تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

التصوف الشعبي في جيبوتي: تجلّياته وآثاره

1 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

تنتشر في جيبوتي ممارسات ثقافية ودينية مرتبطة بالتصوف بين مختلف فئات المجتمع، دون انتماء إلى طريقة صوفية معينة. تشكل هذه الممارسات ظاهرة ثقافية مميزة تستحق الدراسة والتأمل، ما يشكل فرصة لاستكشاف تأثيراتها الدينية والروحية، كما يساعد على فهم أعمق للواقع الثقافي والديني في جيبوتي.

التصوف الشعبي: المفهوم والجذور التاريخية

يمثل التصوف الشعبي قسماً متميزاً من التصوف بشكل عام، ويتمايز بوضوح عن التصوف الطرقي من حيث التشكل والتأثير على الواقع الاجتماعي والثقافي. فالتصوف الطرقي يتم تنظيمه ضمن إطار طرق صوفية محددة، مثل القادرية والأحمدية والشاذلية وغيرها. 
تتميز هذه الطرق بهياكل تنظيمية واضحة، وشيوخ معترف بهم، ومراسم محددة للانتساب والممارسة. ويبقى وجود سلسلة روحية (سند) تربط المريد بمشايخ الطريقة وصولاً إلى النبي محمد من أبرز خصائص التصوف الطرقي. فضلا عن الالتزام بممارسات وطقوس محددة، مثل الأوراد والأذكار والخلوات. كما يتميز بوجود مراكز دينية (زوايا) تُدار منها الأنشطة الصوفية بشكل منظم، مع تركيز خاص على التربية الروحية والسلوكية للمريدين.
خلافا للتصوف الشعبي الذي يقوم على تبني الفكر الصوفي، برموزه الثقافية وطقوسه، دون الارتباط بطريقة صوفية محددة أو هياكل تنظيمية. تطبعه مرونة أكبر وارتباط وثيق بالثقافة المحلية والعادات الشعبية، حيث تُمارس الطقوس والاحتفالات الدينية الصوفية، مثل الموالد وذكرى الأقطاب والتبرك بالأولياء، باعتبارها جزءا من الموروث الثقافي والاجتماعي.
يعكس هذا النوع من التصوف اندماجاً طبيعياً بين الممارسات الروحية والهوية الثقافية للمجتمع، ما يجعله ظاهرة واسعة الانتشار ومتجذرة في الحياة اليومية للناس.


تكشف هذه الممارسات عن قدرة التصوف الشعبي على إعادة تشكيل المفاهيم الدينية وفقاً للنسق الاجتماعي المحلي، حيث يمتزج المقدس الديني بالروابط العائلية والقبلية، ليشكلا معاً منظومة ثقافية متميزة تختلف جذرياً عن أنماط التصوف المنظم الذي يعتمد أساساً على العلاقة الرسمية بين الشيخ والمريد


لا تقتصر ظاهرة التصوف الشعبي على جيبوتي فحسب، بل تمتد لتشمل منطقة القرن الأفريقي بأكملها، حيث تُعد جزءاً أصيلاً من مظاهر التدين الإسلامي في سياقه الأفريقي. يتميز هذا السياق بمنح الأولياء مكانة روحية ودينية عميقة في وجدان الشعوب الأفريقية، حيث يُنظر إليهم بوصفهم مصادرا للإلهام والحماية، ورموزا للخلاص والبركة. فهم في الذاكرة الجماعية يمثلون حماة المجتمع، وأصحاب الفضل في مواجهة التحديات الوجودية، إذ يُعتقد أنهم لعبوا دوراً محورياً في إنقاذ مجتمعاتهم من الأزمات والمخاطر، ما جعلهم ركيزة أساسية في الموروث الديني والثقافي الأفريقي.
ترجع جذور التصوف الشعبي وارتباطه الوثيق بثقافة شعوب منطقة القرن الأفريقي، بما فيها الشعب الجيبوتي، إلى مرحلة مبكرة من تاريخ دخول الإسلام وانتشار تعاليمه. فقد أسهم الدعاة الأوائل ذوي المشرب الصوفي، الذين توافدوا على المنطقة في بعثات متلاحقة ما بين القرنين التاسع والرابع عشر الميلادي، في ترسيخ هذه الظاهرة. 
قاد هؤلاء الدعاة زعماء دينيون بارزون، مثل: الشيخ أبادر عمر الرضا ويوسف الأكوان وإبراهيم زرباي وبعثته الدعوية المكونة من أربعة وأربعين داعياً، وإبراهيم الزيلعي، وغيرهم، الذين لا تزال مآثرهم محفورة في ذاكرة الشعوب رغم مرور القرون.
بفضل جهود هؤلاء المشايخ والعباد، الذين ارتبطوا بظاهرة التصوف التي انتشرت في العالم الإسلامي آنذاك، تأثرت منظومة التعاليم الإسلامية ذات الطابع الصوفي التي حملها هؤلاء الدعاة بالثقافة المحلية، مما أدى إلى تشكل ظاهرة التصوف الشعبي. هذه الظاهرة نتجت عن مزيج فريد بين التعاليم الإسلامية الصوفية والعادات والتقاليد المحلية، مما جعلها جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية والدينية لشعوب المنطقة.


لا تقتصر ظاهرة التصوف الشعبي على جيبوتي فحسب، بل تمتد لتشمل منطقة القرن الأفريقي بأكملها، حيث تُعد جزءاً أصيلاً من مظاهر التدين الإسلامي في سياقه الأفريقي. تتميز بمنح الأولياء مكانة روحية ودينية عميقة في وجدان الشعوب الأفريقية


يوضح هذا أن التصوف الشعبي سبق ظهوره التصوف الطرقي بقرون عديدة في المنطقة، حيث لم ينتشر الأخير بشكل واسع في القرن الأفريقي إلا بحلول القرن التاسع عشر الميلادي. فعلى الرغم من دخول الطريقة القادرية إلى المنطقة في القرن الخامس عشر على يد الإمام أبي بكر بن عبد الله العيدورس وتلميذه جند الرحمن، إلا أنها اندمجت في نسيج التصوف الشعبي السائد، ولم يبقَ لها حضور واضح سوى في تحول رموزها - مثل الجيلاني وإسماعيل الجبرتي والعيدروس - إلى أيقونات ثقافية شعبية، ضمن إطار التصوف الشعبي. 
استمر هذا الوضع حتى القرن التاسع عشر، حين أعاد التصوف الطرقي إحياء نشاطه من خلال جهود أعلام بارزين، مثل الأئمة كبير حمزة الأوساوي وعبد الرحمن الزيلعي وأويس البراوي من القادرية، وحسين نور بالي وعلي ميي درغبو من الأحمدية.
انتشر التصوف الطرقي في القرن التاسع عشر، لكنه ظل محصوراً في مناطق محددة دون غيرها، مما حافظ على استمرارية التصوف الشعبي وممارساته الواسعة في العديد من المناطق. ففي جيبوتي والمناطق المحيطة بها، حافظ التصوف الشعبي على حضوره القوي، وظل يمارَس بكثافة بين مختلف شرائح المجتمع، بينما اقتصر انتشار التصوف الطرقي على بؤر محددة، دون أن يتمكن من استيعاب كامل المشهد الديني في المنطقة.

تجليات التصوف الشعبي في الثقافة الجيبوتية

ظلت محاولات متصوفة القادرية لنشر طريقة نظامية في جيبوتي محدودة التأثير، باستثناء المحاولة البارزة التي قادها الشيخ حسين نورية - مبعوث خليفة الطريقة القادرية الشيخ محمود معلم عمر القطبي - عام 1951، عندما أسس أول فرع للطريقة القادرية الزيلعية في البلاد. 
رغم أن هذا الفرع استطاع تخريج عدد من كبار علماء جيبوتي بين ستينات وتسعينات القرن الماضي، مثل الشيخ عثمان وعيس، والشيخ عمر عجه، والشيخ عبد الرحمن لطفي، والشيخ خيره درار، إلا أن تأثيره ظل محدوداً على المشهد الديني والثقافي. فقد انزوى تدريجياً عن الواجهة، بينما حافظ التصوف الشعبي على هيمنته، وتأثيره الأكبر في تشكيل الوعي الديني والثقافي للمجتمع الجيبوتي.
يتمظهر التصوف الشعبي في جيبوتي من خلال نسيج ثقافي متكامل، تتنوع تجلياته بين الأساطير والطقوس التي تشكل وعي المجتمع الجمعي. ففي الحكايات الشعبية، تبرز سير الأولياء كأسطورة يوسف الكونين الذي حبس قوى الشر ("بعربعير") في جبل لإنقاذ الناس من شره، وقصة الشيخ موسى الرجال الذي -حسب المعتقد- سخّر تيساً لمساعدة الجنود الفرنسيين في اجتناب الألغام خلال الحرب العالمية الثانية.
أما في الجانب العملي، فيتجلى الأمر في طقوس مثل "ست فاطمة" أو " ستات"، وهو احتفال نسوي تقيمه الحوامل في شهرهن التاسع لاستجلاب حماية السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي الكريم، ممزوجاً بالثقافة المحلية في مواجهة قوى الشر. وكذلك في احتفالات "أو برخطلي" السنوية بذكرى القطب يوسف الكونين، حيث تدهن رؤوس المواشي بالسمن طلباً للبركة، وتقام الأعراس تيمناً بالخصوبة، فيما كانت النساء يقصدن ضريحه بأرض الصومال طلباً للإنجاب.
إلى جانب هذا توجد طقوس أيام الأربعاء، وفيها تقرأ المناقب الجيلانية وتوزع الحلوى مع شرب القهوة في محفل جماعي. علاوة على ذلك، يتجلى التصوف الشعبي في مظاهر ثقافية أخرى، مثل الاحتفاء بقراءة قصة المولد النبوي في مناسبات غير المولد النبوي، كمجالس التعازي. كما تزف مواكب الأعراس بجزء من قصائد المولد النبوي. هذه الممارسات، بجذورها الصوفية وطابعها الشعبي، تكشف عن تمازج فريد بين الموروث الصوفي والثقافة المحلية، مما يجعل التصوف الشعبي مكوناً أساسياً في الهوية الجيبوتية.


تكشف الممارسات عن قدرة التصوف الشعبي على إعادة تشكيل المفاهيم الدينية وفقاً للنسق الاجتماعي المحلي، حيث يمتزج المقدس الديني بالروابط العائلية والقبلية، ليشكلا معاً منظومة ثقافية متميزة تختلف جذرياً عن أنماط التصوف المنظم الذي يعتمد أساساً على العلاقة الرسمية بين الشيخ والمريد


على المستوى الاجتماعي، يتجذر التصوف الشعبي في جيبوتي من خلال الروابط القبلية ووشائج القربى، حيث تقوم العائلات والقبائل بإنشاء زوايا ومقامات للشيوخ المنتمين إليها، وتنظيم زيارات سنوية لإحياء ذكرى وفاتهم، مع إقامة مراسم تشبه تلك المخصصة للأولياء الصالحين.
ليس هذا فحسب، بل إن التصوف الشعبي أضفى صبغة قدسية على الأجداد ومؤسسي القبائل، إذ يتحولون بعد وفاتهم - حسب المعتقد الشعبي - إلى أولياء يتمتعون بكرامات. وتتجلى هذه القدسية في بناء مقامات لهم، وزيارتها سنوياً، والاستغاثة بهم في الشدائد، تماماً كما يفعلون مع الأولياء المعروفين.
تنتشر مقامات وزوايا التصوف الشعبي انتشاراً واسعاً في جيبوتي والمناطق المحيطة بها، ويمكن تصنيفها إلى نوعين رئيسيين: النوع الأول يرتبط بشيوخ معينين، والنوع الثاني يتصل بالأجداد القبليين. هذه المراكز الدينية لا تقتصر على كونها أماكن لتلاوة المناقب وإقامة طقوس التكريم فحسب، بل تضطلع أيضاً بأدوار سياسية إلى جانب وظائفها الاجتماعية، خاصة في فترات الانتخابات حيث تتحول إلى مراكز للتعبئة والتحشيد السياسي.
تكشف هذه الممارسات عن قدرة التصوف الشعبي على إعادة تشكيل المفاهيم الدينية وفقاً للنسق الاجتماعي المحلي، حيث يمتزج المقدس الديني بالروابط العائلية والقبلية، ليشكلا معاً منظومة ثقافية متميزة تختلف جذرياً عن أنماط التصوف المنظم الذي يعتمد أساساً على العلاقة الرسمية بين الشيخ والمريد.

آثار التصوف الشعبي السلبية في جيبوتي

على الرغم من الانتشار الواسع للتصوف الشعبي في جيبوتي، إلا أنه لا يخلو من جوانب سلبية تستدعي التوقف عندها. فبخلاف التصوف الطرقي المنضبط، يفتقر التصوف الشعبي إلى الضوابط الشرعية، حيث يعتمد أساساً على مزج الرموز الصوفية الدينية بالموروثات الشعبية، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تشويه المفاهيم الدينية الأصيلة.
يبرز الجانب السلبي للتصوف الشعبي في تحوّل العديد من زواياه ومقاماته - التي يفترض أن تكون مراكز إشعاع علمي - إلى أماكن تنتشر فيها الممارسات الدخيلة على الدين. فمع غياب الضوابط الشرعية، تسللت إلى هذه الأماكن عناصر مشبوهة من المشعوذين والسحرة، تلبّسوا زيّ الأولياء وروجوا لممارسات، مثل الشعوذة وادعاء العلاج الروحي وقراءة الطوالع، حتى أصبحت هذه الممارسات - التي لا تمت للدين بصلة - جزءاً من الثقافة الدينية الشعبية.


ترك انتشار هؤلاء الدخلاء أثراً بالغاً في الوعي الجمعي، حيث احتفت الذاكرة الشعبية بنماذج احتيالهم عبر أمثال ساخطة ونوادر كاشفة، تعكس مدى التباس الصورة بين التصوف الأصيل وهذه الممارسات الدخيلة


أدى هذا التحوّل إلى انتشار واسع للخرافات واستغلال بساطة الناس، حيث يستغل بعض الدجالين قدسية هذه الأماكن، ومكانتها في نفوس العامة، لتحقيق مكاسب مادية تحت غطاء الكرامات المزعومة. فأصبحت بعض الزوايا والمقامات مرتعاً للاحتيال، ومصدراً لانحراف العقائد، بعيداً عن الأهداف الروحية السامية التي من المفترض أن تمثلها.
ترك انتشار هؤلاء الدخلاء أثراً بالغاً في الوعي الجمعي، حيث احتفت الذاكرة الشعبية بنماذج احتيالهم عبر أمثال ساخطة ونوادر كاشفة، تعكس مدى التباس الصورة بين التصوف الأصيل وهذه الممارسات الدخيلة. فأضحت بعض الطقوس - مع تكرار هذه الحالات - مجرد أشكال فارغة من الجوهر، مما أسهم في تشويه السمعة الروحية للتصوف الحقيقي لدى عامة الناس.
يظل التصوف الشعبي في جيبوتي ظاهرة ثقافية ودينية فريدة، تجسد تفاعل الإسلام مع البيئة المحلية بكل تعقيداتها. ورغم ما يثيره من إشكاليات تتعلق بالممارسات الدخيلة، إلا أنه يحافظ على حضوره كجزء أصيل من الهوية الجيبوتية.