الاثنين 23 يونيو 2025
مثّل العام الذي نودعه عام الانتخابات في أفريقيا، فحوالي ثلث دول القارة شهدت انتخابات رئاسية أو تشريعية أو هما معا، أفضت في بعض البلدان إلى نتائج فارقة، يتوقع مراقبون أن تُحدث تغيرات سياسية واقتصادية كبيرة في هذه الدول. خصوصا في تلك التجارب التي كشفت عن نضج ديمقراطي، يُسقط سرديات رائجة تعدِم أي إمكانية لنجاح الديمقراطية في أفريقيا.
لم يكن تعاطي الأنظمة الحاكمة في دول القارة مع الانتخابات بذات المنظور، فالاقتراع لدى طائفة من الزعماء الأفارقة مجرد محطة لتجديد "الشرعية" الشعبية، وتأكيد "الولاء" الجماهيري عند كل موعد انتخابي. فيما يعتبرها آخرون محطة عودة رجال السياسة إلى الشعب، قصد إعطائهم التقييم الأمثل لسنوات رئاستهم وفترة تدبيرهم؛ فإما التأييد بتجديد الثقة، ما يعني الرضى والقبول، أو الخذلان ما يعني الرفض والاعتراض.
لم تخرج الانتخابات في دول القارة عن أحد هذين النهجين في شمال القارة كما في جنوبها، وفي شرقها كما في غربها. بل إن دولا مغمورة في القارة تتمسك شعوبها بالديمقراطية، كأنها ديمقراطيات راسخة، رغم تظافر كل موجبات الكفر بالديمقراطية؛ من فقر وبطالة وهشاشة وعجز اقتصادي... بذلك يتأكد أن بذور الديمقراطية تنبث في التربة الأفريقية على غرار بقية بقاع العالم.
شهدت دول أفريقية عديدة انتخابات عامة تم فيها التمديد للأحزاب الحاكمة، وسط انتقاد ومعارضة بقية القوى السياسية، فالإجماع شبه قائم بين أحزاب المعارضة على انعدام التنافس وغياب الشفافية... وما إلى ذلك من خروقات، تكاد تكون مشتركة بين انتخابات ظاهرها التعددية وباطنها هيمنة الحزب الواحد على مفاصل الدولة.
افتتح أرخبيل جزر القمر الانتخابات في القارة، مطلع عام 2024، بالتجديد للرئيس الحالي غزالي عثمان الذي تولى الرئاسة بعد انقلاب عسكري، عام 1999، على الرئيس المؤقت تاج الدين ماسوندي، حتى 2006، ثم عاد مجددا في انتخابات 2016، حيث عمد بعدها إلى تعديل الدستور في 2018، بغية إسقاط تحديد عدد الولايات، ما أدى إلى زعزعة الاستقرار الهش، وتآكل التقدم الديمقراطي في البلد.
شمالا، شهدت كل من الجزائر وتونس انتخابات رئاسية بتعددية صورية، تم فيها التمديد للرئيس المنتهية ولايته؛ حيث فاز المرشح المستقل عبد المجيد تبون، في انتخابات 7 سبتمبر/ أيلول بالجزائر، بنسبة 94 ٪ من إجمالي الأصوات. شهرا بعد ذلك، سيفوز قيس سعيد المرشح المستقل بدوره، في تونس بولاية ثانية، بنسبة مماثلة (90 ٪ من الأصوات)، في ثالث انتخابات رئاسية بعد الثورة، والأولى بعد دستور 2022 التي ارتد على مكتسبات ثورة 2011.
غير بعيد عن المنطقة، نحو تشاد التي كانت في 6 مايو/ آيار الماضي على موعد مع التمديد، وبشكل رسمي عبر صناديق الاقتراع، لحكم عائلة ديبي، بفوز نجل الرئيس السابق، وقائد المرحلة الانتقالية محمد ديبي، المرشح باسم حركة الإنقاذ الوطنية، في الجولة الأولى، بعد حصوله على 61 ٪ من الأصوات. هكذا تكمل تشاد مسار العودة إلى "الحكم الدستوري"، بعد التصويت نهاية عام 2023 على دستور جديد، ما مهد الطريق لتنظيم أول انتخابات تشريعية، منذ أكثر من عقد، في 29 من الشهر الجاري، لاختيار 188 نائبا في الجمعية الوطنية.
في الجنوب الشرقي للقارة، لا تزال أعمال العنف المرتبطة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية في موزمبيق في تصاعد، عقب مقتل 21 شخصا، خلال الأسبوع الماضي، في الاحتجاجات الشعبية الرافضة لقرار المحكمة الدستورية، القاضي بالتصديق على فوز حزب جبهة تحرير موزمبيق الحاكمة، لنحو نصف قرن تقريبا، بأكثر من من 70٪ من الأصوات، في انتخابات 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، التي أجمعت تقارير المراقبين المحليين والأجانب على حدوث تلاعب كبير فيها. تتجه هذه النتائج نحو التأكيد على أن نظام التعددية الحزبية في البلاد يبقى اسميا فقط، أمام هيمنة حزب التحرير؛ صاحب الشرعية التاريخية، على مفاصل الدولة.
بدأت موريتانيا تستأنس بخيار الانفتاح السياسي بعد إرث طويل من الانقلابات العسكرية، بتسجيلها أول انتقال سلمي لسلطة في عام 2019، وتتجدد التأكيد على هذا الخيار في انتخابات 29 يونيو/ حزيران، بفوز الرئيس محمد ولد الغزواني بفترة رئاسية ثانية، في انتخابات طبعتها التعددية والتنافسية بين المرشحين. لقد فاز مرشح حزب الإنصاف بنسبة 56 ٪ من الأصوات، مقابل 22 ٪ لبيرام ولد عبيدي مرشح التناوب الديمقراطي، وحصل حمادي ولد السيد مختار؛ ثالث المرشحين عن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) على نسبة 13٪ من الأصوات.
جنوبا نحو السنغال التي حافظت على لقب واحة الديمقراطية في منطقة مضطربة، بنجاحها؛ بعدما أوشك ماكي سال على الزج بها في براثين السلطوية والاستبداد، في تنظيم استحقاقين انتخابيين منفصلين؛ الرئاسيات (مارس/ آذار) ثم التشريعيات المبكرة (نوفمبر/ تشرين الأول)، كانت نتائجهما لصالح حزب باستيف المعارض، بقيادة الرئيس باسيرو فاي ورئيس الوزراء عثمان سنوكو، اللذين يطلعان إلى إطلاق صفحة جديدة في التاريخ السياسي للسنغال.
في الغرب الأفريقي دائما، نجحت المعارضة في غانا، على غرار السنغال، في الظفر بالرئاسة والأغلبية البرلمانية، في استحقاق 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري، في تجربة ديمقراطية راشدة، سمتها التعددية (12 مرشحا)، انتهت بعودة الرئيس السابق جون ماهاما إلى الرئاسة، بعد تقدمه (56 ٪) على نائب الرئيس الحالي محمامدو باوميا (41 ٪)، في نزال انتخابي طبعته السلمية والتنافسية، وكأن الأمر يتعلق بديمقراطية متجذدة، لا بدولة بالكاد تخلصت من داء الانقلابات العسكرية، باستعادة التعددية الحزبية قبل ثلاثين عاما.
في أقصى جنوب القارة، فقد حزب نيلسون مانديلا، في استحقاقات مايو/ أيار الماضي، الأغلبية في البرلمان، لأول مرة منذ ثلاثة عقود، بعد حصوله على 40 ٪ من الأصوات، ما سمح لقوى المعارضة بزيادة مقاعدها في البرلمان، وبالتالي تعزيز موقعها في المشهد السياسي. ما أجبر الحزب الحاكم على تقاسم السلطة، في سابقة من نوعها، منذ نهاية الفصل العنصري، ناهيك عن كون النتيجة بداية نهاية سردية شرعية التحرير السائدة في أفريقيا.
رياح التغيير في بريتوريا هبت تدريجيا نحو الشمال، لترسل "حزب بوتسوانا الديمقراطي"؛ الحزب الحاكم في بوتسوانا منذ 1965 إلى المعارضة، بعد اكتساح ائتلاف "مظلة التغيير الديمقراطي" استحقاق أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد نيله 36 مقعدا في البرلمان في نتيجة غير متوقعة، حتى بالنسبة للحزب الفائر نفسه، في واحد من الاختيارات الشعبية التي قررت تجريب بدائل سياسية أخرى غير حزب التحرر الوطني.
كان لشرق القارة نصيب بدوره، فقد شهد جمهورية صوماليلاند المعلنة من طرف واحد، فوز مرشح المعارض عبد الله عيرو بانتخابات 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، في تجربة ديمقراطية فريدة شكلا ومضمونا في منطقة القرن الأفريقي، باعتماد نظام الجمعيات السياسية التي تتنافس للفوز بأصوات الناخبين، قصد نيل صفة الحزب السياسي، ما يعني الحصول على الاعتراف القانوني لمدة عشر سنوات.
كان ثلث الأفارقة على موعد مع صندوق الاقتراع هذا العام، في واحدة من اللحظات النادرة في القارة. تحول هذا الموعد في عدد من الدول إلى مناسبة لإحداث تغييرات في السياسية والحكم باعتماد الورقة وليس الرصاصة؛ في واحد من أرقى أساليب التعبير الحضاري في التاريخ الإنساني، وذلك بانحياز الشعوب نحو منح فرص لقوى سياسية جديدة، عوضا عن تلك التي هيمنت على المشهد السياسي منذ الاستقلال.
قادت هذه الموجة أحزاب المعارضة في العديد من الدول مثل: السنغال وبوتسوانا وجنوب أفريقيا وصوماليلاند... إلى سدة الحكم، ما يشكل إنجازا في حد ذاته. نعم، لقد بات الأفارقة، في أكثر من دولة، قادرين على التدافع والتنافس بالاحتكام إلى الشعب، وليس إلى لغة السلاح أو قوة خارجية مساندة، عادة ما تقدم خدماتها لأبناء البلد بمقابل يدفع بعد تولى السلطة.
كما تكشف نتائج الانتخابات عن تزايد نطاق الوعي لدى الأفارقة بالفرص والإمكانيات التي يسمح بها السياق الدولي، فحتى وقت قريب كان تولى السلطة في هذا البلد أو ذاك مرتبطا برضى قوى دولية قبل أن يتعلق بأصوات أبناء البلد، فالحسم كان بيدهم ولو تطلب ذلك التدخل بالعنف أو تأليب الطرف الخاسر أو غير ذلك من الأساليب المعروفة.