الخميس 17 يوليو 2025
تتعاضد أسباب عديدة لتدفع بالشباب الأفريقي إلى الهجرة نحو أوروبا، في رحلة فرص الهلاك فيها تتفوق على فرص النجاة، البعض تدفعه آمال عريضة كأن يكون لاعب كرة قدم أو عازفا في فرقة موسيقية، والبعض يود الدراسة، وقد يود آخرون فقط لو أنهم غادروا بلادهم، ليعيشوا بأمان وبحرية بعيدا عن قمع الأنظمة المستبدة، أو نيران الحروب. لكن للهجرة أيضا ثمن، قد يكون هذا الثمن ضياعا أو جراحا نفسية عميقة، وقد تكون رحلة للبحث عن الاستشفاء من أنماط حياتية ممرضة أو غراميات استثنائية فادحة.
يسعى الروائي والمترجم والأكاديمي السوداني عاطف الحاج سعيد في روايته "غراميات استثنائية فادحة"- الحائزة على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون- إلى معالجة قضية هجرة الأفارقة إلى أوروبا، وقد عايش الدكتور عاطف هؤلاء المهاجرين في غابة كاليه الفرنسية، عندما كان يعمل مترجما هناك. استوحى بعض الشخصيات في روايته من شخصيات حقيقية، يبقى أهم ما يميز الرواية هو الثراء الدلالي، الناتج عن التوظيف الجيد للرموز، فضلا عن استخدامه اللغة الشعرية المكثفة.
في استهلال الرواية، وقبل الوصول إلى الرابية الواقفة قرب غابة مدينة كاليه، يعرفنا عاطف على شخصياته الرئيسية عندما كانوا في بلدة قرانت سانت، عندما كان عبور المانش بالنسبة إليهم كطرق أبواب الجنة، عندما وقف المُهرب ابنعوف أمام السيد راستا الذاهل بسبب غياب رندا المفاجئ، كان المُهرب يهمس بثقة ظانا أنه سيحصل على مال سهل: "الإريتري دَفَعَ الكثير من المال الذي أرسلَه أقرباؤه إليه من أستراليا ولندن وإسرائيل. سأجعلك تلحق بها، ستَعْبُر المانش مساء الغد من ميناء كاليه، يجب أن تثِق بي وتعطيني المال!".
نحن أمام أناس يضعون ثقتهم مجبرين في يد مهرب مثلما يضعون فيه أموالهم، ليأخذهم إلى حيث يحلمون، وحين نستمر في القراءة تتكشف لنا هذه الشخصيات، وما تحمله من إيحاءات يمكن قراءتها في مستويات أعمق من المدلولات المباشرة، ونتعرف أيضا على شخصيات ثانوية أخرى لها وظيفتها السردية والرمزية أيضا.
السيد راستا الشخصية الرئيسية في الرواية، وهو عازف ماهر لا يفارق جيتاره، حتى أن الجيتار يكاد يكون رمزا لتحقيق الذات أو الحرية كعادة الموسيقيين المتجولين أو الفنانين الأحرار، وقد يكون رمزا للثورة والتغيير كما في الأغاني الاحتجاجية. وفي سياق قصة حب راستا لرندا، يمكن أن يكون الجيتار رمزا للعواطف العميقة، كتلك التي تثيرها الفلامنكو أو موسيقى البلوز.
أطلق المؤلف اسم راستا على شخصيته الرئيسة، ليستدعي القارئ رمزية الاسم، ويربطه بالشخصية وبالسياق التاريخي، وهنا لا بد من استدعاء الحركة الراستافارية التي نشأت في جامايكا في أوائل القرن العشرين، وهي أسلوب حياة وموقف سياسي رافض للقمع الاجتماعي والثقافي وللنظام الاستعماري. تدعو الحركة إلى العودة إلى إفريقيا؛ الوطن الروحي والتاريخي للأفارقة الذين نُقلوا إلى جزر الكاريبي والغرب كعبيد، ويؤمن الراستافوريون بالإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي الذي يعتبرونه مخلِّصا تنبأت به الكتب المقدسة، ليحرر الشعوب الأفريقية من القمع والظلم.
السيد راستا الذي يهيم في الأرض وجيتاره خلف ظهره، يعانق شعره المجدول (وهو مستوحى من أسد يهوذا الذي يرتبط بالإمبراطور هيلا سيلاسي، ويعتبر جزءً من الارتباط بالهوية الإفريقية وبالحرية، ورفضا للمعايير الجمالية الغربية) يذكرنا بمغني الريغي الشهير بوب مارلي الذي أعطى الراستافارية دفعة قوية نحو العالمية بأغانيه الشهيرة.
ترمز هذه الشخصية إلى ذلك الأفريقي العنيد المتمسك بهويته، والذي هاجر إلى الغرب لا ليتخلص من هويته الأفريقية، بل لتكون له وطنا بديلا في الغربة، ولا يرى في الهجرة عيباً، فهو على الأقل لن يدخل إلى الغرب بقوة السلاح، ولن يحمل الغربيين معه في سفينة ليعملوا عبيدا في مزارع أفريقيا.
يتحول السيد راستا إلى رمز لبعض الأنظمة الأفريقية التي تعمل بالمجان حارسة للصوص ثروات بلادها التي لا مثيل لها، ويبدو هذا جليا، في تعامل السيد راستا مع السيد آرنو تاجر الأسماك الفرنسي، الذي يستغله لدرجة أن راستا وجد نفسه يعمل في خدمته بالمجان دون اتفاق مسبق، فهو يساعده في إنزال صناديق السمك من الشاحنات، وينظف معه الأسماك، ويعزف على الجيتار ليجذب النساء اللائي يشترين سمك آرنو، الذي يغني لهن أغنيات تثير ذكرياتهن مع البحارة العابرين في أزمنة غابرة. يكون الغناء مصحوبا بعزف راستا الذي يثير الشجن، وفي نهاية اليوم يدس السيد آرنو بعض اليوروهات في جيب قميص راستا الأزرق.
هذه العلاقة البراغماتية التي لا يدعمها الشعور بالإنسانية المتكافئة، لم تلبث أن انهارت، بدوافع عنصرية بحتة، ولا علاقة لسيد راستا بها، عندما قتل أحد المهاجرين امرأة فرنسية بيضاء، كانت تمضي خدمتها المدنية الإلزامية مع الصليب الأحمر في غابة كاليه، هتف السيد آرنو في وجه راستا بكره: "لا تعد إلى هنا مرة أخرى".
بمعنى أنك مهما فعلت، فلن تنتمي إلى هذا المكان، ولن ينفع اتقانك للعزف أو اللغة الفرنسية، وهذا التحول في العلاقة من صداقة ظاهرية إلى عداوة، تشبه العلاقة بين الأنظمة الأفريقية وسفارات الدول النافذة، التي لا تتورع عن رعاية انقلاب عسكري إذا بدر من حليفها ما تشعر بأنه مهدد لمصالحها.
رندا فتاة يحبها السيد راستا، ورغم أن الكاتب قد افتتح روايته بالإشارة إلى غيابها المفاجئ، إلا أننا سنتشوق كثيرا إلى لقائها، فهي أشبه بربيكا في فيلم ألفرد هيتشكوك، ربيكا التي يظهر أثرها على أبطال الفيلم دون أن نراها، إننا نرى رندا في افتقاد السيد راستا لها، والبحث عنها في وجوه النساء.
تصبح رندا هنا رمزا للآمال المتعلقة بالهجرة، والتي قد تختفي بمجرد الوصول، هنا يصحو المهاجر من حلمه، ويعرف أن الغرب ليس كما كان يظن، فيفتقد حيواته السابقة في أرضه الأم، التي كان فيها عزيزا، أو هكذا سيظن، ويتمنى الرجوع إليها، كي لا يسمع فيها أبدا شيئا كالذي قالته السيدة دلفين إينزو: "كانت كاليه آمنة منذ مئات السنين، من أين أتيتم لتشوهوا وجهها الجميل؟، أي سماء رمت بكم، لتغرسكم في كل ناحية من المدينة مثل فطريات سامة".
المُهرب ابنعوف، رمز للأفريقي الذي لا يهتم ببني جلدته بقدر ما يهمه أن يكسب منهم أكبر قدر من المال، إنه يغذي آمالهم ليثقوا فيه، ويكون المخلِّص في أعينهم، مثل السياسي الذي يريد دعمهم، وفي ذات الوقت قد يشعر في لحظة ما أن أحلام هؤلاء عبء لا بد من التخلص منه. إنه أشبه بالديكتاتور الذي قد يقتل شعبه مدعيا أنه يريد أن يحافظ عليهم، إنه يريد أن يشعر بالهيمنة، وأنه متحكم في مصائرهم. وهذا ما يظهر جليا في الرواية، عندما أمر المهرب راستا ليلقي جيتاره في البحر للتخفيف من ثقل المركب، دون أن يأبه برمزية الجيتار عند السيد راستا، فهو بالنسبة إليه أشبه بروحه.
إينزو طفل أفريقي تبنته السيدة دلفين، وهي التي أطلقت عليه هذا الاسم، يلقبه البعض بالأسود المزيف، يقول إينزو: "أعلم أن دلفين ليست أمي، وأن آرنو ليس أبي، فأنا أسود بينما هما أبيضان، يقول لي بعض الناس: إن الطائر الذي كان يحمل لهما ابنهما ضل الطريق، وجاء بدلا عنه طائر آخر"، "أعرف أنهم يمزحون، لكنهم يكونون في غاية الجد عندما يتهمونني بأنني أسود مزيف، لأنني لا أتكلم غير الفرنسية، كل السود الذين يرونهم يتحدثون لغات أخرى تعلمونها من أهاليهم".
إن إينزو رمز للأجيال الحديثة التي تبنتهم الحضارة الغربية، نعم، هي التي تبنتهم وليس العكس، فالنظام العالمي الذي يفرض نفسه بالقوة، قد جرّد الكثيرين من هويتهم الأفريقية، فصاروا سودا مزيفين، ومع ذلك لم يتقبلهم الغرب كجزء منه، بل المساحة لم تزل كما هي، رغم ادعاء التحضر والمساواة، فهذا إينزو يعاني من السخرية بسبب لون بشرته، "عندما نستبدل ملابسنا في غرفة تغيير الملابس فإنهم يسخرون من سواد بشرتي الشديد"، ويعاني من النبذ "لا أحد في المدرسة يريد أن يصير صديقي، عندما اقتربت مني سارة، قاطعها الجميع، شكوت إلى معلمتي بأنني منبوذ، بأني أسحق من قبل زملائي وزميلاتي"، ويعاني من التنمر: "عندما أدخل الحمام، فإنهم يغلقون الباب من الخارج، فأظل أصرخ لوقت طويل".
الرواية مليئة بالشخصيات التي لها وظيفة رمزية أو أكثر، ولولا مخافة الإسهاب لأتينا بالمزيد، ولعل هذا يكفي لإبراز معاناة الأفريقي مع الهجرة التي يعلق عليها آماله العريضة، وخلاصه الشخصي وربما العائلي.