الخميس 17 يوليو 2025
تتقدم الإمارات بخطى حثيثة نحو تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في منطقة شرق أفريقيا، ومؤخرًا اتخذت من كينيا محطة رئيسية في هذا الإطار، باعتبارها ذات تأثير اقتصادي وإقليمي يتفوق على جيرانها. وشهدت العلاقات بين البلدين تطورًا لافتًا في السنوات الأخيرة، تجسّدَ في سلسلة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والاستثمارات الضخمة في قطاعات متنوعة.
تهدف الإمارات من خلالها تحويل كينيا إلى منصة مركزية تسيطر من خلالها على محاور التجارة والموانئ والموارد الحيوية، بما يتيح لها دورًا مؤثرًا في إعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والسياسي في القرن الأفريقي لصالحها.
تبرز كينيا في إطار التمدد الإماراتي المتصاعد في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، باعتبارها حلقة محورية في الاستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية لأبوظبي. فموقعها الجغرافي على ساحل المحيط الهندي، وقربها من مضيق باب المندب، يمنحها أهمية استراتيجية كبرى، إذ تمثل بوابة طبيعية للربط بين الأسواق الأفريقية الداخلية وشبكات التجارة العالمية التي تمرّ عبر هذا الممر البحري الحيوي.
تتمتع كينيا بثقل اقتصادي كبير، كونها أكبر اقتصاد في شرق أفريقيا، وتحتضن ميناء مومباسا الذي يُعد شريانًا حيويًا لحركة التجارة الإقليمية، فعبره تمر أكثر من 80٪ من واردات وصادرات دول شرق أفريقيا. وتكتسب هذه الأهمية بعدًا إضافيًا لكون كينيا تُعد منفذًا بحريًا حيويًا للدول الحبيسة في المنطقة، مثل: أوغندا وجنوب السودان ورواندا والكونغو الديمقراطية؛ ما يعزز موقعها كبوابة تجارية ولوجستية يصعب تجاوزها.
في هذا السياق، تسعى الإمارات إلى تعميق حضورها في كينيا لترسيخ موقعها مركزا إقليميا للتجارة والشحن والسفر، مستفيدة من موقع نيروبي كمفترق طرق استراتيجي، ومنفتحة على فرص استثمارية تعزز خطتها لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، وتكريس نفوذها في واحدة من أكثر مناطق أفريقيا حيوية وتأثيرًا.
تشكل كينيا نقطة ارتكاز مثالية لتأمين خطوط التجارة البحرية التي تمر عبر المحيط الهندي، وهي خطوط تمثل شريان الحياة الاقتصادي للإمارات
كما تُعدّ الفرص الاقتصادية في السوق الكيني جاذبةً لها، حيث تمثل كينيا سوقًا واعدة وموارد طبيعية كبيرة، وقوة ديمغرافية ضخمة، تحاول الإمارات بناء نفوذ مستدام فيها، عبر الاستثمارات الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والخدمات اللوجستية. من ناحية أُخرى، تشكل كينيا نقطة ارتكاز مثالية لتأمين خطوط التجارة البحرية التي تمر عبر المحيط الهندي، وهي خطوط تمثل شريان الحياة الاقتصادي للإمارات، سواء فيما يتعلق بتدفق الطاقة أو السلع الغذائية. خاصة في ظل التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر، ومضيق باب المندب، وخليج عدن.
علاوة على ذلك، تسعى الإمارات من خلال الحضور الاقتصادي في كينيا إلى إعادة رسم خارطة النفوذ في شرق أفريقيا، ومواجهة النفوذ التركي والصيني والإيراني والروسي المتصاعد في المنطقة، وأيضًا لمنافسة الحضور السعودي والقطري المتنامي، لذلك تطمح إلى تعميق نفوذها في كينيا، مستخدمة أدواتها الاقتصادية والاستثمارية لتحقيق أهداف سياسية وأمنية طويلة الأمد. فكينيا تمثل للإمارات أكثر من مجرد شريك تجاري؛ إنها بوابة رئيسية للولوج إلى العمق الأفريقي، ومنصة لإعادة تصدير النفوذ إلى دول الجوار.
يتّخذ الحضور الإماراتي في كينيا طابعًا متناميًا ومتعدد الأوجه، إذ لم تعد العلاقة الاقتصادية بين الطرفين محصورة في التبادل التجاري، بل أصبحت تتغلغل في القطاعات الحيوية للسيادة الاقتصادية الكينية. وتحتل الإمارات المرتبة السادسة كأكبر وجهة لصادرات كينيا، والثانية كمصدر لوارداتها، لا سيما في مجالات الوقود والآلات والمنتجات الكيماوية. تعتمد الإمارات في علاقتها بكينيا على أداة الهيمنة الاقتصادية الناعمة، والتي تدمج بين تدفق رؤوس الأموال، ونقل التكنولوجيا، وتطوير البنى التحتية، وبين النفاذ إلى الأراضي والموارد الطبيعية والأسواق المحلية.
كثفت الإمارات من مظاهر حضورها في أغلب القطاعات الاستراتيجية لكينيا، حيث وقعت مع كينيا على سبع اتفاقيات ثنائية في 8 مايو/ آيار الجاري، تغطي طيفًا واسعًا من القطاعات، بما في ذلك الشؤون العسكرية والعمليات الجمركية والتنمية الاقتصادية والطاقة وتطوير السكك الحديدية، وإنشاء مجلس أعمال مشترك، وفقًا للبيانات الرسمية.
سبق أن وقّعت الإمارات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة في يناير/ كانون الثاني عام 2025 مع كينيا، لتكون أول اتفاقية من نوعها بين أبوظبي ودولة أفريقية. تمنح هذه الاتفاقية مزايا جمركية وتفضيلية للشركات الإماراتية، وتؤسس لمرحلة جديدة من النفوذ الاقتصادي المباشر. تأتي هذه الاتفاقية بعد سنوات من التمهيد عبر استثمارات نوعية واستحواذات استراتيجية في البنية التحتية، واللوجستيات والطاقة والزراعة والقطاع الرقمي.
لقد تم الإعلان عن مجموعة من مذكرات التفاهم، تعكس طموحات الإمارات في تحويل كينيا إلى بوابة اقتصادية متقدمة تحت تأثير رؤوس أموالها وسياساتها، من أبرز هذه الشراكات مذكرة بين شركة ADQ القابضة الإماراتية والحكومة الكينية في عام 2024؛ لتمويل مشاريع في قطاعات التعدين والتكنولوجيا باستثمارات تصل إلى 500 مليون دولار، وهي مشاريع تتقاطع مع قطاعات حساسة تتعلق بالموارد الطبيعية والرقمنة.
من اللافت أنّ هذا النوع من الاستثمارات لا يوفّر فقط النفاذ إلى الأراضي الخصبة والمياه، بل يكرّس شكلًا من أشكال السيطرة الطويلة المدى على الأمن الغذائي المحلي
في القطاع الرقمي، وقّعت وزارة الاستثمار الإماراتية مذكرة تفاهم مع وزارة تكنولوجيا المعلومات الكينية لتطوير مراكز بيانات ضخمة وتوسيع نطاق خدمات الذكاء الاصطناعي، وسط خطط لتأسيس بنية تحتية رقمية متكاملة قد تعيد رسم طبيعة السيادة المعلوماتية في البلاد. هذا التوسع التكنولوجي يحمل أبعادًا تتجاوز الاستثمار التقليدي، ليبلغ مستويات من التحكم في تدفقات البيانات، والتأثير على السياسة العامة فيما يخص الأمن السيبراني، والحوكمة الرقمية، والخدمات الحكومية.
كما تجلى النفوذ الإماراتي في المجال الزراعي عبر مشروع ضخم تقوده شركة الظاهرة الزراعية في منطقة جالانا كولالو، وهو مشروع يقدَّر ب 800 مليون دولار على مساحة تتجاوز 200 ألف فدان. من اللافت أنّ هذا النوع من الاستثمارات لا يوفّر فقط النفاذ إلى الأراضي الخصبة والمياه، بل يكرّس شكلًا من أشكال السيطرة طويلة المدى على الأمن الغذائي المحلي، وسط تخوفات من تحوّل أراضٍ كينية إلى امتدادات وظيفية لخطط الأمن الغذائي الإماراتية، دون اعتبار كافٍ لأولويات المجتمعات المحلية.
لا يقل القطاع اللوجستي أهمية في هذه الخريطة. فقد خاضت الإمارات، ممثّلة بشركة موانئ دبي العالمية، مفاوضات مكثّفة لتأمين موطئ قدم في ميناء مومباسا، الذي يُعدّ الشريان البحري الرئيسي لكينيا ولعدد من دول شرق أفريقيا الحبيسة. ورغم أن الحكومة الكينية واجهت ضغوطًا داخلية حالت دون تسليم الميناء بشكل كامل، فإن الاتفاقيات الجزئية لإنشاء أرصفة جديدة، وتطوير مناطق حرة، وتقديم خدمات شحن وتفريغ متقدمة، تشير إلى خطوات متدرجة نحو توريط البنية التحتية الكينية في شراكات طويلة الأمد يصعب التراجع عنها.
كما أن دخول الإمارات بقوة في قطاع الطيران، خاصة عبر شركة الإمارات للشحن الجوي، يجعلها لاعبًا محوريًا في تصدير المنتجات الزراعية الطازجة، وتعزيز ربط كينيا بالأسواق الآسيوية والخليجية، وهو ما يفتح المجال لمزيد من التحكم في سلاسل التوريد والتوزيع الإقليمي.
من جهة أخرى، يبدو أن الطاقة المتجددة تمثل أحد محاور التوسّع المستقبلية للإمارات في كينيا. فقد دخلت شركات مثل "مصدر" في مفاوضات لتشييد محطات طاقة شمسية وطاقة رياح في مناطق متعددة من البلاد، ضمن سعي أبوظبي لتعزيز نفوذها في سوق الطاقة الأفريقي، وتصدير نموذجها في التحول الأخضر. رغم الإغراءات التنموية لهذه المشاريع، فإنها تثير تساؤلات حول شروط التعاقد، وملكية الأصول، وأثرها على السيادة البيئية للدولة المضيفة.
بهذا الشكل، يتحول النفوذ الإماراتي في كينيا إلى منظومة اقتصادية مترابطة، تندمج فيها الشركات والصناديق السيادية والهيئات الحكومية ضمن استراتيجية واحدة تهدف إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المركز الرأسمالي الخليجي والهامش الأفريقي، بما يخدم مصالح النخبة الإماراتية، ويعيد إنتاج التبعية في ثوب جديد.
إن تعميق العلاقات مع نيروبي يمنح أبوظبي فرصة للظهور كفاعل موثوق في استقرار الإقليم، ويعزز صورتها كمصدر للتنمية
من جهة أخرى، تمثل تلك الاستثمارات بالنسبة لكينيا فرصة جيدة لتمويل مشاريعها الاستراتيجية الكبيرة، خاصة لرغبتها بأن تعتلي قائمة الدول الكبرى في شرق القارة، وتجد من الإمارات فرصة جيدة لذلك، بفضل استثماراتها السخية في القطاعات المختلفة. كما تحاول كينيا تنويع علاقاتها الخارجية، وعدم الاعتماد الكلي على حلفائها الغربيين كالولايات المتحدة، في ظل تراجع الأموال الأمريكية في القارة الأفريقية ككل.
على الرغم من العائدات الاقتصادية الضخمة التي ستتلقاها الإمارات من الاستثمارات الاستراتيجية في كينيا، إلا أنَّ هذه الأخيرة تحمل أهدافا سياسية تسعى الإمارات إلى تحقيقها. فهي تدرك أهمية كينيا كدولة مستقرة نسبيًا في محيط إقليمي مضطرب، وكونها شريكًا دبلوماسيًا نشطًا في الوساطة وتسوية النزاعات. لذلك، فإن تعميق العلاقات معها يمنح أبوظبي فرصة للظهور بوصفها فاعلا موثوقا في استقرار الإقليم، ويعزز صورتها مصدرا للتنمية والدعم في مقابل مشاريع النفوذ البديلة التي تقودها قوى أخرى.
علاوة على ذلك؛ تمثل الشراكة الإماراتية مع كينيا بوابة قوية لحكومة أبو ظبي في بناء حضور مؤسسي داخل المنظمات الإقليمية مثل "الإيجاد" و"جماعة شرق أفريقيا"، حيث تساهم كينيا بما يزيد عن 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي لجماعة شرق أفريقيا، ما يعكس عمقها الاقتصادي ودورها الحيوي في توجيه مسارات النمو الإقليمي، ما يمنح الإمارات نفوذًا غير مباشر على قرارات الأمن الإقليمي وتسوية النزاعات في دول، مثل: الصومال وإريتريا وإثيوبيا.
يشير التوسع الاقتصادي الإماراتي في كينيا إلى بُعد يتجاوز الاستثمار نحو توظيف النفوذ المالي لخدمة أجندات سياسية في الإقليم، لا سيما في السودان. ففي ظل اتهام الخرطوم لنيروبي بدعم تشكيل حكومة موازية من قبل الميليشيا، وترحيبها بما يسمى "الميثاق السياسي"، تتقاطع المصالح بين كينيا والإمارات بشكل واضح، خاصة بعد الكشف عن حصول نيروبي على تمويل إماراتي كبير، يصل إلى 193 مليون دولار، إضافة إلى قرض إماراتي بقيمة مليون دولار، في نفس توقيت توقيع الميثاق. هذا التزامن، بحسب تقارير بلومبيرج، يعزز الشكوك حول استخدام الإمارات لعلاقاتها الاقتصادية مع كينيا أداة غير مباشرة للتأثير في مسار الحرب السودانية، ودعم مشاريع تستهدف تفكيك الدولة السودانية ضمن هندسة سياسية جديدة في المنطقة.
في الختام، يتضح أن التوسع الاقتصادي الإماراتي في كينيا يتجاوز كونه شراكة تجارية تقليدية، ليعكس استراتيجية مدروسة تهدف إلى توظيف أدوات الاقتصاد والاستثمار في تعزيز النفوذ الإقليمي لأبوظبي. فكينيا، بما تملكه من موقع جغرافي مميز واقتصاد متنامٍ، تشكل منصة مثالية للإمارات لضمان أمنها البحري واللوجستي، وتوسيع شبكة مصالحها في شرق أفريقيا.
بينما تستفيد كينيا من تدفق رؤوس الأموال والمشاريع الكبرى، فإن تنامي الدور الإماراتي يثير تساؤلات حول موازين القوة والسيادة الاقتصادية في المدى البعيد، خاصة مع تداخل الأبعاد التنموية بالأهداف الجيوسياسية. ومن ثم، فإن العلاقة بين البلدين تدخل مرحلة جديدة، تتطلب من نيروبي موازنة مصالحها الوطنية مع متطلبات الشراكات الخارجية، في ظل بيئة إقليمية تتسم بالمنافسة الحادة بين القوى الدولية والخليجية.