الأحد 9 فبراير 2025
تمر هذه الأيام على الشعب السوداني، وهو يتطلع إلى نهاية الحرب التي أثقلت كاهله منذ ما يقرب العامين، وهو في حالة فرحٍ وحبور بسبب الإنتصارات العظيمة التي قام بها الجيش في عدد من المحاور، أبرزها ولاية الجزيرة وحاضرتها مدني التي إستولت عليها مليشيا الدعم السريع، منذ ديسمبر/كانون الأول عام 2023. وقد لاقى فيها المواطنون ما لاقوا من صنوف التنكيل والانتهاكات الجسيمة.
بدأ فصل جديد من فصول إنهاء الحرب، بإستعادة الجيش لولاية الجزيرة، سيما وأنها تُعتبر من أكبر وأهم ولايات السودان، فهي تتوسط البلد، ومأوى لثاني كثافة سكانية بعد العاصمة الخرطوم، كما تحتضن أكبر مشروع زراعي في البلاد أنشئ عام 1911.
إن دحر مليشيا الدعم السريع الموصومة بالإرهاب من قبل الحكومة السودانية؛ من ولاية الجزيرة له أبعاد عسكرية وسياسية مهمة للغاية، على رأسها أن الجيش نجح في إنهاء تمدد المليشيا العسكرية في وسط السودان، بعد أن وصلت قواتها إلى تخوم الحدود الجنوبية مع دولة جنوب السودان، وحدود البلاد الجنوبية الشرقية مع دولة إثيوبيا. ففي وقتٍ سابق، إحتلت المليشيا ولاية سنار، وحاولت التمركز في بعض مناطق ولاية النيل الأزرق.
نجح الجيش في إخراج مليشيا الدعم السريع من تلك المناطق، وواصل زحفه نحو ولاية الجزيرة محققاً إنتصارات كبيرة لها ما بعدها. أتت تحركات الجيش في الجزيرة، بالتزامن مع تحركات عسكرية مماثلة في ولاية النيل الأبيض التي تربطها حدود مع ولايتي سنار والجزيرة من جهة الشرق، بالإضافة إلى مصفاة الجيلي للنفط شمال ولاية الخرطوم، والمنتظر تحريرها كلياً من الدعم السريع في أي لحظة.
يُعدُ إنهاء الوجود العسكري للمليشيا في هذه الولايات خطوةً محورية في سبيل تحرير كامل ولاية الخرطوم؛ العاصمة السودانية المثلثة، والتي ينحصر وجود مليشيا الدعم السريع فيها على بعض المناطق في الخرطوم بحري والخرطوم.
إنتهى وجود الدعم السريع بولاية الجزيرة، بعد إستعادة الجيش السوداني لها بعد أن تجاوز تواجده بها عاما كاملا. مارس خلاله إنتهاكات جسيمة بحق المواطنين، وإرتكب جرائم إبادة بحق قرى عديدة، أبرزها مجزرة قرية ود النورة التي راح ضحيتها أكثر من 200 شخص، إضافة إلى أكثر من 124 قتيلاً في قرية السريحة وغيرها. وهو ما أكدته وزارة الخارجية الأمريكية.
سياسياً، تُكسب هذه الإنتصارات القوات المسلحة السودانية العديد من النقاط، أولها أن الجيش الذي شكك العديد من الأطراف الداخلية والخارجية في قدراته في الحسم العسكري للمعركة مع الدعم السريع، أصبح ينطلق في تحركاته من مبدأ القوة والمبادرة بالهجوم، بعد أن نجح في إمتصاص الصدمة الأولى، وأعاد ترتيب صفوفه. وإستفاد من القوات المساندة له، كالقوات المشتركة التي تم تشكيلها، كأحد مخرجات إتفاق جوبا، مع حركات دارفور المسلحة والمستنفرين والمقاومة الشعبية، وقوات درع السودان التي إنشق قائدها أبو عاقلة كيكل من مليشيا الدعم السريع في وقتٍ سابق.
هذا سينعكس بالضرورة على إمكانية الحل السياسي للأزمة التي طال أمدها، والذي يبدو عسيراً بعض الشيء، بعد إنتصارات الجيش السوداني من جهة، والعقوبات الأمريكية على قائد الدعم السريع ومؤسسات المليشيا الاقتصادية من جهةٍ أخرى.
كسب الجيش من هذه الجولة زيادة الدعم الشعبي له، وتعزيز التلاحم الوطني خلفه، خصوصا وأن ولاية الجزيرة لها رمزية كبيرة عند المواطن السوداني، بإعتبارها قلب السودان النابض الذي يربط بين ولاياته الشمالية والشرقية والغربية والجنوبية. فضلا عن كونها تعتبر عاصمة الثقافة، فمنها خرج العديد من المبدعين في مختلف المجالات الثقافية والفنية والفكرية والرياضية. ناهيك عن الدور الكبير والمقدر لأبنائها في أضابير السياسة السودانية.
يذكر أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أعلن، في 8 يناير/ كانون الثاني الجاري، فرضت بلاده عقوبات صارمة على قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسبع شركات تابعة له تعمل من دولة الإمارات. وذلك نتيجةً لما إرتكبته قواته من فظائع وإنتهاكات بحق المدنيين، في مناطق مختلفة بالسودان، في دارفور والجزيرة وغيرها. كما أكد بلينكن أن الولايات المتحدة ترى أن حميدتي وقواته إرتكبوا إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم إغتصاب وتجويع ممنهج في مناطق إنتشارهم.
جاءت هذه الخطوة متأخرة، لكنها ذات أهمية سياسية رمزية، لكونها ستزيد من عزم الجيش السوداني على إنهاء الحرب عسكرياً. كما أنها ستسهم في تحجيم حصول المليشيا على الدعم العسكري والسياسي من الداعمين الإقليميين والدوليين، خشية أن تطالهم العقوبات بسبب تأجيجهم الصراع في السودان.
تعتبر هذه العقوبات ضربة قوية للمليشيا وداعميها من القوى المدنية، خصوصا وأن قائد الدعم السريع الذي وقعت معه هذه القوى المدنية إتفاقاً لوقف الحرب وحماية المدنيين، في أديس أبابا في يناير/كانون الثاني 2024، ظل يُردد مراراً وتكراراً أنه يقاتل من أجل إستعادة الديمقراطية وحماية المدنيين، وهو ما لم تُصدقه أفعاله التحريضية بمواصلة القتال، وأفعال جنوده الذين عاثوا خراباً في الديار، وتقتيلاً وتشريداً للسودانيين داخل وخارج البلاد.
كما أنها تُلقي بالمزيد من الضغوط على المليشيا التي تتعرض للهزائم بشكلٍ يومي، ومتوقع خروجها من المشهد السياسي السوداني بشكلٍ كلي، بعد أن أصبحت مرفوضةً تماماً من قبل السودانيين، وأضحت حملاً ثقيلاً على داعميها الإقليميين والدوليين.
يمكن اعتبار الخطوة الأمريكية تحذيراً لداعمي مليشيا الدعم السريع الإقليميين، وعلى رأسهم دولة الإمارات التي ظلت تزود المليشيا بالمال والسلاح والدعم اللوجستي والسياسي. حالياً، تتعرض للضغوط الدولية بسبب دورها الهدام في الحرب السودانية.
في وقتٍ سابق كانت واشنطن قد أطلقت يد أبوظبي في السودان، لأسباب عدة، أبرزها: تكسير وإضعاف الجيش السوداني، وتحويل البلاد لدولةٍ يسهل التلاعب بها والتحكم في مواردها، وسرقة مقدراتها خدمة لإسرائيل وأجندتها في المنطقة. الأمر الذي أدى لحصول أزمات إنسانية واقتصادية ذات تداعيات كارثية على الإقليم.
بهذه الخطوة التي ستسهم في إنهاء الحرب السودانية، سينتهي تهديد تمدد النزاع ليشمل مناطق أخرى أكثر هشاشة، بما سيهدد الأمن والسلم الدوليين. وهو أمر مهم بالنسبة للولايات المتحدة التي فشلت إدارتها الحالية بقيادة الرئيس جو بايدن في التعامل الأمثل والناجح مع الأزمة في السودان، وإكتفائها بلعب دور محدود ركز على الجانب الإنساني بشكلٍ كبير.
ربما تأتي أيضاً في إطار إعادة ترتيب واشنطن لأوراقها في الشرق الأوسط وما حوله، وهي مناطق مشتعلة بالحرب في غزة والصراع بين إسرائيل وإيران، والتغيرات السياسية في سوريا وهشاشة الأوضاع في ليبيا واليمن وإثيوبيا. كما أن تمدد روسيا المنافس للولايات المتحدة في القارة الأفريقية على حساب فرنسا التي أُخرِجت من مناطق نفوذها التقليدي، يعتبر أمراً مزعجاً يجب التعامل معه ومعالجته، ولا يتأتى ذلك إلا بمحاولة إطفاء بعض بؤر الصراعات، وإفساح المجال للعمل السياسي.
يظل التفاوض هدفاً صعب المنال في الوقت الحالي، بعد التأكد من اقتراب الأزمة لنهايتها، وظهرت بوادر فشله في رفض الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الإنتقالي والقائد العام للقوات المسلحة السودانية إجراء لقاء مباشر برعاية تركيا، مع حميدتي قائد قوات الدعم السريع المتمردة، بل وتأكيده على المضي قدماً في العمل العسكري.
أضف لذلك الرسائل التي أطلقها نائب القائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس السيادة الإنتقالي الفريق شمس الدين كباشي، خلال إحتفاله مع الضباط والجنود في مدني حاضرة ولاية الجزيرة، والتي أكد فيها أن الجيش يمضي بخطىً ثابتة ومستعجلة لإنهاء وجود التمرد في كافة بقاع السودان، وأن لا بديل عن الحسم العسكري للأزمة. ولا تفوتنا الإشارة إلى تصريحات مماثلة لمساعد القائد العام وعضو مجلس السيادة الإنتقالي الفريق ياسر العطا تصبُ في ذات الإتجاه.
بالرغم من أن المليشيا نفسها وداعميها في مقدمتهم دولة الإمارات يسعون بشكلٍ حثيث لإجراء مفاوضات مع الجيش السوداني، لإنهاء الأزمة بشكلٍ مرضي للأطراف، يُمَكِن الدعم السريع من الحصول على موطئ قدم في الساحة السياسية السودانية، إلا أن الوقائع على الأرض لا تذهب في هذا الإتجاه لعدة عوامل، أبرزها الإنتصارات المتتالية والمتلاحقة للجيش. وعدم وجود رؤية واضحة للحل، وإنعدام التوصيف الدقيق للأزمة من قبل أصحاب مبادرات التفاوض. وتضارب المصالح السياسية للأطراف الإقليمية والدولية في الأزمة السودانية.
فضلاً عن أن شروط الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي أُعلن عنها في منبر جدة، وما تم التوصل إليه من توافقات في ذات المنبر لم يتم الإلتزام بها، وبعضها لم يعُد متوفراً بعد الآن.
كما أن مليشيا الدعم السريع تعاني من فوضى قيادية، بإختفاء قادتها المعروفين بسبب موتهم أو هروبهم من ساحة القتال، وإكتفاء قائدها حميدتي بالتسجيلات الصوتية بديلاً للظهور الفعلي. إضافة لعدم الوضوح في هيكلها الإداري والتنظيمي، بعد أن غادره العديد من صقور المرحلة السابقة، أبرزهم يوسف عزت مستشار قائد قوات الدعم السريع. ناهيك عن حدوث تضعضع وبوادر إنقسام في صفوف القوى المدنية الداعمة للمليشيا، على إثر إعلانها نيتها تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة المليشيا.
كلها عناصر رئيسية تستند إليها الحكومة السودانية في رفضها غير المعلن للتفاوض مع الدعم السريع كوسيلة لإنهاء الحرب في البلاد.