الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
في زمن تُقاس فيه قوة الدول بمدى قدرتها على الولوج إلى الفضاء الرقمي والانخراط في اقتصاد المعرفة، تبرز إريتريا استثناء لافتا يُجسّد حالة العزلة الرقمية في القرن الأفريقي. فبينما تشهد القارة طفرة متسارعة في انتشار خدمات الإنترنت والاتصالات المحمولة، لا يزال هذا البلد الساحلي محكومًا بسياسات سلطوية تُحكم قبضتها على كل شريان للتواصل، بما يحول دون أي انفتاح فعلي على العالم الخارجي. ويجعل هذا الواقع من إريتريا نموذجًا معكوسًا لمسار التحول الرقمي في أفريقيا، حيث تتحول التكنولوجيا من أداة للتنمية إلى وسيلة لتكريس العزلة وتعزيز أدوات السيطرة السياسية.
وصف تقرير إريتريا بأنها صحراء رقمية، نظرًا لغياب أي كابلات ألياف ضوئية بحرية تربطها بالشبكات الدولية، لتُصبح بذلك الدولة الساحلية الوحيدة في أفريقيا التي تفتقر إلى هذه البنية الأساسية. ونتيجة لهذا الفراغ، تعتمد البلاد على الأقمار الصناعية ووصلات الميكروويف ذات السعة المحدودة، ما يفاقم من عزلتها الرقمية. وعلى الرغم من أن بعض الشركات شرعت مؤخرًا في مدّ كابلات بحرية تمر عبر المياه الإريترية لتفادي مناطق النزاع في اليمن، فإن الحكومة لم تُبد أي تجاوب مع هذه المبادرات، مكرّسةً بذلك استمرار القطيعة بين المجتمع الإريتري والفضاء الرقمي العالمي.
يتصل هذا البعد البنيوي بواقع أكثر تعقيدًا على مستوى السياسات الوطنية، حيث تحتكر الحكومة الإريترية قطاع الاتصالات عبر شركة إريتيل (Eri tel) المملوكة للدولة، ما أفضى إلى غياب أي منافسة حقيقية، وانعدام للاستثمار الخارجي في البنية التحتية الرقمية. ونتيجة لذلك، بات قطاع الاتصالات في البلاد الأقل نموًا على مستوى القارة الأفريقية. إذ لا يزال نحو 85٪ من الهواتف المحمولة يقتصر على خدمات الصوت والرسائل النصية عبر شبكات الجيل الثاني (2G)، في حين تغيب كليًا تقنيات الجيل الثالث والرابع والخامس (G3، 4G، 5G).
إريتريا نموذج معكوس لمسار التحول الرقمي في أفريقيا، حيث تتحول التكنولوجيا من أداة للتنمية إلى وسيلة لتكريس العزلة وتعزيز أدوات السيطرة السياسية
يعكس هذا الضعف في البنية التحتية نتائج ملموسة على مستوى النفاذ، فوفقاً لبيانات الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2025، لم يسبق لنحو 80٪ من السكان في إريتريا، أي ما يقارب 2.86 مليون شخص، استخدام الإنترنت مطلقًا، فيما لا يتجاوز عدد المستخدمين الفعليين 700 ألف. ويُعزى هذا المستوى المتدني من النفاذ الرقمي إلى محدودية انتشار الهواتف المحمولة، إذ لا يمتلكها سوى 22٪ من الإريتريين، في ظل سياسات رسمية تحظر على بعض الفئات مثل المجندين امتلاكها.
تتجلى هذه المحدودية بشكل أوضح في طبيعة الفضاءات المتاحة، حيث يقتصر النفاذ إلى الإنترنت في إريتريا على نحو 100 مقهى مزوّد بخدمة "Wi Fi" في عموم البلاد معظمها في أسمرة، وهي فضاءات تخضع لرقابة لصيقة من أجهزة الأمن، ما يخلق شعورًا عامًا بانعدام الأمان لدى المستخدمين. فمجرد الدخول إلى مواقع معارضة أو الاطلاع على محتوى محظور قد يفضي إلى الاستدعاء من قبل الشرطة أو حتى الاعتقال.
إلى جانب القيود الأمنية، تشكّل الكلفة الاقتصادية عائقًا إضافيًا؛ إذ تبلغ رسوم استخدام مقاهي الإنترنت نحو 100 ناكفا (7 دولارات تقريبًا) لكل ساعة، وهو مبلغ يتجاوز قدرة شريحة واسعة من المواطنين. وفي ظل هذه البيئة المقيدة، لم يتجاوز عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي 14 ألف شخص فقط، أي ما يعادل 0.4٪ من إجمالي السكان، وهو ما يعكس محدودية الفضاء الرقمي وضعف قدرته على التحول إلى أداة للتعبئة أو النقاش العام.
يبرز هذا الاستبعاد الرقمي بصورة أكثر وضوحًا في المناطق الريفية، حيث يعيش أكثر من نصف السكان من دون أي وصول فعلي إلى خدمات الاتصال أو الإنترنت. ويؤدي هذا التوزيع غير المتكافئ للبنية التحتية إلى تكريس الفجوة الرقمية بين الحضر والريف، بما يعكس الطابع الإقصائي لمنظومة الاتصالات في البلاد. ولا يقتصر أثر هذه الفجوة على الحد من فرص المشاركة، بل يمتد ليشكّل أداة إضافية لعزل المجتمع عن العالم الخارجي، وهو ما ينسجم مع سياسة الدولة الرامية إلى إحكام السيطرة على الفضاء العام.
لم يسبق لنحو 80٪ من السكان في إريتريا، أي ما يقارب 2.86 مليون شخص، استخدام الإنترنت مطلقًا، فيما لا يتجاوز عدد المستخدمين الفعليين 700 ألف
يتشابه هذا النمط من العزلة الرقمية مع طبيعة المشهد الإعلامي الأوسع، إذ تحتل إريتريا المرتبة الأولى عالميًا في قائمة الدول الأكثر خضوعًا للرقابة، متجاوزة حتى كوريا الشمالية، بحسب تقرير لجنة حماية الصحفيين. فمنذ عام 2001 لم تعرف البلاد وجود صحافة مستقلة أو وسائل إعلام خاصة، الأمر الذي جعل الفضاء الإعلامي محكومًا بالكامل بخطاب الدولة الرسمي. وترى اللجنة أن محدودية نسبة مستخدمي الإنترنت تقلل من حاجة السلطات إلى فرض رقابة شاملة، غير أنّ الحكومة تستمر رغم ذلك في تقييد المحتوى، وحجب مواقع المعارضة، وتصفية أي مصادر بديلة للمعلومات.
يكشف ذلك عن منطق سلطوي أعمق، إذ أشار جويل سيمون، المدير التنفيذي السابق للجنة، إلى أن النظام الإريتري يوظف خطاب "الاستقرار والتنمية" غطاء لتبرير قمع التقارير المستقلة، واستخدام التكنولوجيا أداةً للسيطرة المحكمة على المواطنين.
تخضع وسائل الإعلام في إريتريا لسيطرة مطلقة من الدولة، وتُستخدم حصريًا لنقل الأيديولوجية القومية للنظام، فيما يقتصر الفضاء الرقمي على موقعين رسميين تابعين لوزارة الإعلام والحزب الحاكم (PFDJ) يقدمان الدعاية الحكومية فقط. وقد أبدى النظام تردده في توسيع استخدام الإنترنت خشية دوره في نشر المعلومات المستقلة وربط السكان بالعالم الخارجي والمعارضة، ما دفع وزير الإعلام إلى قيادة حملة لتشويه صورته واتهامه بأنه أداة للإباحية والحروب الإعلامية ومصدر تهديد للقيم والأمن.
يرى ناشطون إريتريون أن انتفاضات الربيع العربي عام 2011 عمّقت هواجس النظام من دور مواقع التواصل الاجتماعي في تأجيج التحركات السياسية، ما دفع السلطات إلى التراجع عن خطط أولية لتزويد المواطنين بخدمة الإنترنت عبر الهواتف المحمولة، رغم وجود اتفاق مبدئي مع شركة اتصالات جنوب أفريقية. وقد برّرت الحكومة هذا القرار بضرورة التصدي لما وصفته بـمخططات خارجية تستهدف أمن البلاد واستقراره، لتتحول البنية التحتية المحدودة إلى أداة مباشرة لتعزيز السيطرة السياسية.
انسجاماً مع هذا النهج، أعرب مركز حقوق الإنسان بجامعة بريتوريا عن قلقه إزاء استمرار حجب الإنترنت في إريتريا، معتبرًا أن ذلك يعكس نمطًا من القمع الممنهج المستمر منذ أكثر من عقدين. فمنذ وصول الرئيس غير المنتخب أسياس أفورقي إلى الحكم، عقب الاستقلال عام 1993، لم تُجر أي انتخابات في البلاد، كما لم يُطبَّق دستور عام 1997 الذي يضمن حقوق التعبير والتعددية السياسية. وقد أدى هذا الفراغ الدستوري والمؤسسي إلى ترسيخ بنية سلطوية مغلقة، تحكم قبضتها على المجالين السياسي والرقمي على حد سواء.
في هذا السياق، لاحظ المركز أن القيود المفروضة على الفضاء الرقمي في أفريقيا عمومًا تتفاقم بشكل خاص خلال فترات الانتخابات أو الاحتجاجات الشعبية، حيث يُستخدم تعطيل الإنترنت كأداة سياسية لإضعاف المعارضة والحد من تداول المعلومات. ويؤكد المركز ذاته أن هذه الممارسات لا تؤثر فقط على حقوق المواطنين الإريتريين في التعبير والوصول إلى المعلومة، بل تُسهم أيضًا في تكريس عزلة البلاد عن محيطها، بما يحول دون أي انفتاح سياسي أو اقتصادي فعّال.
برّرت الحكومة هذا القرار بضرورة التصدي لما وصفته بـمخططات خارجية تستهدف أمن البلاد واستقراره، لتتحول البنية التحتية المحدودة إلى أداة مباشرة لتعزيز السيطرة السياسية
تشهد إريتريا تدهورًا حادًا في أوضاع حقوق الإنسان، حيث تتواصل الانتهاكات الجسيمة المتمثلة في الاعتقال التعسفي، والحبس الانفرادي، والتجنيد الإجباري غير محدد المدة، إلى جانب القيود الصارمة المفروضة على حرية الرأي والتعبير. وفي هذا الإطار، أكد المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في إريتريا، محمد بابكر، أن السلطات اختارت الإبقاء على سياسات وممارسات تُكرّس الأزمة الحقوقية في البلاد. وحذّر من أنّ استمرار هذه الانتهاكات، في غياب آليات فعالة للإنصاف، لن يؤدي إلا إلى إدامة حلقة القمع، بما يعيق فرص إريتريا في تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة.
تكشف تجربة إريتريا كيف يمكن للفضاء الرقمي أن يتحول من محرّك للتنمية والانفتاح إلى أداة لإعادة إنتاج السلطوية وترسيخ العزلة. ففي بلد يحتل موقعًا استراتيجيًا على ضفاف البحر الأحمر، لا تقتصر تداعيات الانكماش الرقمي على الداخل، بل تمتد لتحدّ من قدرته على الانخراط في التنافس الجيوسياسي حول البنى التحتية الرقمية العابرة للقارات. وبينما تتسابق قوى إقليمية ودولية على مدّ الكابلات البحرية وتعزيز حضورها في الممرات الحيوية، يظل المجتمع الإريتري معزولًا عن هذه التحولات، رهينة سياسات تستثمر في ضعف الاتصال كوسيلة للضبط السياسي.