تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 17 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

التوسع الصيني في القرن الأفريقي: استثمار اقتصادي أم استراتيجية نفوذ خفية؟

10 فبراير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

تسعى الصين بخطى متسارعة إلى تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والأمني في منطقة القرن الأفريقي، التي تتمتع بأهمية استراتيجية فائقة في ظل الأوضاع الإقليمية الراهنة. وتأتي هذه التحركات في سياق تصاعد التوترات والتهديدات المتنامية للملاحة الدولية في البحر الأحمر، خاصة مع استهداف الحوثيين للسفن التجارية قرب مضيق باب المندب على خلفية تداعيات الحرب في غزة.

تشكل منطقة القرن الأفريقي بالنسبة لبكين نقطة ارتكاز حيوية ضمن رؤيتها الاستراتيجية، التي تجمع بين مبادرة “الحزام والطريق” والتطلعات الجيوسياسية الكبرى. ويرى الخبراء أن هذا الاهتمام ينبع من دوافع مركبة، حيث تهدف الصين إلى تعزيز نفوذها في ممرات التجارة والطاقة العالمية، مع العمل على احتواء التوترات الإقليمية التي تهدد استقرار المنطقة.

تسعى الصين من خلال استثماراتها الضخمة في مشاريع البنية التحتية، مثل تطوير الموانئ والطرق، إضافة إلى وجودها العسكري في جيبوتي، إلى ضمان حماية مصالحها الاستراتيجية، وتحقيق شراكات طويلة الأمد، تعزز مكانتها كلاعب رئيسي في الساحة الدولية. 

لا تعكس هذه التحركات فقط طموحات اقتصادية، بل تحمل أبعادًا سياسية وأمنية، تؤكد أن بكين لا تنظر إلى القرن الأفريقي كمنطقة نزاع، بل كبوابة لتحقيق رؤيتها العالمية.

جيبوتي كنموذج للتوسع الصيني

تُعد جيبوتي نموذجًا واضحًا لاستراتيجية الصين في توسيع نفوذها عالميًا، عبر مزيج من الاستثمارات الاقتصادية والتواجد العسكري. بفضل موقعها الاستراتيجي على مضيق باب المندب، أصبحت جيبوتي نقطة ارتكاز رئيسية لمبادرة "الحزام والطريق"، حيث ضخت الصين مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية، إلى جانب تأسيس أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها.

في عام 2017، دشّنت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، تمتد على مساحة 36 هكتارًا، مما يعكس تحوّل نفوذها من المجال الاقتصادي إلى التواجد العسكري. تُستخدم هذه القاعدة لدعم عمليات مكافحة القرصنة وحماية المصالح الصينية، كما أنها تُعزز قدرة بكين على مراقبة أحد أهم طرق التجارة العالمية. ناهيك عن كون هذا الوجود العسكري جزءًا من التنافس الجيوسياسي في البحر الأحمر، خاصة في ظل القواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية والإيطالية في جيبوتي.

ضخّت الصين كذلك استثمارات ضخمة في مشاريع استراتيجية، تعزز موقع جيبوتي كمركز لوجستي إقليمي، أبرزها ميناء "دوراليه" متعدد الأغراض، الذي يوفر بنية تحتية متطورة لتعزيز التجارة الإقليمية والدولية، وخط السكك الحديدية الذي يربط جيبوتي بأديس أبابا، ما يرسّخ اعتماد إثيوبيا الاقتصادي على الموانئ الجيبوتية. كما تستثمر الصين في منطقة دميرجوغ الصناعية، التي تضم مشاريع بقيمة 2.5 مليار دولار، تشمل مصفاة عائمة ومصانع للصلب والزجاج والأنابيب البلاستيكية، بالإضافة إلى مشروع محطة تحلية المياه، الذي يهدف إلى مواجهة تحديات ندرة المياه في البلاد، وتأمين مصادر مستدامة لها.

أثارت الاستثمارات الصينية المتزايدة في جيبوتي قلق القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، اللتان تخشيان أن يؤدي تراكم الديون الجيبوتية إلى منح الصين سيطرة أكبر على الموانئ والمشاريع الاستراتيجية. فمع توسع النفوذ الصيني في المنطقة، بات البحر الأحمر مسرحًا لتنافس القوى الكبرى، حيث تحاول كل دولة تأمين مصالحها في هذا الممر البحري الحيوي.

يمثل التوسع الصيني في جيبوتي جزءًا من نهج أوسع تسعى من خلاله بكين إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا، ليس فقط عبر الاستثمار في البنية التحتية، ولكن أيضًا من خلال فرض وجودها العسكري في مواقع استراتيجية. ومع استمرار المنافسة بين القوى العالمية في المنطقة، تبقى جيبوتي نموذجًا حيًا على كيفية تحول الاستثمارات الاقتصادية إلى أدوات نفوذ جيوسياسي، تعيد رسم خريطة القوة في أفريقيا والبحر الأحمر.

إثيوبيا والصين شراكة اقتصادية متنامية

تمثل الشراكة الاقتصادية بين إثيوبيا والصين نموذجًا بارزًا للتعاون المتنامي في أفريقيا، حيث لعبت الصين دورًا محوريًا في دعم القطاع الصناعي، وتطوير البنية التحتية الإثيوبية. ويبقى من أبرز المشاريع المشتركة، إنشاء مناطق صناعية ضخمة في أديس أبابا بتمويل صيني، ما عزز قدرات البلاد التصنيعية، وساهم في خلق آلاف فرص العمل.

حافظت الصين، لسنوات متتالية، على مكانتها كأكبر شريك تجاري ومستثمر رئيسي في إثيوبيا، ما يعكس عمق العلاقات الاقتصادية بين البلدين. فقد بلغ حجم التجارة الثنائية 2.67 مليار دولار، برسم عام 2022، حيث استوردت الصين سلعًا إثيوبية بقيمة 450 مليون دولار، مقابل 2.2 مليار دولار من الصادرات الصينية إلى إثيوبيا

قدمت الصين دعماً مالياً وتقنياً مهما بخصوص سد النهضة، حيث منحت إثيوبيا قروضًا ضخمة لتطوير خطوط نقل الطاقة المتصلة بالسد، بما في ذلك قرض بقيمة 1.2 مليار دولار عام 2013، وقرض إضافي بقيمة 1.8 مليار دولار في 2019 لتعزيز البنية التحتية للطاقة المتجددة. كما شاركت شركات صينية كبرى في تنفيذ المشروع، ما يعكس التزام الصين بتوسيع استثماراتها في قطاع الطاقة الإثيوبي.

تجاوزت الاستثمارات الصينية في إثيوبيا خلال العقدين الماضيين 4 مليارات دولار، ما أسهم في خلق أكثر من 325,000 فرصة عمل. غير أن بيئة الاستثمار الإثيوبية واجهت تحديات دفعت بعض المستثمرين الصينيين إلى إعادة تقييم وجودهم، ونقل بعض أعمالهم إلى دول مجاورة مثل كينيا وأوغندا وتنزانيا.

في إطار تعزيز شراكتها عقدت هيئة الاستثمار الإثيوبية، في يناير/كانون الثاني 2025، اجتماعًا مع غرفة التجارة الصينية والسفارة الصينية في أديس أبابا، لبحث سبل جذب مزيد من الاستثمارات الصينية وتحسين بيئة الأعمال للمستثمرين. هذا التوجه يعكس حرص البلدين على ترسيخ التعاون الاستراتيجي بينهما، خاصة في مجالات البنية التحتية والطاقة والصناعة، بما يسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية في إثيوبيا، وتعزيز الحضور الصيني في القارة الإفريقية.

استثمار واعد أم فخ مكلف؟

يُثير التوسع الصيني في أفريقيا نقاشًا واسعًا حول دوافع بكين الحقيقية، ففي حين تؤكد الصين أن استثماراتها تهدف إلى تعزيز التنمية والشراكة، يرى البعض أنها تسعى لترسيخ نفوذها السياسي والعسكري، مستغلة الأوضاع الاقتصادية الهشة التي تعاني منها العديد من دول القارة. ويعدّ ملف الديون الصينية أحد أبرز المخاوف المطروحة، حيث تواجه بعض الدول الأفريقية تحديات متزايدة بسبب ما يُعرف بـ"دبلوماسية فخ الديون"، والتي يُخشى أن تؤدي إلى تبعية اقتصادية وسياسية متزايدة لبكين. ورغم ذلك، فإن هذه الاستثمارات تتيح فرصًا كبيرة لتطوير البنية التحتية وتحفيز التنمية الاقتصادية، شريطة أن يتم التعامل معها بحذر، وتجنب الاعتماد المفرط على القروض.

في هذا السياق، أشارت تقارير بحثية إلى أن الصين، رغم الانتقادات، قد أسهمت في دعم مشاريع البنية التحتية في أفريقيا، مما ساعد في تعزيز معدلات التبادل التجاري وتحفيز النمو الاقتصادي. كما أوضحت دراسات أخرى أن بكين تعتبر القارة الأفريقية جزءًا محوريًا من استراتيجيتها الجيوسياسية، وتسعى من خلال منتدى التعاون الصيني-الأفريقي إلى توسيع نفوذها، وتعزيز مكانتها الدولية. ومع ذلك، فإن التباطؤ الأخير في الاقتصاد الصيني، إلى جانب تزايد الضغوط المالية على الدول الأفريقية، قد يؤدي إلى إعادة تقييم هذه العلاقات، ويدفع الحكومات الأفريقية إلى البحث عن نموذج أكثر توازنًا للاستفادة من الاستثمارات الصينية دون التورط في أزمات مالية طويلة الأمد.

إن التحدي الأكبر أمام الدول الأفريقية هو تحقيق الاستفادة القصوى من الشراكة مع الصين، من خلال التفاوض على شروط أكثر إنصافًا، وضمان استثمارات مستدامة تساهم في بناء اقتصادات قوية قادرة على تحقيق استقلالية مالية حقيقية، بعيدًا عن أعباء الديون المتزايدة.

ختامًا، يمثل التوسع الصيني في القرن الأفريقي مسألة محورية تتطلب مراقبة مستمرة ودقيقة، لتقييم آثاره الاقتصادية والسياسية على دول المنطقة. ففي الوقت الذي توفر فيه الاستثمارات الصينية فرصًا لتنمية البنية التحتية وتعزيز النمو الاقتصادي، تبقى المخاوف من تبعية اقتصادية على المدى الطويل قائمة، خاصة في ظل التحديات المرتبطة بالديون وتزايد الانتقادات بشأن سياسة "دبلوماسية الدين".