تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

أنثوية العدالة: تأملات في الذاكرة الاجتماعية للقانون

18 أكتوبر, 2025
الصورة
أنثوية العدالة: تأملات في الذاكرة الاجتماعية للقانون
Share

اعتمدت مجتمعات أفريقية كثيرة قبل الاستعمار الأوروبي وبعده على الأعراف بوصفها الإطار الناظم للحياة الاجتماعية. لم يكن هذا القانون مدوّنًا أو مقننًا لدى مؤسسات رسمية، بل كان منغرسًا في نسيج الحياة اليومية — في علاقات القرابة، والروايات الشفوية، والطقوس الجماعية. وكان في هذا السياق أقرب إلى منظومة أخلاقية–اجتماعية منه إلى جهاز عقابي رادع.

فالغرض الأساسي من هذه الأنظمة لم يكن فرض العقوبة، كما في الدولة الحديثة، بل استعادة الانسجام الاجتماعي وضمان تماسك الجماعة. لذلك، كانت العدالة العرفية تقوم على قيم مثل: التوافق والوساطة والصلح، بدلًا من الصراع والمواجهة القضائية. هذه الرؤية تعبّر عن فهم مختلف لمفهوم العدالة ذاته - عدالة تنبع من الجماعة لا من الدولة.

النساء حاملات الذاكرة القانونية

في هذا السياق الاجتماعي–القانوني، شغلت النساء حيزًا استراتيجيًا من السلطة. فبفضل موقعهن داخل البنية الأسرية، كنّ على معرفة دقيقة بالأنساب والتحالفات العائلية وتاريخ النزاعات، وهي معرفة لا تقل أهمية عن القانون نفسه. وقد جعلت هذه المعرفة من النساء فاعلات قانونيات، حتى وإن لم يظهرن في السجلات الرسمية التي كتبها المستعمرون لاحقًا.

كما بيّنت آن غريفيتس في دراستها عن العدالة العرفية في بوتسوانا، فإن السلطة القانونية في المجتمعات الأفريقية التقليدية لا تُختزل في القاضي أو الزعيم، بل تتوزع على شبكة واسعة من الفاعلين الاجتماعيين، وفي مقدمتهم النساء الكبيرات في السن، اللواتي غالبًا ما كنّ يحتفظن بالذاكرة القانونية للجماعة. وتؤكد دورتي جودسن في دراستها عن الماساي أن معرفة النساء بتفاصيل العلاقات الأسرية كانت شرطًا أساسيًا لنجاح أي عملية وساطة أو صلح.

القانون العرفي لا يفصل بين الحقيقة الاجتماعية والحقيقة القانونية؛ إنه يراها وجهين لعملة واحدة

هذا الشكل من السلطة القانونية غير الرسمية لا يظهر في الأرشيفات المكتوبة - التي صاغها الإداريون الاستعماريون وفق رؤيتهم المركزية - لكنه كان حاسمًا في الحياة اليومية، واستمرار المجتمعات قبل نشوء الأنظمة القانونية الحديثة.

النزاعات الأسرية ودور النساء

كانت النزاعات الأسرية والزوجية من أكثر القضايا شيوعًا أمام المجالس العرفية في المجتمعات الأفريقية التقليدية، لأنها تمسّ النسيج الاجتماعي الحميمي للجماعة. ولأن هذه النزاعات تنشأ داخل دائرة القرابة، فإن الفاعلين الاجتماعيين الأقرب إلى الحياة اليومية للأطراف المتنازعة هم الأكثر تأثيرًا في تسويتها. وهنا تحديدًا، كان صوت النساء حاسمًا، ولا سيما الكبيرات في السن اللواتي كنّ يُعدن بمثابة "ذاكرة العائلة" وحاملات سردياتها.

إن المجالس العرفية لا تتعامل مع الوقائع باعتبارها "ملفات"، بل باعتبارها علاقات اجتماعية ينبغي ترميمها. ومن يمتلكن معرفة معمقة بسياق هذه العلاقات – الجدات والعمّات والجارات الكبيرات - كنّ في موقع يمكّنهن من صياغة "السرد القانوني" الذي يُبنى عليه القرار. ويلاحظ سيمون روبرت أن هذه المجالس كانت تمنح الثقة لمن يملك المعرفة الاجتماعية لا القانونية. فالقانون العرفي لا يُفصل بين الحقيقة القانونية والحقيقة الاجتماعية، بل يراهما وجهين لعملة واحدة. وبما أن النساء كنّ الأقدر على ربط الأحداث بالسياق الاجتماعي للعائلة، فقد أصبحن مفتاحًا لفهم النزاع، وبالتالي مفتاحًا لحلّه.

تحرير الخيال القانوني الأفريقي يبدأ من الاعتراف بالنساء بوصفهن فاعلات تأسيسية في صناعة العدالة

لقد كانت مجالس النساء للمصالحة فضاءات منظمة ذات شرعية عرفية عميقة، تعالج القضايا الحساسة التي يصعب طرحها أمام الرجال أو المجالس العلنية، مثل: العنف الأسري والزواج القسري والاعتداءات الجنسية. وكانت تنعقد غالبًا في باحات النساء الكبيرات في السن، حيث تسود الحميمية والإنصات، ويُمنح الأطراف - ولا سيما النساء - هامشًا أكبر للتعبير بحرية. وغالبًا ما كان مجلس الرجال يحيل إليها قضايا "الحرمة"، في اعتراف ضمني بخبرة النساء القانونية والاجتماعية.

مثّلت هذه المجالس شكلاً من الحقول القانونية شبه المستقلة بالمعنى الذي تحدثت عنه سالي فالك مور، حيث تتشكل أنماط موازية للسلطة القضائية خارج أجهزة الدولة، وتتمتع بقدرة حقيقية على إدارة النزاعات الاجتماعية الحساسة. وأوضحت فاطمة صديقي أن شرعية هذه المجالس ترتكز على الذاكرة الجماعية والحكمة المتراكمة لدى النساء المسنات، اللائي يُنظر إليهن بوصفهن حارسات للتوازن الاجتماعي والقيمي داخل الجماعة، وأن قراراتهن لم تكن مجرد تعبير أخلاقي بل أحكام نافذة ذات أثر عملي مباشر.

الحالة المغربية: قضايا "الحرمة"

لقد أدت النساء في المغرب دورًا محوريًا في ما يُعرف بقضايا "الحرمة"، أي القضايا المتعلقة بالشرف والسمعة والروابط الأسرية الحساسة. كانت هذه السلطة القانونية–الرمزية تستند إلى كون النساء حاملات الذاكرة الأخلاقية للجماعة، والعالمات بخفايا العلاقات الاجتماعية ومساراتها غير المعلنة. شهادة امرأة مسنّة ذات مكانة اجتماعية محترمة كانت كفيلة باستعادة سمعة أو هدمها، وغالبًا ما كانت تمثّل حكمًا نهائيًا أكثر إلزامًا من أي قرار صادر عن مجلس الرجال. هذه المكانة ليست ملحقًا بالنظام العرفي، بل عنصرًا بنيويًا فيه.

شكّل التدخل الاستعماري الأوروبي في أفريقيا نقطة تحوّل عميقة في تاريخ الأنظمة القانونية العرفية. فقد سعى المستعمرون، سواء في الفضاءات الفرنكفونية أو الأنغلوساكسونية، إلى مركزة القانون وتدوينه ضمن أجهزة الدولة الاستعمارية. هذه المقاربة الإدارية–القانونية أدت عمليًا إلى إقصاء النساء ومجالسهن من المجال القانوني العلني، وإعادة رسم حدوده بما يتوافق مع التصورات الاستعمارية عن السلطة والجندر.

الاستعمار لم يُدخل القانون فحسب، بل أعاد رسم خريطته على نحوٍ أقصى النساء من فضاءاته الحيّة

وقد أشار محمود مدني في كتابه "مواطنون وأتباع" إلى أن لحظة الاستعمار كانت أيضًا لحظة إعادة تشكيل القانون العرفي بطريقة تقصي النساء. إذ قام المستعمرون بتقنين العرف وتحويله إلى جهاز رسمي تحت سلطة "الرجل الزعيم" الذي يعترف به الحاكم الاستعماري. وبهذا التحول، تلاشت سلطة النساء من الوثائق الرسمية، لكنها لم تتلاشَ من الواقع.

تناول عدد من الباحثين المغاربة - من بول باسكون إلى فاطمة المرنيسي - أثر الاستعمار على توزيع مراكز القوة داخل البنية التقليدية، مبرزين كيف همّش هذا التحول الأدوار القانونية والاجتماعية للنساء، وأعاد تشكيل السلطة العرفية، وفق منطق هرمي وذكوري يخدم الهيمنة الاستعمارية. هذا التحليل المتراكم ساهم في بناء تصور نقدي حول كيفية إعادة صياغة المجال القانوني المحلي وإقصاء النساء منه بوصفهن فاعلات أساسيات.

إنّ إعادة الاعتراف بدور النساء في العدالة الأفريقية هو مدخل لتفكيك البنية الاستعمارية للقانون، وإعادة تشكيل السردية القانونية على نحوٍ أكثر شمولًا وعدالة. فالاستعمار لم يقتصر على فرض قوانين جديدة، بل أعاد توزيع مراكز السلطة القانونية، وأقصى النساء من فضاءات الحكم العرفي التي كنّ يشكلن جزءًا بنيويًا منها.

إن هذا الاعتراف محاولة لتحرير الخيال القانوني الأفريقي من مركزية النموذج الاستعماري. وهو يتطلّب تثمين إسهامات النساء في الأنظمة القانونية المحلية، وتقوية فضاءات العدالة القاعدية، وابتكار صيغ قانونية هجينة تتجاوز الثنائية الجامدة بين القانون الرسمي للدولة والقانون العرفي التقليدي. كما يعني إعادة تعريف مفهوم العدالة نفسه، وفكّ ارتباطه الحصري بالدولة ومؤسساتها القضائية، وفتح المجال أمام تصوّرات تعددية للعدالة تتأسس على الشرعية الاجتماعية والذاكرة الجماعية والسلطة الرمزية التي مارستها النساء تاريخيًا.

وبذلك، فإن إعادة إدماج النساء في السردية القانونية الأفريقية تمثل خطوة تأسيسية نحو بناء عدالة ما بعد استعمارية، تعيد توزيع السلطة القانونية وتوسّع دوائر الفعل والاعتراف.