الخميس 17 يوليو 2025
في ظل التحديات التنموية والطاقية التي تواجهها دول شرق أفريقيا، يبرز التوجه نحو الطاقة النووية خيارا استراتيجيا يعكس سعيًا لتحقيق الاستقلال الطاقي، وتعزيز المكانة الجيوسياسية. فمن كينيا إلى أوغندا، ومن إثيوبيا إلى رواندا، تُظهر الحكومات إصرارًا على تبني البرامج النووية السلمية، ليس فقط لسد العجز الكهربائي المزمن، بل أيضًا كأداة لتعزيز النفوذ الإقليمي، وتنويع التحالفات الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية. ومع ذلك، فإن هذا المسار لا يخلو من تعقيدات، حيث تتفاعل عوامل سياسية واقتصادية وأمنية من شأنها أن تحول دون ترجمة هذه الطموحات إلى واقع ملموس، خصوصا في ظل بيئة إقليمية تتسم بالهشاشة المؤسسية والتبعية التكنولوجية.
تتعدد الأسباب التي تجعل الطاقة النووية خيارًا مهمًا لدول شرق أفريقيا، فهذه المنطقة، التي تتميز بأسواق سريعة النمو وكتلة سكانية متزايدة، تعاني من حاجة ملحة لمزيد من الطاقة، خاصة في ظل أزمة الكهرباء المستمرة. فقد عانت دول شرق أفريقيا لسنوات من نقص حاد في إمدادات الكهرباء، نتيجة للاعتماد المفرط على مصادر تقليدية غير مستقرة مثل: الطاقة الكهرومائية التي تتأثر بالتغيرات المناخية، أو الوقود المستورد الذي يثقل كاهل ميزانياتها.
في ظل هذه الظروف، ترى الحكومات في الطاقة النووية حلًا طويل الأمد لضمان إمدادات كهربائية مستقرة. لكن هذا الطموح لا ينفصل عن رغبة ضمنية في تحسين المكانة السياسية للدولة، وإظهار قدرتها على مواكبة التكنولوجيا الحديثة، ولو بشكل تدريجي ومدعوم من الخارج. يتجلى ذلك في الحالة الكينية التي اتخذت على عاتقها أن تصبح القوة الإقليمية ذات التأثير الأكبر في شرق أفريقيا، لذلك فإن امتلاكها للطاقة النووية يُعزز بالتأكيد من مكانتها الإقليمية في المنطقة.
يشكّل السعي للانضمام إلى النادي النووي فرصة سانحة لحكومات شرق أفريقيا لتعزيز شرعيتها السياسية في نظر شعوبها
هناك أيضًا بعد دبلوماسي مهم، فالتعاون النووي مع قوى كبرى مثل: روسيا أو الصين يُنظر إليه فرصة لكسر الاعتماد على المانحين الغربيين، وبناء تحالفات بديلة تعزز هامش المناورة السياسية أمام الضغوطات الدولية. كما أن الانخراط في برامج نووية، حتى لو بقي رمزيًا أو محدودًا، يمنح هذه الدول موقعًا جديدًا في النقاشات البيئية العالمية، خصوصًا مع تصاعد خطاب العدالة المناخية ومسؤولية الشمال العالمي عن التلوث.
من منظور آخر، يشكّل السعي للانضمام إلى النادي النووي فرصة سانحة لحكومات شرق أفريقيا لتعزيز شرعيتها السياسية في نظر شعوبها، لاسيما في ظل مجتمعات يغلب عليها الطابع الشبابي، وتتطلع إلى مستقبل أكثر استقلالًا وتقدمًا. وعلى الرغم من اصطدام هذه التطلعات بواقع الإمكانات المحدودة والقدرات التقنية المتواضعة، فإنها تعكس محاولة واعية لتجاوز القيود البنيوية التي لطالما كبّلت خيارات دول المنطقة، وحدّت من طموحاتها السيادية والتنموية.
انخرطت دول شرق أفريقيا، خلال السنوات الأخيرة، في سباق حثيث نحو امتلاك الطاقة النووية، مدفوعة بطموحات تنموية وحاجتها لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء، في ظل ما تشهده من تحول حضري متسارع. كانت كينيا من أوائل الدول التي اتخذت خطوة جادة في هذا الاتجاه، فمنذ 2010، تبنت الحكومة الكينية قرارًا محوريًا بدمج الطاقة النووية في مزيج الطاقة لديها، إدراكًا منها لضرورة تنويع مصادر الطاقة لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء في البلاد. أرسى هذا القرار الأساس لسلسلة من الإجراءات والشراكات الاستراتيجية، في خطوة تعكس طموحها للتحول إلى دولة صناعية متقدمة بحلول عام 2030، وفقًا لرؤية "كينيا 2030".
أدركت الحكومة أن الاعتماد على المصادر التقليدية مثل: الطاقة الكهرومائية والفحم لم يعد كافيًا لتلبية الطلب المتنامي على الكهرباء، لذا أنشأت "مجلس الطاقة النووية الكيني"( NuPEA)؛ للإشراف على تطوير البرنامج النووي، وانخرطت في شراكات دولية استراتيجية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومؤسسات من الصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة؛ بهدف بناء القدرات الوطنية في مجالات السلامة النووية، وتدريب الأطقم البشرية، والتخطيط للبنية التحتية النووية. مؤخرًا، تم توقيع مذكرة تفاهم مشتركة بين الحكومة الكينية والصين في مارس/آذار من العام الجاري، بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية.
اتجهت أديس أبابا نحو تطوير برنامج للطاقة النووية السلمية ضمن جهودها لتنويع مصادر الطاقة وتعزيز أمنها الطاقي
حذت أوغندا حذو كينيا، ففي إطار خطتها لتحقيق أهدافها في مجال الطاقة النظيفة، وزيادة الحصول على الكهرباء لسكانها البالغ عددهم قرابة 55 مليون نسمة، واتجهت نحو امتلاك الطاقة النووية، بوضع هدف استراتيجيً لتحقيق معدل وصول للكهرباء يتجاوز 99٪ بحلول عام 2030. ورفعت السقف بالسعي إلى توليد الطاقة النووية بحلول عام 2031، باستخدام اليورانيوم المُستخرج محليًا، ولا سيما في ظل أزمة الكهرباء المستشرية في البلاد، حيث لا يحصل سوى نصف السكان على الكهرباء.
على المستوى الدولي، حرصت أوغندا على توسيع شراكاتها التقنية والدبلوماسية؛ بهدف اكتساب الخبرة والدعم اللازمين. وقد وقّعت عدة مذكرات تفاهم مع دول، مثل: روسيا وكوريا الجنوبية، تتعلق بالتدريب ونقل التكنولوجيا ودراسات الجدوى. كما تلقت دعمًا فنيًا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتطوير الأطر التنظيمية والرقابية، في مسعى لتلبية المعايير الدولية التي تُعد شرطًا أساسيًا لأي مشروع نووي. يُظهر هذا التوجه رغبة أوغندا في تنويع تحالفاتها بعيدًا عن المانحين التقليديين، والبحث عن شركاء أكثر مرونة سياسيًا.
إلى الجارة الإثيوبية، حيث اتجهت أديس أبابا نحو تطوير برنامج للطاقة النووية السلمية ضمن جهودها لتنويع مصادر الطاقة، وتعزيز أمنها الطاقي. وبدأت الحكومة خطوات عملية منذ 2019 بتشريع يسمح باستخدام الطاقة النووية، ووقعت بدورها اتفاقيات تعاون مع دول لتأهيل الكوادر وتطوير البنية التحتية. وبرز ذلك في خارطة طريق مع روسيا عام 2023، تشمل دعمًا فنيًا وتدريبيًا في مجال الطاقة النووية. وعلى هذا النحو، في فبراير/ شباط من العام الجاري، أعلنت وزارة الابتكار والتكنولوجيا الإثيوبية أن إثيوبيا وروسيا وقعتا خارطة طريق مدتها ثلاث سنوات لتوسيع التعاون في مجال التكنولوجيا النووية، ما يعكس التزامًا واضحًا بالمضي في هذا المسار.
في سياق متصل، ، أظهرت رواند طموحًا لافتًا في هذا المجال، رغم صغر حجمها ومواردها المحدودة حيث وقّعت منذ عام 2018 عدة اتفاقيات، أبرزها مع روسيا وشركتين كندية وأمريكية لبناء مفاعل نووي تجريبي، وتطوير بنية تحتية للطاقة النووية بحلول 2026، كما أنشأت هيئة وطنية للطاقة الذرية لتنسيق الجهود. تأتي هذه الخطوات في سياق رؤيتها الاقتصادية "رواندا 2050" وسعيها لتحقيق قفزة تنموية شاملة، في ظل توقعات بارتفاع الطلب على الكهرباء بين 1.5 إلى 3 جيجاواط عام 2030.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لتنزانيا، حيث نجد أنها سعت إلى تطوير برنامج نووي سلمي كجزء من استراتيجيتها لتوسيع قدراتها في توليد الكهرباء، بهدف دعم التنمية الاقتصادية والصناعية. وتخطط الحكومة لزيادة القدرة الإنتاجية من 2,641 ميجاواط إلى أكثر من 10,000 ميجاواط بحلول عام 2030، مع التركيز على تنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك الطاقة النووية، لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء. حيث تمتلك تنزانيا احتياطيات كبيرة من اليورانيوم، تُقدر بحوالي 58,500 طن متري، مما يجعلها مؤهلة لتطوير برنامج نووي يعتمد على مواردها المحلية.
في السياق ذاته، أعلنت تنزانيا عن نيتها في تطوير الطاقة النووية خلال قمة روسيا-أفريقيا الثانية في يوليو/ تموز 2023، حيث أكد وزير الطاقة والمعادن، دوتو بيتكو، التزام الحكومة بإدماج الطاقة النووية في شبكة الكهرباء الوطنية. كما تسعى تنزانيا إلى تعزيز التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وشركاء دوليين آخرين لتطوير البنية التحتية اللازمة، وضمان الاستخدام الآمن والمستدام للطاقة النووية.
تواجه دول شرق أفريقيا جملة من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تجعل من مسار الوصول إلى الطاقة النووية أمرًا معقدًا، ويحتاج إلى تدرج محسوب. فمن الناحية السياسية، يعاني عدد من دول المنطقة من ضعف الاستقرار السياسي وغياب الثقة في المؤسسات الحكومية، وهي عوامل تقلل من قدرة هذه الدول على إدارة المشاريع النووية التي تتطلب حوكمة دقيقة وشفافة.
كما أن غياب الإجماع السياسي الداخلي، وتردد بعض الفاعلين في قبول مشروع بهذا الحجم والخطورة، قد يؤدي إلى تعطيله أو تأخيره. كذلك، فإن التوترات الإقليمية بين بعض دول الجوار تخلق بيئة مشحونة تمنع قيام تعاون عابر للحدود، وهو ضروري لإنشاء مراكز إشعاعية أو شبكات إنذار مبكر مشتركة.
يكمن تحدي آخر، يتمثل في هاجس الوقوع في دوامة الاعتماد طويل الأمد على الدول الممولة للمشاريع النووية كروسيا والصين، مما يخلق تابعية جديدة بشكل مختلف
على الجانب الاقتصادي، تعد التكلفة العالية لبناء وتشغيل المفاعلات النووية عائقًا أساسيًا، حيث تتطلب هذه المشاريع استثمارات بمليارات الدولارات، في وقت تعاني فيه الدول من عجز في الميزانيات وارتفاع في الدين العام. كما أن البنية التحتية الحالية في كثير من هذه الدول لا تدعم مشاريع معقدة بهذا الحجم، مما يتطلب استثمارات إضافية في شبكات الكهرباء والنقل والتكنولوجيا. أضف إلى ذلك أن بعض الممولين الدوليين يترددون في دعم مشاريع نووية في بلدان تصنّف على أنها مرتفعة المخاطر.
أما من الناحية الأمنية، فإن التحديات تتراوح بين ضعف التأهيل الفني للكوادر المحلية إلى غياب آليات الاستجابة السريعة لحوادث محتملة. الخطر الأكبر يكمن في احتمال تسرب المواد النووية أو وقوعها في أيدي جماعات مسلحة أو إرهابية، خاصة في ظل هشاشة منظومات الرقابة وضعف التنسيق الأمني الإقليمي. كما أن ضعف البنية التشريعية والقانونية في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية يزيد من مخاوف إساءة الاستخدام أو الإهمال الفني.
علاوة على ذلك، يكمن تحدي آخر، يتمثل في هاجس الوقوع في دوامة الاعتماد طويل الأمد على الدول الممولة للمشاريع النووية كروسيا والصين، مما يخلق تابعية جديدة بشكل مختلف، وتنبع هذه المخاوف من طبيعة العقود والاتفاقيات المبرمة بين تلك الدول ودول شرق أفريقيا، والتي تتسم بفترات سداد ممتدة وتسهيلات مالية مغرية، ما يثير العديد من علامات الاستفهام حول الدوافع الحقيقية وراء هذا السخاء ومدى استقلالية القرار السيادي في ظل هذه الشراكات.
يظهر أن توجه دول شرق أفريقيا نحو امتلاك الطاقة النووية كخطوة استراتيجية تعكس طموحًا كبيرًا لتحقيق تنمية مستدامة واستقلال طاقي في مواجهة تحديات معقدة. هذه الطموحات، رغم ما تحمله من فرص لتحسين البنية التحتية وتعزيز القدرات العلمية والسياسية، لا تخلو من عقبات متعددة على صعيد الاستقرار السياسي والتمويل والأمن والقدرات التقنية.
إن التوازن بين هذه المعطيات سيحدد مدى نجاح هذه الدول في تحويل أحلامها النووية إلى واقع ملموس قادر على دفع عجلة التنمية، وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية. تبقى الطريق نحو الطاقة النووية في شرق أفريقيا طويلة ومحفوفة بالتحديات، لكنها في الوقت نفسه تعكس إرادة واضحة للسعي نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.