تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
سينما

إمبريالية الشاشة: من يملك الحق في سرد الحكاية؟

11 سبتمبر, 2025
الصورة
إمبريالية الشاشة: من يملك الحق في سرد الحكاية؟
Share

أصدرت شركة أمريكية مستقلة في أبريل/نيسان المنصرم فيلم "الحرب"، وهو عبارة عن دراما مستوحاة من تجارب المخرج المشارك راي ميندوزا أثناء الغزو الغربي للعراق. يتتبع الفيلم، وحدة من قوات البحرية الخاصة الأمريكية (Navy SEALS) تحاول النجاة بعد أن حاصرها "متمردون" في منزل مُحتل. يضم الطاقم مجموعة من نجوم هوليوود الجذابين الذين يبدون – بطريقة ساخرة – غافلين عن الدعاية الأخلاقية الملتبسة التي يشاركون فيها. وقد نال الفيلم إشادة واسعة من النقاد، كثير منهم أثنوا على ما وصفوه بــ"التحية الموضوعية" لـــــ"الأبطال الحقيقيين".

بيد أن الفيلم لا يكشف عن سياقات وجود الجنود الأمريكيين؛ فهو بلا شك موجّه إلى جيل لم يعش تلك الحرب. فبينما تدور الأحداث في الرمادي عام 2006، لا يقدم أي تفسير لوجود القوات هناك، التي تتحرك بسيل من الرصاص والعنف، وكأن الحماس الدموي يكفي لخداع جمهور صغير السن، محوّلًا المأساة إلى أشبه برحلة أفعوانية في ديزني لاند. هذه ليست سابقة؛ فالسينما الإمبريالية طالما احتكرت سرد الحكاية الإنسانية، مبرّرة الاحتلال والإبادة.

لا يكفي، في مواجهة هذا الخطاب، نقد الشكل الفني فقط، بل ينبغي تقدير المحاولات المبكرة لبناء سينما مناهضة للاستعمار. ومن أبرزها ما نشأ في مصر مع مشروع جمال عبد الناصر منذ 1952 لصياغة رؤية قومية عربية. في ذلك "العصر الذهبي للسينما المصرية"، وُضعت أسس صورة مضادة للإمبريالية، تربط نضالات الماضي بالحاضر.

طالما احتكرت السينما الإمبريالية سرد الحكاية الإنسانية، مبرّرة الاحتلال والإبادة

ومن بين تلكم المشاريع، نعثر على فيلم "جميلة الجزائرية (1958) "ليوسف شاهين، الذي يوثق اعتقال المناضلة "جميلة بوحيرد" وتعذيبها على يد فرنسا، والغضب الدولي الذي أثارته محاكمتها. الفيلم يتحدى السرديات الإسلاموفوبية الغربية، ويقوض الصورة العنصرية التي تختزل المرأة العربية في دور الضحية المنتظرة "للمنقذ الأبيض"، بينما يروّج الاستعمار بوصفه مشروعا نسويا زائفا. وباستخدامه لغة السينما الهوليوودية نفسها، يسخر شاهين من منطق القوى الاستعمارية.

ورغم عرض العديد من أفلام شاهين وترميمها عالميًا، بقي "جميلة الجزائرية" في الظل، موصوفًا أحيانًا بالدعاية المباشرة. لكن هذا التوصيف يتجاهل براعة شاهين في إعادة توظيف أدوات السينما الإمبريالية نفسها لمواجهة سردياتها، وتثبيت حضور صوت الشعوب المستعمَرة في تاريخ الفن السابع.

دخلت السينما مصر مبكرًا، بعد أسبوع واحد فقط من أول عرض سينمائي في باريس عام 1896 للأخوين لوميير. لكن رغم شبكة دور العرض والاستوديوهات الواسعة، لم تكن الأفلام الأولى سوى نسخ مُعاد إنتاجها من قصص أوروبية. كما تذكر الباحثة إيلا شوحات، تحولت مسرحيات وروايات مثل: "جسر واترلو" و"البؤساء" إلى أفلام مصرية بأسماء جديدة، بينما غاب الأدب المحلي عن الشاشة. وقد رسّخت القوى الاستعمارية من خلال إعادة إنتاج القاموس البصري الغربي، ثقافة شعبية تمر عبر أساطير الغرب وشخصياته. وما زاد الأمر سوءًا أفلام اعتمدت على كليشيهات استشراقية فجّة، تصوّر العالم العربي بوصفها مكانا يعج بالعنف والانحراف. أطلق النقاد، لاحقًا، على هذه المرحلة اسم "سينما الأفيون"، في تشابه مع الإنتاجات الدعائية في إيطاليا الفاشية أو هوليوود في زمن الخط الإنتاجي.

وصف يوسف شاهين تلك المرحلة في مقابلة، عام 1996، بقوله: "لم يكن هناك شيء غير ذلك. بعض الأفلام كانت تُنسخ مشهدًا بمشهد. أصبحت أفلامًا أمريكية ناطقة بالعربية. أما أنا، فكنت أريد أن أصنع أفلامي الخاصة".

لقد استثمر يوسف شاهين القاموس البصري الغربي ليعيد توجيهه ضد أصحابه

وجد السينمائيون مع صعود جمال عبد الناصر عام 1952، مساحة للانفكاك من هذا القالب. حيث أدرك عبد الناصر دور الفن في مشروعه القومي العربي، فأنشأ مؤسسات إعلامية مثل: "صوت العرب" و"منظمة توحيد السينما". ورغم الرقابة الصارمة، فإن هذه المؤسسات قاومت الهيمنة الغربية، ومنحت السينما المصرية دفعة إنتاجية كبيرة: أكثر من 500 فيلم في عقد واحد، بينها أعمال جسدت التضامن مع ثورات اليمن والجزائر.

وقد جاء فيلم "جميلة الجزائرية"من رحم هذه اللحظة، ببطولة ماجدة الصباحي، بحسبانه أول عمل يتناول الكفاح المسلح في الجزائر. حُظر الفيلم فورًا في فرنسا التي كانت تفرض حينها حكمًا استعماريًا قمعيًا، وصل إلى تهجير مليوني جزائري إلى معسكرات اعتقال. هذا التناقض الفجّ بين خطاب "الحرية والمساواة" وبين ممارسات الاحتلال، كان ما أراد شاهين فضحه. وكما كتب المفكر المناهض للاستعمار والتر رادني: "حين قامت الثورة الفرنسية باسم الحرية والمساواة والإخاء، لم يمتد هذا الشعار إلى الأفارقة السود الذين استعبدتهم فرنسا".

بنى يوسف شاهين فيلم "جميلة" على هذا التناقض الصارخ، مستعينًا بلغة السينما الأوروبية والأمريكية نفسها لفضح اعوجاج الخطاب الاستعماري. جاء نقده الأبرز للنفاق الثقافي الفرنسي عبر تشبيه "جميلة" بـ"جان دارك"، البطلة القومية وأيقونة السينما الأوروبية. فقد أحدثت اللقطات القريبة المكثفة في فيلم آلام جان دارك (1928)للمخرج كارل دراير، ثورة في اللغة السينمائية، إذ منحت الجمهور تجربة إنسانية حميمية مع مأساة الاستشهاد.

يعيد شاهين في فيلم "جميلة" بناء مشاهد المحاكمة على النمط ذاته: جدران بيضاء عارية، قضاة استعماريون مكان القساوسة المتغطرسين، ورأس "جميلة" الحليق ليعكس صورة "جان دارك"، رغم أن صور المحاكمة الحقيقية لم تُظهرها كذلك. تُركّز الكاميرا على وجوه القضاة المشوّهة بالإضاءة، في محاكاة مباشرة لمشاهد دراير. تصبح "جميلة" هنا نظير "جان دارك" الجزائري: رمزًا وطنيًا يواجه احتلالًا أجنبيًا.

لا يقتصر هذا التناص البصري على الاقتباس الجمالي، بل يكشف المفارقة السياسية: كيف لدولة تزعم رفع لواء الحرية أن تمارس أبشع أشكال القمع؟ تصبح المحاكمة مرآة للاحتلال الفرنسي، الذي يواصل التبجح بالقيم الديمقراطية فيما ينسفها يوميًا في المستعمرات. وهو ما أشار إليه فرانز فانون ساخرًا: "لأنهم يساريون ومناهضون للفاشية في الداخل، يظن الفرنسيون أن من حقهم أن يقودوا الشعوب الأخرى، حتى بالقنابل". شاهين يضع هذا التناقض في قلب فيلمه، كاشفًا هشاشة الأسطورة الليبرالية.

يرفض شاهين الصورة الاستشراقية في تصويره للمقاومة، تلك الصورة التي ترى المستعمَرين ضحايا أبديين. هنا يلتقي مع المخرج البرازيلي غلاوبر روشا الذي كتب في جماليات الجوع: "بالنسبة للمراقب الأوروبي، لا يهم الإبداع في العالم المتخلف إلا بقدر ما يشبع حنينًا إلى البدائية".شاهين يقلب هذه المعادلة، مبرزًا العنف الثوري كجزء لا ينفصل عن سردية التحرر.

"حين قامت الثورة الفرنسية باسم الحرية والمساواة والإخاء، لم يمتد هذا الشعار إلى الأفارقة السود الذين استعبدتهم فرنسا"

يبلغ هذا الطرح ذروته في مشهد المقهى الشهير: يوسف (أحمد مظهر)، رفيق "جميلة" في جبهة التحرير الوطني، يتسلل إلى قلب الجيش الفرنسي. وبعد سلسلة من الانكسارات، يوجه سلاحه إلى الجنود الجالسين في المقهى، ويفتح النار. ليس مجرد فعل انتقام، بل لحظة تتحول فيها المقاومة إلى فعل مرئي، يفرض حضورها على الشاشة، ويعيد تعريف البطولة خارج القاموس الاستعماري.

إن خبرة شاهين في هوليوود، حيث درس وعمل في استوديوهات "فوكس"، جعلته يدرك بعمق قوة اللغة البصرية الأمريكية. لكنه قلب هذه اللغة رأسًا على عقب: العنف الذي اعتادت هوليوود حصره في مشاهد جون واين يذبح "الهنود الحمر"، أعاد شاهين توزيعه ضد المستعمر الفرنسي في لحظة سينمائية ثورية. وكما سرق مقاتلو جبهة التحرير البنادق والزي العسكري الفرنسي، سرق شاهين القاموس البصري الغربي ليعيد توجيهه ضد أصحابه.

لم ينخرط شاهين في خطاب قومي ضيق – وهو الذي اعتاد وصف نفسه بالاشتراكي - بل اصطفّ دائمًا مع المهمشين. وهذا ما جعل "جميلة" فيلمًا إشكاليًا حتى بعد الاستقلال: فبينما حظرته السلطات الجزائرية بسبب احتفائه بالمقاتلات النساء في سياق محافظ، ألهم بقوة معركة الجزائر (1966) لجيّلو بونتيكورفو، الذي أعاد تقريبًا مشهد تفجير المقهى الشهير.

كم مرة مجّدت هوليوود قتل الملايين من العرب والمسلمين، بينما يطالب الجمهور نفسه بإدانة حماس لمقاومتها الإبادة الصهيونية؟ هنا يُطلب من البشرية أن تهضم التناقضات العنصرية وكأنها حقائق طبيعية

اليوم، ومع احتفاء النقاد بأفلام مثل "الحرب" تبدو الفجوة بين المستعمِر والمستعمَر راسخة: الدعاية للتحرر تُهمَّش أو تُدان، بينما دعاية السيطرة تُحتفى كقدر تاريخي. كما قال فانون، اليقظة النقدية تبقى ضرورية لفهم كيف تُعاد إنتاج الإمبريالية عبر الصورة. فكم مرة مجّدت هوليوود قتل الملايين من العرب والمسلمين، بينما يطالب الجمهور نفسه بإدانة حماس لمقاومتها الإبادة الصهيونية؟ هنا يُطلب من البشرية أن تهضم التناقضات العنصرية وكأنها حقائق طبيعية.

بيد أنه اليوم لم يعد مع دمقرطة السينما عبر الكاميرات الرقمية والإنترنت، الرد مقتصرًا على قاعات العرض. لقد بات مقاتلو التحرر أنفسهم هم صانعو صور جديدة، يبتكرون سينما كفاحية خارج القوالب المهيمنة. ربما المثال الأقرب لــ"جميلة" اليوم هو فيديو حوثي يُظهر طائرات مسيّرة على أنغام Top Gun. لم يلتفت الرأي العام الأمريكي رغم سنوات التجويع، إلى اليمن إلا حين أغرقت قوات الحوثيين أول سفينة في البحر الأحمر في ديسمبر/كانون الأول 2023. لا يحتاج اليمنيون، بخبرتهم اليومية تحت منطق الإمبريالية الأمريكية، من يفسّر لهم الصورة.

ليست استعادة قيمة أفلام مثل "جميلة" التي طالما وُضعت خارج "القانون" الرسمي للسينما العالمية، مجرد قراءة للماضي، بل أداة لفهم الحاضر. فهي تكشف كيف يمكن للصورة أن تتحول من دعاية استعمارية إلى إعلان للإنسانية في مواجهة الهيمنة.