الأحد 15 يونيو 2025
نجحت الغابون في استعادة عضويتها بالاتحاد الأفريقي، كما أعلن الأخير رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على ليبروفيل، بعد الانقلاب العسكري على نظام بونغو في 30 أغسطس/آب 2023، بعد نجاحها في استكمال المرحلة الانتقالية، وتنصيب رئيس جديد للبلد. فيما لم تتم تسوية عودة خمس دول إلى حظيرة الاتحاد (مالي وبوركينافاسو والنيجر وغينيا والسودان)، بعدما فشلت المشاورات في مجلس السلم والأمن، بمبادرة مغربية، لإعادة إدماجها في المؤسسة، وحثها على تسريع الانتقال الديمقراطي. كما تراجعت الإيكواس عن عقوباته السابقة على دول الساحل دون أن تغيير قناعات قاداتها الجدد.
أعادت هذه الخطوات الجدل بشأن جدوى استمرار هذه العقوبات الاقتصادية، إذ لم تستطع فرض تغيير في سياسات الدول، بقدر ما امتدت تداعياتها المباشرة على المدنيين والاقتصاد والتنمية، ليتجاوز هدفها الضغط على الأنظمة السياسية، وتوسعت ارتداداتها للمساهمة في إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية.
تندرج العقوبات الاقتصادية ضمن ما يسمى "الدبلوماسية القسرية" أو الإكراه، أي فرض تكاليف على دولة من أجل ردعها أو إجبارها على عدم اتخاد إجراءات دون أن تصل إلى استخدام القوة. وهي إجراءات عقابية تفرضها المنظمات الدولية أو الدول من أجل تغيير سلوك دولة وسياساتها، انطلاقا من فلسفة ممارسة الضغط الاقتصادي عليها. تتنوع بين عقوبات اقتصادية ومالية، كالحظر التجاري أو تجميد الأصول وحظر المعاملات المالية وفرض قيود على السفر، وقد تتوسع إلى عقوبات دبلوماسية، مثل: الطرد من المنظمات أو عقوبات عسكرية من قبيل حظر الأسلحة، بفرض قيود على بيع أو شراء أو نقل المعدات العسكرية والأسلحة إلى الدولة المستهدفة.
اعتمدت الأمم المتحدة هذه العقوبات، وفق ميثاقها، باعتبارها تدابير لا تنطوي على استعمال القوة، كجزء من نهجها للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. تندرج هذه الجزاءات كأدوات للضغط من أجل ردع التغيرات غير الدستورية أو التصدي لدعم الإرهاب، ومن أجل حماية حقوق الإنسان، وتعزيز عدم انتشار السلاح النووي، وتسهر لجان خاصة بتتبعها.
شهدت القارة الأفريقية منذ 1966 أول حزمة عقوبات شاملة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ثم تطورت في التسعينيات بعد فرضها على العراق والصومال وإريتيريا، واتسع نطاقها في الألفية الجديدة لتشمل دول كثيرة. حتى الآن لا تزال المنظمة تفرض عقوبات على دول أفريقية، مثل: الصومال منذ 1992، والكونغو الديمقراطية منذ 2003، والسودان منذ 2004، وليبيا منذ 2011، وغينيا بيساو منذ 2012، وأفريقيا الوسطى منذ 2013، وجنوب السودان منذ 2015.
تأكد بأن العقوبات تنعكس على الناس قبل الأجهزة والحكومات، ومن أجل تجاوز تداعياتها، طورت الأمم المتحدة ما سمي "العقوبات الذكية"، أي عقوبات خاصة تفرض على أشخاص وجماعات ومنظمات محددة
يسخر الاتحاد الأفريقي هذا السلاح من جانبه، من أجل الضغط على العناصر المُنقلبة على الأنظمة الشرعية بالقوة، فنصت المادة 30 من ميثاقه على "تعليق مشاركة الدول" التي تصل حكوماتها إلى السلطة بطرق غير دستورية في كافة أنشطة الاتحاد ومؤسساته وهيئاته. كما نص الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم على فرض عقوبات وتدابير إلى غاية تسوية الوضع. بناء على ذلك، يسارع إلى فرض عقوبات على قادة الانقلابات العسكرية، والتي يتم رفعها بعد الإعلان عن جدول زمني لإدارة انتقالية جديدة أو تنظيم انتخابات.
للمنظمات الإقليمية الأفريقية نصيب من تدابير فرض العقوبات على أعضائها، فوفق بروتكول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا المعروفة باسم "الإيكواس" بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد، الذي يتوخى توحيد القيم والمبادئ الديمقراطية بدولها، واحترام الدستور وضمان عدم تدخل الجيش في العملية السياسية، تنفرد المنظمة بفرض عقوبات على كل التغيرات غير الدستورية. وتتدرج بيانات التنديد بالانقلاب واستدعاء السفراء، تم تباشر إجراءاتها العقابية؛ مثل إغلاق الحدود وتعليق جميع المعاملات التجارية والمالية والاقتصادية إلى غاية العودة للمسار الديمقراطي.
سارت المنظمة القارية على ذات النهج بعد العمليات الانقلابية المتتالية بمنطقة الساحل، ففرضت على الانقلابين بمالي عقوبات مالية وتجارية، ثم رفعتها في تموز/ يوليو 2022 بعد الإعلان عن جدول زمني للانتقال، قبل أن تعود لفرضها من جديد بعد اتهامهم بعدم احترام الموعد النهائي للمرحلة الانتقالية. كما هو الحال أيضا مع الانقلابيين في بوركينافاسو. وبعد الانقلاب المفاجئ بالنيجر، سارعت إلى فرض عقوبات على النظام الجديد، وتوقيف جميع المعاملات التجارية، وتجميد أصوله. وجمدت أيضا أصول المسؤولين العسكريين، واشترطت الإفراج على الرئيس المنقلب عليه محمد بازوم، وإعادته إلى السلطة للتراجع عن ذلك، وهددت بالتدخل العسكري لإعادته لسدة الحكم، وهو الأمر الذي حرك تضامنا من دولتي مالي وبوركينافاسو، والتي اعتبرت أن أي تدخل عسكري سيعد إعلان حرب عليهما، وترسخت معالم التحالف الجديد بينهما.
تتدخل الدول الأوروبية بدورها لفرض عقوبات باسم الاتحاد الأوروبي، كما طورت الولايات المتحدة نظاما للجزاءات تستهدف به الأنظمة السياسية، وشبكاتها الاقتصادية المناوئة لتوجهاتها، وقد يصادف أن تخضع دولة لكل هذه العقوبات. ورغم ذلك، تتعنت الدول المستهدفة في الاستجابة للضغوط، ليتجدد النقاش حولها جدوى ممارسة الضغط على الحكومات بالإجماع على أن تأثيرها على سلوك الدول ضعيف مقارنة بتكاليفها الباهضة على المدنيين.
شكل العراق ساحة مركزية للوقوف على التكلفة الأخلاقية للعقوبات وتداعياتها السلبية على المواطنين، إذ لم ينجح في تجاوز تداعياتها منذ فرضها عام 1990 إلى غاية 2010، فنتيجة للخناق الاقتصادي سقط أطفال عراقيون ضحايا لسوء التغذية نقص الإمدادات والخدمات، وانعكست على القطاعات الحيوية، مثل: قطاع الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، مما أثر مباشرة على المواطنين والأوضاع الإنسانية، فلم تساهم ترتيبات برنامج النفط مقابل الغذاء في إنهائها.
تأكد بأن العقوبات تنعكس على الناس قبل الأجهزة والحكومات، ومن أجل تجاوز تداعياتها، طورت الأمم المتحدة ما سمي "العقوبات الذكية"، أي عقوبات خاصة تفرض على أشخاص وجماعات ومنظمات محددة، عوض أن تبقى عقوبات عامة تستهدف الدولة ومؤسساتها، بما يضمن تقليل الاضرار على المدنيين. كما صدر قرار لمجلس الأمن رقم 2664 في ديسمبر/كانون الأول 2002، يستحضر الأثار المحتملة لها على الخدمات الإنسانية، ولضمان استمرار هذه الأنشطة قرر إعفائها من العقوبات، وإن كان مشروطا بضرورة بذل جهود لضمان عدم استفادة الأفراد والمنظمات الخاضعة للعقوبات من هذه الخدمات.
بشكل عام، تثير هذه العقوبات نقاشا قانونيا-أخلاقيا، فمن منظور إنساني يجب أن تسعى لتحقيق المكاسب السياسية، لكن مع الانتباه إلى أثاراها وعواقبها الإنسانية المثيرة للجدل. يجادل البعض حول نجاح وفعالية هذه العقوبات، تقليدية كانت أو ذكية، إنها وفقهم محدودة التأثير في سلوك الدول المعنية كما في العراق وفي ليبيريا. لكن البعض الآخر يعتبرها سلاح ذو حدين، فقد تنجح في تحقيق الأثر الاقتصادي، وسط محاذير من تداعياتها على الخدمات الاجتماعية، غير أنها تفشل في تحقيق الهدف السياسي.
في التفاصيل، رصدت دراسات عديدة تأثيراتها المباشر؛ إنها تعمل على تقليص النشاط الاقتصادي للدول المستهدفة، فينعكس على خفض التجارة مع هذه الدولة إلى حوالي 9٪ بسبب هذه الإجراءات العقابية. كما تؤدي إلى رفع تكاليف على النقل والخدمات والمعاملات، وتعطل طرق التجارة والعلاقات الاقتصادية، غير أن التقديرات أخرى تعتبر أدائها ضعيفا في الضغط على الدول، إذ لم يتجاور معدل نجاحها 20-30٪ في أحسن الأحوال.
إن العقوبات وتحركات الإيكواس كانت حسابات خاطئة، وتكلفتها استراتيجية على مسار المجموعة، وبدأت في إعادة ترتيب ومراجعة توجهاتها على ضوء هذا الواقع الجديد، ورسمت تداعيات عقوباتها معالم تحالفات جديدة بالمنطقة
تأكدت هذه المعادلة في العقوبات التي فرضتها الإيكواس على السلطات المنقلبة بدول الساحل؛ مالي وبوركينافاسو والنيجر، من أجل الضغط على المسؤولين عن هذه الانقلابات، إذ لم تنجح في الضغط عليهم بعد أن توافقت إرادتهم على تحدي قراراتها. فحاولت المجموعة تجاوز ذلك بإعادة التفاوض معهم، ومهدت لذلك برفع العقوبات عن مالي في فبراير/شباط 2024، تم أعقبتها بالتوالي على بوركينافاسو والنيجر، بعد أن أثيرت إشكالية انعكاساتها على الأوضاع الإنسانية.
سارعت المجموعة إلى رفعها رغم أنها لم تنجح في إعادة الأوضاع لسابق عهدها، ولم تحقق هدفها ودبت الخلافات داخل أروقتها بعد الفشل في التوافق على التدخل العسكري لإعادة الرئيس النيجيري للسلطة. كما اصطدمت بتلكؤ السلطات المنقلبة عن الاستجابة لمقرراتها، ورفعت السقف عاليا، بالتحالف مع السلطات المالية والبوركينابية، متحدية بقطيعة نهائية مع المجموعة.
علاوة على ذلك، كانت الانتقادات الداخلية والخارجية تنطلق من رصد تداعيات هذه العقوبات الإنسانية، فقد ساهمت في تعقيد الأوضاع الداخلية بالنيجر، حيث تشير إحصائيات صندوق النقد الدولي إلى أن 42٪ من سكانها يعيشون في فقر مدقع، وتعتمد على الدعم الخارجي بنسبة 40٪، وانعكست تداعياتها على نمو الإنتاج المحلي الإجمالي منخفضا بسبب تلك العقوبات إلى 2.3٪ في عام 2023، مما عقد الأوضاع في بلد يوصف كثاني أفقر بلد بالعالم.
كما كانت تأثيراتها واضحة على سابقاتها، مالي وبوركينافاسو، وساهم توحيد قراراتهما في تجاوز تداعياتها، برزت ملامح تجاوزها لتداعيات هذه الجزاءات بعد أن رسمت تحالفا ثلاثيا ضدها، وطورته لتكتل جديد يراهن على رسم معالم جديدة، مما جعل وزير الخارجية النيجري بكاري ياوو سنغاري يؤكد أن بلاده استطاعت تجاوز العقوبات المفروضة من المنظمة، بفضل الدعم الشعبي والمعارك الدبلوماسية مع دول الساحل.
لم تتوقف الانعكاسات المباشرة لهذه العقوبات على الدول المستهدفة، فقد ارتفعت الاحتجاجات الشعبية منددة بالضغط على دولهم، كما اعتبرتها بيانات الدول بأنها أدت إلى مزيد من إضعاف قدرات السكان، واستمرار لفشل المجموعة في تحقيق طموحات الأباء المؤسسين، وأنها تنعكس سلبا على الاقتصاد والتنمية، وتعقد الأوضاع الإنسانية. انعكست هذه الجزاءات سلبا على المنظمة، فعلى الصعيد الاقتصادي تكلف هذه العقوبات الجماعة خسائر مقدارها 74 مليون دولار سنويا بعد تجميد النيجر مالي بوركينافاسو عضويتهما، وسترتفع بعد انسحابهما الكامل من المنظمة.
وعلى الصعيد السياسي، أطرت تلك البلدان الساحلية لهذا التحول على الصعيد السياسي ببيان تعتبر فيها هذه العقوبات غير إنسانية وغير قانونية وغير مشروعة وغير مسؤولة، ونددت بقرارات المجموعة، واعتبرت أنها بهذه الإجراءات العقابية تكون قد انحرفت وخانت مبادئها، متهمة التكتل بكونه تأثير قوى أجنبية، واستكملت بيانها التصعيدي بقرار الانسحاب من المجموعة.
لم تسعف المجموعة محاولاتها تلافيه بتجديد مسار التفاوض وتجميد العقوبات، بعد أن تعنتت دول الساحل ودافعت على قرارها النهائي بالانسحاب من عضوية المجموعة، وإعلانها تأسيس كونفدرالية دول الساحل (AES). من شأن نجاحها أن يساهم في إغراء دول أخرى لسلك مسلكها، فبرزت طموحات طوغو والتشاد في هذا المسار، وسيفتح هذه القرار إمكانيات لتحدي القرارات المستقبلية للإيكواس.
تثير العقوبات نقاشا قانونيا-أخلاقيا، فمن منظور إنساني يجب أن تسعى لتحقيق المكاسب السياسية، لكن مع الانتباه إلى أثاراها وعواقبها الإنسانية المثيرة للجدل. إنها سلاح ذو حدين، فقد تنجح في تحقيق الأثر الاقتصادي، غير أنها تفشل في تحقيق الهدف السياسي
لم تتوقف الارتدادات عند حدودها السياسية، فعلى المستوى الاقتصادي، تشير التقديرات بأن تكلفة الانسحاب انعكست على علاقات دول الإيكواس بتحديات داخلية؛ إذ ستلغي اتفاقية التجارة الحرة وتعيق التكامل الاقتصادي وستعيق لا محالة كل مخططاتها المستقبلية للتكامل الإقليمي. كما تتهدد بخسارة 500 مليون دولار قيمة المشاريع الاقتصادية بدول الساحل المنسحبة.
إن المزايا الرئيسية للتكتل معرضة للخطر، باعتراف رئيس مفوضية المجموعة، عمر توراي، حيث ستخسر حوالي 17٪ من إجمالي سكان المجموعة، وما مقداره 7٪ من النتاج المحلي الإجمالي لها، معتبرا أن انسحاب الدول الثلاثة ضربة قوية للتعاون الإقليمي. مما يؤكد بأن العقوبات وتحركات الإيكواس كانت حسابات خاطئة وتكلفتها استراتيجية على مسار المجموعة، وبدأت في إعادة ترتيب ومراجعة توجهاتها على ضوء هذا الواقع الجديد، ورسمت تداعيات عقوباتها معالم تحالفات جديدة بالمنطقة.
بالمحصلة، أضحت العقوبات سلاحا ذو حدين، ينعكس على الأنظمة التي سلطت عليها هذه الجزاءات، غير أنها قد تنقلب إلى تحدي على من يفرضها. لتبدو كلعبة الروليت الروسية، قد تكلف لاعبها حياته على حساب رهانته المتوهمة. فهل كانت عقوبات الإيكواس على دول الساحل القشة التي قسمت ظهر المجموعة، وعكرت صفو احتفالها بخمس عقود على تأسيسها؟