الأحد 9 نوفمبر 2025
قبل أن تمر 24 ساعة على وصول الرئيس إلى مدينة كيسمايو وبدء الجلسات بينهما، انهارت المحادثات بين الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود وحاكم ولاية جوبالاند أحمد محمد إسلام "مدوبي"، التي انطلقت في الخامس من أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري، مما بدّد الآمال المعقودة على التوصل إلى تسوية للأزمة بين الجانبين، في ظل بروز مؤشرات تُظهر توجّه الطرفين نحو خيارات التصعيد، واستعداد كلّ منهما لجولة جديدة من المواجهة السياسية الأكثر حدّة.
مرّ عام كامل منذ اندلاع الأزمة بين الحكومة الفيدرالية وولاية جوبالاند، التي بدأت بانسحاب حاكم الولاية أحمد مدوبي من اجتماع المجلس التشاوري في مقديشو في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، احتجاجا على الخطة الانتخابية التي أقرتها الحكومة الفيدرالية والولايات المتحالفة معها. بعد ذلك، شرع مدوبي في تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية أسفرت عن إعادة انتخابه لولاية جديدة، الخطوة التي رفضتها الحكومة الفيدرالية، معتبرة إياها إجراءً مخالفًا للقوانين الوطنية والقرارات المنظمة للانتخابات، ولا يستند إلى أي شرعية دستورية.
حينها، ردّت الحكومة الفيدرالية على ذلك بخطوات عسكرية تمثلت في نشر وحدات من الجيش الفيدرالي في منطقة رأس كمبوني داخل الولاية، وخوض مواجهات عنيفة مع قوات جوبالاند انتهت بهزيمة قاسية للقوات الحكومية، ما اضطرّها إلى سحب وحداتها نحو مقديشو. غير أن المواجهات لم تتوقف عند هذا الحد، إذ انتقلت لاحقًا إلى محافظة جدو، حيث تمكنت القوات الحكومية من تحقيق مكاسب ميدانية محدودة، مستفيدة من الحاضنة الرافضة لحكم أحمد مدوبي هناك.
لم تأتِ هذه المحادثات نتيجة رغبة مشتركة بين الطرفين، ولا عن قناعة متبادلة بأن الوقت قد حان للجلوس إلى طاولة الحوار لبحث القضايا الخلافية والتوصل إلى أرضية مشتركة يمكن البناء عليها، بل جاءت نتيجة ضغوطٍ إقليمية مورست على الجانبين لدفعهما إلى الحوار ومحاولة إيجاد مخرجٍ للأزمة؛ إذ لم تسبقها اجتماعاتٌ تمهيدية على مستوياتٍ متوسطة أو دنيا لبناء الثقة وحسن النية، وهي الخطوة التي كان من شأنها أن تتيح اختبار مدى استعداد كل طرف لتقديم التنازلات اللازمة.
تتصدر كينيا قائمة هذه الأطراف، باعتبارها الحليف الأبرز لأحمد مدوبي والداعم الرئيسي لبقائه في السلطة على مدى نحو عقد ونصف، كما أن الإمارات وإثيوبيا لعبا دورا في دفع الطرفين نحو المفاوضات، انطلاقا من مصالح آنية تربطهما بالحكومة الفيدرالية من جهة، وعلاقتهما بحليف مدوبي من جهة أخرى؛ إذ يشكل القاسم المشترك بين هذه الدول السعي لضمان استمرار مدوبي في حكم الولاية، من خلال منع الحكومة الفيدرالية من إنشاء إدارة موازية تحظى باعترافها داخل الولاية.
ورغم جهود الوسطاء، كان لدى الطرفين خطط تصعيدية جاهزة ضد بعضهما البعض؛ إذ كانت الحكومة الفيدرالية تعمل على إنشاء ما يُعرف بـ"جوبالاند الجديدة" في محافظة جدو لتكون إدارةً موازية لإدارة مدوبي، ممهّدة لذلك بنشر قواتها في مدينة بلد حواء، حيث اندلعت مواجهات عنيفة مع قوات الولاية انتهت بهزيمة الأخيرة. في المقابل، تحالف مدوبي مع ولاية بونتلاند ومنتدى الإنقاذ الصومالي المعارض، الذي يتخذ من مقديشو مقرًا له، حيث توصلوا إلى تفاهمات أولية لتشكيل ما عُرف بـ"مجلس مستقبل الصومال"، الذي يضم الولايتين وأعضاء المنتدى في العاصمة.
تتصدر كينيا قائمة هذه الأطراف، باعتبارها الحليف الأبرز لأحمد مدوبي والداعم الرئيسي لبقائه في السلطة على مدى نحو عقد ونصف، كما أن الإمارات وإثيوبيا لعبا دورا في دفع الطرفين نحو المفاوضات، انطلاقا من مصالح آنية تربطهما بالحكومة الفيدرالية
هذا المناخ المشحون الذي أحاط بالمفاوضات كان كفيلا بإضعاف فرص نجاحها؛ إذ تمسك الرئيس حسن شيخ محمود بضرورة تراجع مدوبي عن نتائج الانتخابات التي أجراها في نوفمبر/تشرين الأول الماضي، والتي منحته ولايةً جديدة، والعودة إلى طاولة المجلس التشاوري الوطني للتوافق حول الخطة الانتخابية المعتمدة من الحكومة الفيدرالية وحلفائها، لكن مدوبي رفض هذا المطلب، واشترط أن تعترف الحكومة الفيدرالية أولا بشرعية انتخابه قبل الدخول في أي ترتيبات سياسية لاحقة.
بهذه المواقف المتضاربة، تعثرت المحادثات سريعا، ليتضح أن الضغوط الخارجية – رغم نجاحها في جمع الطرفين – لم تُفلح في خلق إرادة سياسية حقيقية للتسوية، إذ ظل قرار الحل مرهونا بحسابات كل طرف ورغبته في فرض شروطه، لا بإرادة مشتركة لإنهاء الأزمة.
على الرغم من تأكيد الطرفين في بيانيهما المنفصلين، عقب انهيار المحادثات، على الاستمرار في الحوار، فإن المواقف التي ظهرت فور مغادرتهما طاولة التفاوض حملت نبرة تصعيدية واضحة. فقد شرع كل طرف في إعادة ترتيب أوراقه استعدادا لمواجهة جديدة مع خصومه، وكأن الحوار لم يُجرَ أصلا؛ إذ بدأ الطرفان في اختبار جديد تحكمه معادلة المواجهة لا التفاهم، وهو مسار قد يؤدي ـ كما حدث في تجارب سابقة ـ إلى العودة لاحقا للحوار، ولكن بعد استنزاف بشري واقتصادي مؤلم.
توجّهت الحكومة الفيدرالية إلى إعادة تفعيل خطتها السابقة التي كان يُتداول بشأنها قبل بدء المحادثات، والقائمة على إنشاء إدارة موازية في مدينة غربهاري بمحافظة جدو، تكون موازية لتلك القائمة في كسمايو بقيادة أحمد مدوبي، ومنحها اعترافا رسميا باعتبارها الإدارة الشرعية لولاية جوبالاند، وذلك من خلال تشكيل لجان تُعنى بالتحضير لهذه الخطوة.
بينما اتجه أحمد مدوبي إلى المضيّ قدمًا في التنسيق مع رئيس ولاية بونتلاند وأعضاء "منتدى الإنقاذ" المعارض، لاستكمال تشكيل ما يُعرف بـ"مجلس مستقبل الصومال"، الذي أُعلن مؤخرا عن قرب إطلاقه، ليكون منصة جامعة لقوى المعارضة الصومالية في مواجهة إدارة الرئيس حسن شيخ محمود، ومحاولة فرض شرعية سياسية موازية على الأرض تُوازن نفوذ الحكومة الفيدرالية.
تبرز تساؤلات حول مدى قدرة الحكومة الفيدرالية على حسم الأزمة مع أحمد مدوبي عبر المضي في خيار إنشاء إدارة جديدة في محافظة جدو
ورغم شروع الحكومة الفيدرالية في اتخاذ خطوات عملية لتنفيذ تلك الخطة، إلا أنها تواجه تحديات معقّدة قد تعيق نجاحها؛ أبرزها اعتراض كلٍّ من كينيا وإثيوبيا، الدولتين الجارتين اللتين تتاخم محافظة جدو حدودهما، إذ تعتبران أن إنشاء إدارة جديدة متنازع عليها في المنطقة قد يُشكل مساسًا بأمنهما القومي. غير أن مقديشو تحاول تبديد هذه المخاوف، فقد قام الرئيس حسن شيخ محمود بزيارة إلى إثيوبيا في مسعى لطمأنة أديس أبابا، واحتواء أي توتر محتمل قد ينشأ عن تنفيذ خطته لإنشاء الإدارة الجديدة، فيما يفترض أن يصل بزيارة مماثلة إلى كينيا.
ومع ذلك، تواجه الخطة تحديًا داخليًا لا يقل تعقيدًا، يتمثّل في تصاعد المعارضة الرافضة لها؛ إذ حذّر معظم النواب في البرلمان الفيدرالي المنتمين إلى الولاية الحكومة من الإقدام على أي خطوات في هذا الاتجاه، لما قد يترتب على ذلك من تبعات سياسية وتشريعية. كما أن ضيق الوقت المتبقي من ولاية الرئيس، الذي لا يتجاوز سبعة أشهر، يُعدّ تحديًا إضافيًا يُقلل من فرص المضي قدمًا في تنفيذ الخطة.
بسبب هذه التحديات المتعددة، تبدو فرص نجاح مشروع إنشاء ما يُعرف بـ«جوبالاند الجديدة» محدودة للغاية، فطريق تنفيذه محفوف بالمخاطر السياسية والأمنية، وقد يُجبر الحكومة الفيدرالية على دفع أثمان باهظة، أبرزها التضحية بعلاقاتها مع دول الجوار، دون ضمان تحقيق هدفها في إزاحة أحمد مدوبي، الذي يبدو أنه يكسب الوقت لصالحه مستفيدا من قِصر المدة المتبقية من ولاية الرئيس حسن شيخ محمود.
ومع اتجاه الطرفين نحو التصعيد المتبادل، من خلال استخدام كلٍّ منهما الأوراق المتاحة لديه، تبرز تساؤلات حول مدى قدرة الحكومة الفيدرالية على حسم الأزمة مع أحمد مدوبي عبر المضي في خيار إنشاء إدارة جديدة في محافظة جدو، وهو خيار تسعى من خلاله إمّا إلى الإطاحة ب"مدوبي" عبر تشديد الضغوط عليه، أو على الأقل إلى إنجاح خطتها بتأسيس إدارة بديلة، تتماشى مع رؤيتها الانتخابية التي تمثل جوهر الخلاف القائم بين الجانبين.
شرع كل طرف في إعادة ترتيب أوراقه استعدادا لمواجهة جديدة مع خصومه، وكأن الحوار لم يُجرَ أصلا؛ إذ بدأ الطرفان في اختبار جديد تحكمه معادلة المواجهة لا التفاهم
لكن بالنظر إلى هذا الطرح، تشير المعطيات على الأرض إلى انعدام فرص نجاح الحكومة في هذا المسار التصعيدي، فالإقدام على مثل هذه الخطوة لن يسهم في حلّ الأزمة، بقدر ما سيؤدي إلى تعقيدها وتوسيع نطاقها السياسي، خاصة أن معظم أطراف المعارضة تقف إلى جانب أحمد مدوبي، ما يمنحه دافعا قويا لمواصلة المواجهة لفترة أطول مما يمنحه مساحة أوسع للتحرك والمناورة، ويتيح له إطالة أمد المواجهة واستثمار عامل الوقت لصالحه.
وفي حال تنفيذ الحكومة خطة الإنشاء للإدارة الجديدة، فمن غير المستبعد أن تلجأ المعارضة، بمختلف أطيافها، إلى خطوات موازية، مثل إعلان حكومة فيدرالية موازية في كسمايو أو جرووي، كردٍّ مباشر على تحركات الحكومة، خاصة في ظل الحديث عن نية المعارضة عقد مؤتمر موسع خلال الأسابيع القادمة في مدينة جرووي، عاصمة ولاية بونتلاند، مما قد يغذي حالة الفوضى ويعمّق الأزمة السياسية في البلاد، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الانقسام المؤسسي والسياسي.
وعند النظر إلى فرص الحكومة الفيدرالية في حسم الأزمة عبر خيار التصعيد، يبدو هذا الخيار مُضرًّا بها أكثر مما هو مُضرّ بخصمها، بالنظر إلى موازين القوى الراهنة؛ إذ يمتلك أحمد مدوبي عامل الوقت الذي لا يخسر معه شيئًا بمرور الأيام، ما يجعله قادرا على التمسك بمواقفه لفترة أطول. في المقابل، يُضعف استمرار الأزمة موقف الحكومة الفيدرالية تدريجيا، خاصة مع اقتراب نهاية الولاية الدستورية للرئيس وفقدانه المتزايد للشرعية السياسية، الأمر الذي يجعل كلفة المواجهة – سياسيا وأمنيا – باهظة عليها، ويقلّص قدرتها على المناورة مع مرور الوقت.