الأحد 9 نوفمبر 2025
وسط تعاقب العصور وصخب الأحداث الكبرى، برز هيلا سيلاسي في ذاكرة أفريقيا كظل طويل لطموحات الأمة الإثيوبية، ومفترق طرق بين الشموخ والتصدع. حكايته ليست مجرد سيرة حاكم، بل صدى لأحلام شعوبٍ وتطلعات قارةٍ، تسعى للعثور على مكانها تحت الشمس. حين نعبر تفاصيل قصره المهيب، نرى وجهًا يجمع بين عظمة التاج ووحدة الإنسان، بين صورة عالمية ملهمة كتب عنها التاريخ وبين ثقل اللعنات الداخلية ومخاوف السلطة. ليُصبح سيلاسي روحًا معذبة بين التمجيد والإدانة.
منذ اعتلائه العرش عام 1930، رسّخ هيلا سيلاسي نفسه رمزا للأمل الأفريقي وزعيما يتمتع بهالة تاريخية عميقة. فقد مثّل في أعين شعوب القارة نموذجًا للحاكم الذي تحدى الاستعمار، ووقف صامدًا أمام الغزو الإيطالي عام 1935، ليصبح صوته في عصبة الأمم صرخة مدوية ضد الاحتلال والتمييز العنصري. هذه المواقف جعلت منه رمزًا عالميًا للكرامة والسيادة الوطنية، حتى تبنّته حركة "الراستافاري" في الكاريبي باعتباره كائنا مُقدّسا، يرون فيه المسيّا المنتظر. هذه الصورة الكاريزمية ساعدت في رسم ملامح زعامة تتجاوز الحدود، حيث بدا وكأنه يجسد حلم أفريقيا الواعدة. لكن خلف هذه الصورة السحرية، كانت تتشكل ملامح واقع داخلي أكثر تعقيدًا.
فعلى الرغم من الاحتفاء العالمي بشخصه، كانت إثيوبيا تعاني داخليًا من اختلالات عميقة، وتراكما للأزمات. فقد تزايد الاستياء الشعبي تدريجيًا مع تفاقم الفقر وارتفاع نسب الجوع، خصوصا في المناطق الريفية المهمشة. ولم يكن الحكم المركزي قادرًا على تحقيق العدالة الاجتماعية، بل كان يميل إلى تغليب مصالح النخبة الأرستقراطية المرتبطة بالبلاط الإمبراطوري.
برزت في هذا السياق فجوة هائلة بين الطبقة الحاكمة والشعب، وتجلت مظاهرها في حرمان المواطنين من التعليم والرعاية الصحية، مقابل مظاهر بذخ القصور والعربات الملكية. ومن أمثلة ذلك، المجاعة القاتلة التي ضربت "إقليم ولو" في أوائل السبعينيات، والتي حاول النظام التستر عليها رغم موت الآلاف.
في ممارسة الحكم اليومية، بدا سيلاسي وكأنه محاط بجدار من الولاءات الشخصية أكثر من الكفاءات الوطنية. فقد اختار أن يُحاط بمسؤولين يدينون له بالولاء المطلق، ما أدى إلى شيوع الفساد وتآكل فعالية مؤسسات الدولة. واعتمد النظام بشكل كبير على الطقوس الإمبراطورية، والألقاب المتوارثة، بدلاً من بناء دولة حديثة تستجيب لمتطلبات شعب شاب ومثقف. ومع تزايد حركات الاحتجاج بقيادة الطلاب والمفكرين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بدا واضحًا أن شرعية سيلاسي بدأت تتآكل من الداخل. لم يكن سقوطه في 1974 مفاجئًا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لانفجار التناقض بين صورة الرمز العالمي وسقوط الدولة في عجز مزمن عن الإصلاح.
منذ بداية حكمه، صاغ هيلا سيلاسي سلطته انطلاقًا من مؤسسة ملكية تقليدية تقدّس المركزية والتراتبية. كان يرى في نفسه حجر الأساس للدولة، ما دفعه إلى تركيز كل أدوات الحكم بين يديه، وتهميش أي محاولة لمشاركة السلطة. عيّن المقرّبين والموالين في مواقع النفوذ الحساسة، دون اعتبار للكفاءة أو الخبرة، ما حول جهاز الدولة إلى هيكل يخدم شخص الإمبراطور لا مصالح المجتمع. داخل قصره، نسج شبكات من الجواسيس والمستشارين الذين وفروا له صورة زائفة عن الواقع. بهذه الطريقة، تأسست بيروقراطية خانعة، تُدار بالأوامر لا بالمبادرات.
إلا أن هذه المركزية المفرطة سرعان ما انكشفت كعامل ضعف بنيوي. فقد تسبب عزل المؤسسات عن نبض المجتمع في تعميق فجوة الثقة بين القصر والشعب، وبرزت ثقافة ولاء تعلو فوق القيم الوطنية. أصبحت تقارير الوشاة جزءًا يوميًا من الحكم، تعكس ما يُرضي الإمبراطور لا ما يحدث فعلًا في الشارع. انتشرت مظاهر التملق داخل الوزارات، وغاب النقد البنّاء عن دوائر اتخاذ القرار. ومع غياب الشفافية، طُمست الحقائق، فمثلًا حين اندلعت احتجاجات طلابية واسعة في منتصف الستينيات، واجهها النظام بالقمع لا بالحوار، ما فاقم الشعور بالاغتراب، ورسّخ صورة نظام لا يُصغي، بل يُسكت.
وعندما اندلعت موجات الغضب بقيادة الطلاب والجنود، بدا النظام مشلولًا أمام تلك الديناميات الجديدة. لم تعد الطقوس الإمبراطورية قادرة على احتواء الزخم الشعبي، فبينما كان القصر مشغولًا بمراسمه، كانت الشوارع تغلي بالغضب. لم تفلح محاولات التهدئة الشكلية، لأن النظام لم يفهم أن جذور الأزمة كانت بنيوية وليست مؤقتة. ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية وازدياد الانكشاف أمام الصحافة الدولية، بدأ السقوط يلوح في الأفق. وجد هيلا سيلاسي نفسه محاصرًا في قصر عاجز، بعد أن تحوّل من رمز للسيادة إلى عنوان للعزلة، فسقط النظام لا على يد أعدائه، بل بفعل تراكم أخطائه.
لم يكن حضور هيلا سيلاسي محصورًا في حدود إثيوبيا، بل تجاوزها ليصير أحد أعلام القارة الإفريقية على المسرح الدولي. فمنذ اعتلائه العرش، تبنّى سياسة خارجية طموحة قائمة على تعزيز روابط بلاده بالغرب، مستغلًا موقع إثيوبيا الجغرافي كجسر بين إفريقيا والشرق الأوسط. وقد عرف كيف يستثمر موقع بلاده في سياق الحرب الباردة ليقدّمها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة والغرب في مواجهة الكتلة الشرقية، فحظي بدعم عسكري واقتصادي مكّنه من تعزيز حضوره الدبلوماسي. وبالفعل، نال اعترافًا دوليًا واسعًا، خصوصًا في أوساط حركات التحرر الإفريقية، التي رأته زعيمًا مؤسسًا لمستقبل القارة، وظهر ذلك جليًا في مبادرته لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، واختيار أديس أبابا مقرًا لها، في خطوة عززت من رمزية إثيوبيا كمركز للحراك الإفريقي. بدا الرجل، في تلك اللحظة، وكأنه الصوت الموحد لإفريقيا الجديدة، المتحررة من الاستعمار والطامحة للسيادة.
لكن خلف هذا التألق الدبلوماسي، كانت تنمو تصدعات داخلية تنذر بانهيار وشيك. فبينما قدّم نفسه كرمز للنهضة والوحدة على المستوى الإقليمي، بقي الداخل الإثيوبي يعاني من إخفاقات بنيوية عميقة. فمشروعات التنمية التي رُوّج لها دوليًا لم تكن سوى واجهات شكلية تتركّز في العاصمة أو مناطق النفوذ الإمبراطوري، بينما ظلت الأرياف والمجتمعات المهمشة خارج معادلة الدولة. اتسعت الهوة بين المركز والهامش، وباتت الدولة تُدار بعقلية أبوية، لا ترى في المواطن إلا رعية، لا شريكًا في القرار. المفارقة المؤلمة أن الإمبراطور الذي تحدّث في الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان وكرامة الشعوب، كان في الوقت ذاته يقمع مطالب قوميات بأكملها داخل بلاده، وعلى رأسها إريتريا، التي ضمّها قسرًا دون الاعتراف بخصوصيتها الثقافية والتاريخية، ما أجّج حالة الغضب وأسّس لواحدة من أطول النزاعات المسلحة في القارة.
هذا الانفصام بين صورة "الزعيم القاري" وواقع "الحاكم المنفصل" كان له ثمن باهظ. فمع تفاقم الأزمات الداخلية، من مجاعات كارثية، إلى اشتداد النزاعات الإثنية، وتآكل الدولة الريفية، بدأت أسطورة سيلاسي تتآكل. لم تعد خطبه الرنانة في المؤتمرات الدولية قادرة على حجب التصدعات العميقة في الداخل، ولا شراكات الغرب كافية لضمان بقائه. بل على العكس، ساهم اعتماد سيلاسي على النخبة والطبقات العليا في تكريس نظام جامد غير قادر على التجدد أو الاستجابة لمطالب التغيير. وقد أدى ذلك إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وانضمام قطاعات واسعة من الجيش إلى حركة المعارضة، ما أسفر عن اندلاع ثورة عام 1974 أطاحت به وبنظامه الإمبراطوري بأكمله. كان سقوطه بمثابة انهيار لصورة إفريقيا الرسمية المتمركزة في "العاصمة"، وصعود لإفريقيا المهمّشة التي لم تُسمَع يومًا في قصور الحكم، لكنها كانت تختمر بصمت على هامش الدولة.
وهكذا، يتوقف الزمن في قصرٍ غارق في الألق والخذلان معًا، وتبقى الأسئلة مفتوحة أمام الأجيال: كيف لرجل أن يُلهم قارةً ويخذل شعبًا؟ وكيف تتحوّل القيادة حين تنفصل عن الواقع إلى عبءٍ يجرّ صاحبه إلى السقوط؟ إن إرث هيلا سيلاسي، بما فيه من إشراقات وعثرات، لا يزال يحفّز تأملات عميقة حول طبيعة الحكم، ومعنى الزعامة، وحدود القوة حين لا تتكئ على الإصلاح والإنصاف. فالتاريخ لا يحفظ الشعارات، بل يحاسب على ما يُترجم منها إلى عدالة في حياة الناس.