشكر أكثر من رمز؛ إنّه توجّهٌ أخلاقي يؤكّد الاعتماد المتبادل، ويعيد الإنسانَ إلى موقعه كحلقةٍ ضمن شبكة الحياة لا سيداً متعالياً عليها.

تجسّد قرابين العشب والماء والدعاء هذا التجديد للعهد مع «سافو». يخوض المشاركون الماءَ، ينثرون أعشاباً وأزهاراً طازجة على سطحه أو يغمسونها في مجراه، كأنهم يحيّون روح النهر نفسه. إنّه إقرارٌ بأن العافية تنبع من الانسجام. وترتفع الأيدي إلى السماء في صلاة جماعية يتردّد خلالها الهتاف: «نَگَا، نَگَا!» (سلام، سلام!)، تأكيداً جماعياً على التوازن المنشود، وعلى طلب الطمأنينة للجميع.

على هذا النحو، يعمل "إريتشا" في آنٍ واحد بوصفه ممارسة طقسية وشكلاً من المعرفة الأصيلة؛ فهو يرمّز الوعي البيئي والمعاملة الأخلاقية بالمثل في صورةٍ اجتماعية ملموسة، تُدرَّس وتُتناقل بالتجربة والقدوة لا بالمتون والنصوص.

إن التأثير موزّعٌ عبر شبكات من فاعلين بشريين وغير بشريين، وأن ما نسمّيه «المشهد» ليس سوى نتيجة تفاوضٍ مستمر بين هذه القوى المتشابكة

لكن الاحتفال في العاصمة وَلَّدَ طيفاً من التأويلات. بالنسبة إلى البعض، يمثّل بعثاً ثقافياً طال انتظاره؛ وبالنسبة إلى آخرين، فإن حضوره الطاغي يثير أسئلةً عن التوظيف العلماني أو إمكان استجلاب توتّراتٍ لا ترغب المدينة في تحملها. بين هذين الحدّين، يمضي النقاش حول معنى الظهور في الفضاء العام وحدودِه.

كما تناقش سراويت ديبيلي (2023) في كتاب «تحديد موضع السياسة في طقس إريتشا»، كثيراً ما تنبع هذه التأويلات مما يمكن تسميته "النظرة الحضرية" التي تسعى إلى تنظيم الطقس وتوحيده أو تجميله بما يلائم انتظارات العاصمة. في هذا التأطير، يُفحَص "إريتشا" كموضوع داخل نظام المدينة: يُقاس وفق مظهره لا وفق ما يُدرِكه، ويُستدعى ليخضع لمنطق العرض والنظام أكثر مما يُصغَى إلى منطقه الروحي.

وهنا تتبدّى النية النقدية: ما هو أبلغ من قلب هذه النظرة وسؤالِ ما الذي قد تراه "إريتشا" نفسها ــ بوصفها فلسفةً حيّة للعلاقة والامتنان ــ في المدينة، وما الذي تكشفه عن صلة الإنسان بالبيئة في صميم الحياة الحضرية؟ لعلّ السؤال يُعيد تشكيل طريقة نظرنا إلى الشوارع والحدائق والجسور بوصفها أطرافاً في حوارٍ لا يتوقف.

إن المدن الحديثة تقوم في معظمها على فلسفةٍ تتمحور حول الإنسان. وكما لاحظ لويس مَمفورد (1961)، يميل العمران الحديث إلى التعامل مع الطبيعة باعتبارها "عنصراً تابعاً" يُشكَّل ليخدم متطلبات النمو والمنفعة. وحتى في جهود أديس أبابا الخضراء الأخيرة، تُدمَج الطبيعة غالباً كزينة بصرية أو موردٍ وظيفي، لا بوصفها شريكاً خالقاً للحياة الحضرية ومحدِّداً لمعناها الأخلاقي.

بوضع الطبيعة في موقع الفاعل الأول، يقلب "إريتشا" هرم الإدراك الحضري المتعارف عليه. فالأحواض والينابيع والفضاءات المفتوحة ليست مجرد خلفية لاستعراض البشر؛ إنّها مشاركون ذوو إحساس في تبادلٍ علائقي. وتُضيء أفعال الناس هذا المعنى: الهتاف الجماعي، وأغنيات ورقصات "السِربا" الإيقاعية، والحركة الجمعية التي تعيد تشكيل المشهد. تُقاس سمات المدينة ــ من مقياسها إلى تصميمها ونظامها ــ بعيون البيئة التي تعيد تقييم ما اعتدناه من مقاييس القوة والنظام.

بوضع الطبيعة في موقع الفاعل الأول، يقلب "إريتشا" هرم الإدراك الحضري المتعارف عليه. فالأحواض والينابيع والفضاءات المفتوحة ليست مجرد خلفية لاستعراض البشر؛ إنّها مشاركون ذوو إحساس في تبادلٍ علائقي

يعاد توجيه المدينة مؤقتاً خلال المهرجان: تذوب الهرميات المكانية، وتُختبَر البنى التحتية المصمّمة للهيمنة بوصفها شركاء في الأداء. البشر مراقِبون ومراقَبون معاً، فاعلون مشاركون في شبكة دينامية. يلتقي الاجتماعي بالبيئي في تقاطعٍ يستحضر أطروحة برونو لاتور (2005) بأن التأثير موزّعٌ عبر شبكات من فاعلين بشريين وغير بشريين، وأن ما نسمّيه "المشهد" ليس سوى نتيجة تفاوضٍ مستمر بين هذه القوى المتشابكة.

تصير بنية أديس أبابا التحتية ــ طرقها ونوافيرها وشوارعها ــ شركاء نشطين في تَشكُّل المهرجان. فهي تهدي الحشود إلى الماء، وتحفظ الذاكرة الجمعية (كما في مأساة 2016)، وتُشكّل التجربة من خلال مساراتها وحدودها. ويمتد الامتنان إلى ما يتجاوز البشر والعناصر البيئية ليشمل هؤلاء المشاركين الماديين: فتصير المدينة ذاتها حقلاً للانتباه العلائقي، حيث يدور الاعتراف الأخلاقي بين جميع الفاعلين الذين يُمكّنون الحياة والطقس. بهذه الطريقة، تجسّد "إريتشا" نسخةً إنسانيةً من نظرية لاتور، كاشفةً الفضاءَ الحضري بوصفه منظراً أخلاقياً وبيئياً مشترك التكوين، يتشارك البشر فيه المسؤولية مع العناصر المادية والروحانية للمدينة.

في المحصّلة، إنّها مسألة زاوية نظر. فقد تجد "إريتشا" والمدينة حيّزاً متبادلاً للاعتراف، فتفتحان إمكاناً نادراً في الحياة اليومية. أديس أبابا، التي تجرفها الحركةُ بلا انقطاع، تتوقّف ليومٍ واحد؛ شوارعها وساحاتها ونوافيرها ومسالكها يصيرون مشاركين في إيقاعٍ مشترك، وتستعيد المدينة القدرة على الإصغاء لأصوات عناصرها، كأنها تتعلّم من جديد كيف تكون بيتاً للجميع.
وهكذا يُعاد تعريف المدينة والإنسان في مرايا الطقس.