تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

إلى حضن الوطن

7 سبتمبر, 2025
الصورة
إلى حضن الوطن
Share

أعمل في مكان يتوافد إليه الناس من كل أصقاع الأرض. كل ساعة، أجد نفسي في حوار مع شخص من آسيا أو أوروبا أو أفريقيا. ذات صباحٍ دخلت فتاة قضت سنوات طفولتها في ساحل العاج، كانت تحمل أشياء تُسعد حتى الروح المُتعبة. ألقت عليَّ التحية بابتسامة مشرقة، وخضنا حديثًا شيّقًا. كانت تحمل في حقيبتها فاكهة الأفوكادو، فأكرمتني منها بطيب خاطر. في تلك اللحظة تغيّرت لغة حديثنا، فاكتشفتُ أنها تجيد لغة الفولان، تلك اللغة الرصينة التي لها من البلاغة والأدب ما يضاهي لغات عالمية كثيرة. فانطلقنا نتحدث بلغة أهل ميمونة جالو، في حوار اجتماعي وثقافي، بل وسياسي أيضًا.

أيها السادة، هذه الفتاة مثقفة جدًا. سألتني قائلة: "أنتم كسودانيين، أفارقة أم عرب؟" أدهشني بسؤالها، فأجبتها: "نحن الاثنين معًا، يا سيدتي. أجلس معكِ كأفريقي، وأجلس مع العربي فأكون عربيًا. نحن نتغيّر ونغيّر بوصلة هويتنا كما تهب الرياح". ضحكت بصوتٍ شجي، وقالت: "أنتم منافقون، لِمَ لم تكونوا سودانيي الهوية؟".

ابتسمتُ وقلت لها مازحًا: "أستسمحكِ عذرًا، جالو، رأسي يؤلمني. تعالي نحتسي فنجانًا من القهوة السودانية، لنزداد نفاقًا". جلسنا واحتسينا معًا فنجانين من القهوة التي يفوح منها عطر الزنجبيل. حدّقتُ في وجهها، ورأيتُ في عينيها الجميلتين ماء نهر الكونغو يتدفق، فقلت لنفسي: لِمَ لم أسبح في هذا النهر؟

عدتُ إلى سؤالها مجددًا وقلتُ: "نحن السودانيين ماكينات أفريقيا، وراسطات العرب. لكن، بعين اليقين، نحن نتقمص العروبة عمدًا، وننكر أفريقيتنا قصدًا. دعينا نترك هذا النفاق الذي لا حدّ له. فأنا أمامك الآن، أفريقي وأعترف بأفريقيتي. نحن هنا في أرض الأناضول، لا فرق بيني وبينكِ سوى التقوى. ولو شئتِ، ننزل إلى هذه الغابة المكتظة بالأشجار، نلبس التنانير مثل أجدادنا القدماء، ونصطاد الغزلان والنعام. وإن وجدنا ثور الجاموس، سأقدمه لكِ مهرًا".

"نحن الاثنين معًا، يا سيدتي. أجلس معكِ كأفريقي، وأجلس مع العربي فأكون عربيًا. نحن نتغيّر ونغيّر بوصلة هويتنا كما تهب الرياح"

ابتسمت وقالت لي كلمات بدت كأنها خاتمة مسك: "يعجبني حديث السودانيين، وأنا سعيدة اليوم لأنني قضيت وقتًا ممتعًا معك". تركتني الفتاة الساحلية، وأنا أقول لنفسي: نحن سودانيون، والسودانوية تكفينا.

أولم أخبرك يا أبا الزيك أنني تركت الرياضة بعد دفع الرسوم الشهرية؟ بدأت الرياضة في النادي بعد تفكير طويل. ومنذ مجيئي إلى روما الشرقية لم أمارس الرياضة بشكل منتظم. فالرياضة عندي قليلٌ من التجوال في الساحل أو التسكع في أزقة الحي أو لعب كرة القدم بضعة أيام في الشهر. الزمن هنا يبتلعنا كابتلاع الحوت للسمك الصغير. على أي حال، قررت قبل أسبوعين الذهاب إلى صالة الرياضة، وبدأت أمارسها ثلاثة أيام متتالية. وكما تعلم، لقد انتفخت عضلاتي وبدأت آكل بشراهة. يأتيني إحساس الملاكم محمد علي بين الحين والآخر، ثم أضحك لنفسي باستهزاء ماكر.

على أي حال، في اليوم الرابع ذهبت إلى المكتبة. والمكتبة كعادتها لا تخلو من أخوات ناندي وميمونة جالو وأنجودان. وهكذا حال المكتبات في روما الشرقية، تجمع الحُمر والبيض والشقر والسُمر من بنات بلادي، ممن يسرن الناظرين. كنّا نحتسي بعض المشروبات معًا، ومنهن من تُدخّن السيجارة بشراهة. وكنت، يا سادة، أتحسر على شفاه مطلية بالحمرة والسواد تحترق أمامي بالنيكوتين. ولو كنتُ ممن يجدون لذة التقبيل، لقبلت علبة سجائر كاملة واحترقت مثلها. لكن لتكنْ عدم تقبيلي للسيجارة نقيصة فيّ تُنتقد.

نحن في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك لم نُحدِث حتى الآن تعريفًا جديدًا للشهيد. فكيف يُعقل أن أقتل ابن وطني، ثم أُزفّ شهيدًا إلى جنان الحور؟

إحداهنّ تفحصتني بنظرات غريبة، ثم اكتفت بابتسامة تقول أشياء كثيرة. لكن صديقتي الغجرية لا تدس الكلام، فهي واضحة كوضوح الشمس. وتعجبني الفتاة الصريحة، ويعجبني أكثر أن تنتقل عدوى الصراحة إلى بنات النيل في بعض الأمور. قالت لي الغجرية التي تُدعى "نهار"، ويطيب لي مناداتها باسم "نهارو" لأمنحها نغمة سودانية. فمفهوم "السودانوية" لديّ لا أختزله في المعنى السياسي فحسب، بل حتى في البعد اللغوي. فأنا سودانوي اللغة، سودانوي اللهجة، سودانوي الفلسفة، سودانوي التوجه، سودانوي الثقافة، سودانوي الهوية.

قالت لي نهارو: "هل تعلم لماذا ابتسمت صديقتي هذه؟".

قلت لها: "لا أعلم، لأنها لم تتكلم".

قالت: "هي تبتسم لذراعك الذي ازداد انتفاخًا بسبب ممارستك للرياضة. وكما تعلم، نحن معشر النساء نحب الرجل القوي البنية. بالنسبة لنا، القوة الجسدية أفضل من القوة العقلية. بجانب القوة الجسدية نشعر بالأمان ونظن أنه الشخص الذي يستطيع أن يحمينا ويحتوينا". فقلت لها: "يا نهارو، فإني أعتذر للرياضة من بعد اليوم. ويؤسفني أنني لم ألفت انتباهها إلا بعضلاتي المنتفخة". فضحكت وقالت: "يا سيدي، عضلة منتفخة تجلب لك الحب، بينما العقل قد يبعدك عنه". وأردفت ناندي قائلة: "فالخيار لكم يا معشر الشباب: إما أن تكونوا من أولي الألباب أو من أولي العضلات". وانتهى اللقاء.

يا أبا الزيك، لم أخبرك أيضًا في الرسالة السابقة أنه بعد ثلاث سنوات من الحرب، فعلتُ ما فعلت، وقتلتُ ما قتلت. ثم عدتُ إلى حضن الوطن. مستغرب أنا: أي وطنٍ وأي حضن يتحدثون عنه؟ متى سلم من السقم؟ ومتى كبر وصار في عمر الزهور، عمر المنى؟ وهل حضن الوطن له صدرٌ دافئ حتى يحتضن؟ بعد أن نهشت الكلاب الجائعة جسده، وأُحرقت تضاريسه الظاهرة والباطنة؟ يا أبا الزيك، أخاف أن أعود إلى حضنه يومًا، ثم أنشد أغنية الفنان مصطفى مضوي قائلاً: "عيناك حسبتهما وطنًا … لو جئت إليه سيؤويني"

وكما تعلم، فهو لم يؤوني منذ أن وُلدت. ركلني برجله منذ صرخة ميلادي الأولى، فبدأت أبحث عن ملاذ آخر يؤويني. ومنذ نعومة أظافري كنت أسمع أصواتًا من محيطنا تقول: "الفلاح ليس هنا، النجاح ليس هنا". حتى أبي، المسؤول عن تلك المدينة وقتها، كان يقول لي ذلك. والمجتمع كله كان يشجعني على هذا. وقتها آمنت بفكرة المجتمع، ثم بفكرة أبي. ثم، في يومٍ عاصف، ودعتُ هواها وحضنها بلا حزن. ظمئت شفتاي، ولا النيل ولا الوادي قدّما لي كأس ماء يروي عطشي. ماذا بيدي غير أن أهاجر إلى الشمال، وأشرب من ماء البحار المالحة، وأشتاق للنيل والوادي، وللفيافي وغابات السافنا الوارفة، وللرمال الباردة ليلاً والرطبة نهارًا. فإن متّ هنا فأنا شهيد الغربة، وإن بدا لكم هذا مفهومًا جديدًا للشهيد، فأنا لست بحزين. ببساطة، لأني لا أبحث عن السعادة، مثل المريض الذي يبحث فقط عن الصحة.

أليس الأولى أن يكون ميدان الشهادة اليوم هو ميدان العقل والفكر، ميدان الرجال الذين يقاتلون بالعلم لا بالبندقية؟

يا أبا الزيك، لماذا لا نرى سودانيًا يُلقَّب بـ "شهيد" وهو غارق في مختبر علمي؟ أو وهو يكتشف شيء جديدًا في التكنولوجيا؟ أو يحفر أسرار الأرض في الجيولوجيا؟ أو يرصد المجرات في الفلك؟ في ظل التقدم العلمي، أليس الأولى أن يكون ميدان الشهادة اليوم هو ميدان العقل والفكر، ميدان الرجال الذين يقاتلون بالعلم لا بالبندقية؟

يا أبا الزيك، أستميحك عذرًا فلقد سألتك كثيرًا. دعني أسأل أنجودان: نحن في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك لم نُحدِث حتى الآن تعريفًا جديدًا للشهيد. فكيف يُعقل أن أقتل ابن وطني، ثم أُزفّ شهيدًا إلى جنان الحور؟

أنجودان، أصارحك بكل قبح: على مر العصور، أنا القاتل والمخرّب وسافك دماء الضعفاء، ومغتصب الحريات، وأنا حامل هذه الأوزار. فهل يا ترى ستُفتح لي أبواب الجنان، وتستقبلني الحور العين بصدورٍ نقية وأحضانٍ طاهرة تحمل برتقالات جبل مرة؟ أي منطقٍ هذا؟

سلامٌ وبردٌ على كل مدنيٍ أعزل قُتل ظلمًا، ورحمة الله على أرواحهم. فلهم عند ربهم ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. يا أنجودان، لقد ابتلينا بعسكر لا قبل لهم. دهراً بأكمله ونحن نردد: "غداً أجمل". حتى صار "الغد الأجمل" مسكينًا، مطرودًا من أقدارنا، تلاحقه اللعنات. فلا الغد الجميل أتى، ولا هم استحيوا..

المزيد من الكاتب

ثقافة

ثرثرة على دخان السجائر

ثقافة

وهج البنادق

رأي

إنه نفاقٌ عسكريّ يا ناندي