الخميس 15 مايو 2025
عندما زرتُ أنجمينا، أخبرني الكاتب السوداني عاطف الحاج، بأن هنالك شباب تشاديون يكتبون بالعربية، وكتاباتهم ناضجة جدا. قدم لي أعمال بعضهم، وكان من ضمنها رواية "مزرعة الأسلاك الشائكة" للكاتب طاهر النور، وقد صدق عاطف، فعند قراءتي لنماذج من الرواية التشادية المكتوبة بالعربية، وجدتها مذهلة جدا، رغم أنها كُتبت متأخرة، لأن العربية ليست اللغة الرسمية للدولة، وليست لغة الثقافة السائدة أيضا.
في هذا الحوار سنستكشف عوالم الروائي والصحفي التشادي طاهر النور (1990)، الحائز على جائزة توفيق بكار للرواية، وهو صاحب الروايات الرائعة، مثل: "سيمفونية الجنوب" (2021) و"مزرعة الأسلاك الشائكة" (2023) و"تحت سماء واطئة" (2024). كتب في أدب الرحلات أيضا "أفريقي في فلسطين" (2024)، وقد فازت روايته " قودالا" بجائزة توفيق بكار للرواية، ما يعد انتصارا كبيرا للرواية التشادية المكتوبة بالعربية.
طاهر النور: برأيي أن العكس هو الصحيح. فالرواية العربية في تشاد قد أخذت زمنا طويلا كي تبدأ في الظهور. فقد شهدت سنوات ما بعد الاستقلال طفرة كبيرة على الصعيدين الثقافي والتعليمي. ومع هذا الزخم، كان ينبغي ولادة أقلام قادرة على الإنتاج. لكن هذا لم يحدث إلا في الشعر، دون أن يكون للسرد أي نصيب من تلك الفترة الذهبية. إن شئت الصراحة، باستثناء بعض الملامح القصصية التي برزت بشكل خجول، ونشرت على نطاق ضيق في المجلات والجرائد، قبل نشر رواية "سندو" للدكتور آدم يوسف في 2004. ولكن الملفت في الأمر، أن ثمة انقطاعا حصل خلال العقدين الماضيين، إذ رأينا زمنا طويلا قد مضى دون أن تنشر فيه أية رواية، وهذا أيضا أثّر بعض الشيء في مسيرة الأقلام التي قرأنا لها مؤخرا. وربما، أننا كنا بحاجة إلى هذا الفراغ قبل أن نبدأ في الظهور مجددا.
النور: جاءت جائزة توفيق بكار، لتضعني أمام تحدٍ كبير في مضمار الرواية. أعتقد أن هذا ما تفعله أي جائزة. أي تكريم لنا أو لأعمالنا، يكون بمثابة الطوق الذي يلتف حول أعناقنا، لأننا مطالبين في هذه الحالة ببذل المزيد من الجهد، ومضاعفة العمل، والمثابرة أكثر من ذي قبل، حتى نكون على قدر توقعات من منحنا جائزة أو تكريما من نوع ما.
إنهم يتوقعون منك ما هو فوق طاقتك. طبعا، لا ننسى مطلقا، ونحن نكتب، أن نضع القارئ الذي بدأ معنا الرحلة منذ أول كتاب، أمام اختبار حقيقي لثقافته وتجاربه القرائية.
النور: حسنا، الأمر ربما صدفة، لا أدري، على اعتبار أن الجامعات والمؤسسات التعليمية في عمومها، لا تضع في أجندتها ما يمكن أن يأخذ بيد المبدع، ناهيك أن تمتلك رؤى عامة لدعم وتحفيز الكاتب أو الشاعر. مع ذاك، وكي لا أكون مجحفا، فإن جامعة الملك فيصل، وأنا هنا أتحدث عن الجانب الثقافي لا التعليمي، قد أسهمت في وقت من الأوقات في تطوير الأدوات الفنية للعديد من المبدعين، لا سيما الشعراء، وأنا واحد من الذين صادف وأن عشت في تلك الفترة المهمة من مسيرة الجامعة، وفازت واحدة من قصصي بدورة 2015، الأمر الذي فتح لي منافذ جديدة في الإبداع. ومن يدري، ربما إذا لم أحظ بتلك الجائزة المتواضعة، تركت أمر الإبداع وراء ظهري.
النور: في الحقيقة نحن في تشاد لسنا بحاجة إلى اعتراف بأدبنا العربي الذي يعود تاريخه إلى إبراهيم الكانمي الذي عاش في القرن الحادي عشر. عاش في مراكش سفيرا لمملكة كانم، وله علاقة قوية بالخليفة الموحدي يعقوب المنصور. وقد تحدث عنه ياقوت الحموي في معجم البلدان. لكننا، من ناحية أخرى، قد نكون اكتشافا للعالم العربي الذي يجهل هذه الثقافة العربية المتجذرة. وإن كان من المعيب هنا أن نستخدم مصطلح "اكتشاف". ماذا يعني ذلك؟ ماذا يعني أن يكتشف الشرق العربي أن ثمة كتّابا بالعربية من أفريقيا جنوب الصحراء؟ ولماذا لم يكونوا يعرفون هذه الحقيقة أساسا؟ هل هم بحاجة إلى كل هذا الوقت حتى يكتشفوا مؤخرا أن ثمة متحدثين وقراء وكتابا وشعراء بالعربية في هذه البقاع الداكنة؟
حسنا، لست مخولا للإجابة على هذه الأسئلة، لكنني أؤكد لك أن ثمة عجزا ثقافيا في العالم العربي، عجزا على مستوى الدول والمؤسسات الفاعلة التي تقع على عاتقها مسؤولية مد الجسور بين الثقافة الواحدة، وأيضا عجز في التواصل الحضاري والثقافي عبر الكتابة والترجمة. وهو في الحقيقة، ما نجحت فيه المنظمات الفرنكفونية والانجلوفونية، وبالرغم من أنها ثقافات وفدت مع الاستعمار، وقامت تحت سلطة العسكر والدم، إلا أنها نجحت في بسط صوتها في فضاءات مجهولة وبعيدة تماما، عن الثقافة الأم، كما هو الحال في الاستعمار الفرنسي الذي دعم مؤسساته ووطد وجوده الثقافي، ليس بقوة البندقية فحسب، بل بقوة الكلمة أيضا. أما نحن، فهويتنا تدافع عن نفسها بنفسها، ولأنها متغلغلة في كيان الإنسان والأرض صمدت كل هذا الزمن. وكلما حاول الاستعمار نزعها، وفرض هويته، واجهت هذه الثقافة طغيانه، بتماسكها وتلاحمها القديم، على الأقل في الوعي السائد في اللغة اليومية.
النور: لعل أبرز ملامح الرواية عندنا هي خصوبة المكان التي تدور فيه، وخصوصيته، وثراء العادات والتقاليد والفلكلور الشعبي، وبهائه وتنوعه. وبالتالي تميزها في مجريات حيات شخوصها، موضوعا وحبكة وأبطالا، حتى وإن تم تغليفها في رواية على شكل سيرة ذاتية.
النور: بشكل عام، أنا لا أميل إلى استخدام اللغة الدارجة في الحوار، وإذا حدث ذلك، فإنما لدواعي فنية لا أكثر. وحتى حين اضطر إلى ذلك، وألجأ إلى العامية، وهذا لا يحدث كثيرا على أي حال، فإنني أقوم بالشرح في الهوامش، لإدراكي أن القارئ العربي لن يكون ملما ببعض التعابير الغارقة في المحلية، وهي من خصوصيات أي لغة.
طبعا هذا لا يتعلق برأيي حول العامية العربية عندنا، وإنما يعود إلى اعتقادي بأن الكتابة هم إنساني يجب أن يكون باللغة الفصحى. لهذا لا أميل إلى الروايات العربية التي تعتمد على اللهجات، سواء كانت مغاربية أو شامية أو خليجية. وأحب أن أغرق قي قراءة العمل دون الاصطدام بمفردة أجهلها، خصوصا إذا كان وقوعها في النص غير ضروري، ولا يخدم الفكرة بأي شكل.
النور: كثيرا ما قلت في حواراتي أنني بصري، لذلك أجد نفسي معتمدا على الوصف في أعمالي، لاعتقادي بأن الوصف يقرب المعنى، ويشرحه بطريقة أفضل، وأنني لست بحاجة إلى كلمات مباشرة، لا هي جميلة، ولا هي واضحة، قد تجعل الفكرة أكثر صلابة، أكثر عماء. إلا أنني أعتمد بصورة عامة على ثقافتي المحلية، بحيث تقوم فلسفتي في الاتكاء على العناصر السينمائية التي هي من صميم البيئة التي يدور حولها المتن الروائي. وهي محاولة لخلق صورة سينمائية تنتمي إلى المكان. وإذا استخدمت صورة متناقضة لصورة المكان، فإنني بفعلتي هذه أخون المكان. أقوم باغتياله. وبالتالي، يجب أن أكون وفيا للمكان. ورواياتي روايات مكان دائما. قد أخون الزمان، لكني لا أخون المكان مطلقا. الزمان يتغير، غير أن المكان لا يتغير، على الأقل بالنسبة للمكان الذي تدور فيه قصص شخصياتي.
النور: قرية قناطير، في رواية "تحت سماء واطئة"، مثل قرية حجر الطير قي رواية "قودالا"، تطرح للقارئ فكرة أن الزمان واحد، لكن المكان ليس كذلك. الزمان هو القرن الحادي والعشرين، أما المكان، فيناقض الزمان تماما. كأن هناك عالمين، لا عالما واحدا. أعني إنها بلورة لفكرة الخصوصية المحلية التي تتميز بها أفريقيا السوداء، من حيث الطبيعة والناس، وعاداتهم وثقافاتهم وأغانيهم وألغازهم، علاوة على الحكايات والخرافات والنكتة والفكاهة والبساطة والفقر.
النور: الشمال والجنوب اللذين كتبت عنهما في "سيمفونية الجنوب"، لا يشبهان الشمال الذي نعرفه عن فترة الاستعمار. وكذلك، ليس هو نفس الجنوب. برأيي أنه لا يوجد وجه للمقارنة. وما فعلته أنا في الرواية، هي محاولة لخلق نوع من المقاربة بين جنوب وشمال متنافرين. ليس فقط أن الشمال حار وقاس ومقفر. وأن الجنوب ساحر ومسالم وأرضه مخضوضرة. بل لأن إنسان الشمال يرى لنفسه ذاتاً غير ذات إنسان الجنوب. وأن إنسان الجنوب، يرى لنفسه ذاتاً غير ذات إنسان الشمال. وما فعلته في الرواية، هو أنني قمت بإسقاط الذوات المنفردة، وخلقت ذوات مجتمعة ومتضافرة، تتقاسم الأرض والحرب والجوع والدين والحكايات والرقص والأغاني. وهذا يعني، أنني أومن بالتعايش، بنفس درجة إيماني بالاختلاف.
أما الاستعمار، فهو من زرع فكرة أن هؤلاء شماليين مسلمين وأجلاف أميين، وأن أولئك الجنوبيين كفارا، لا نشبههم ولا يشبهوننا. فالاستعمار إذن، لا يريد أن تتعايش هذه الهويات المتعددة، بتراثها واختلافاتها، وعمل من أجل بث الفرقة، ونفخ بين الحين والآخر في رماد الحروب القديمة، من أجل أن يسبب أزمة داخلية، بين الشمال والجنوب بصورة دائمة. هذا هو الإرث الاستعماري الذي علينا أن نواجهه بأطروحاتنا المختلفة في أعمالنا السردية، أو الحقول المعرفية الأخرى. وللأمانة، فإن الحكام الأفارقة، لا يختلفون عن المستعمرين في شيء. وربما هم أسوأ. خصوصا، وأنهم من بني جلدتنا، يعرفون أين ضعفنا، وأين قوتنا. وقد عملوا بإخلاص في تمرير الأجندات الاستعمارية.
النور: الكتابة هي فعل مقاومة. مقاومة ضد كافة أشكال الظلم والاستعمار. مقاومة في وجه أحزاننا وهشاشتنا وأعطابنا الداخلية. الكتابة ردة فعلنا ضد أي قُوى لا نستطيع أن نرفع في وجهها البندقية. لكنها، كما ترى، مقاومة سلمية، مقاومة ناعمة، إن شئنا الدقة.
النور: كل فن يلعب دورا مختلفا. هناك من الناس لا يشاهدون الأفلام ولا نشرات الأخبار، ويكتفون بقراءة الكتب. ومن الناس من لا يقرأ الكتب، ويجد نفسه مهوسا بالأفلام، ومتابعة ما يجري في العالم عن كثب. لكن تظل الرواية الفن الأكثر شعبية في العالم.
النور: أدب أفريقيا السوداء يبقى الأدب الأكثر جمالا وتكاملا، أنه في ذلك يشبه أدب أمريكا اللاتينية. من يقرأ شينيو أشيبي أو نور الدين فارح أو وول سوينكا أو تشيماماندا أو واثينغو نغوغي.. الخ، سيجد أدبا لا مثيل له بين آداب العالم، وسيقول إن هذا الأدب يستحق أن يقرأ على نطاق واسع.
النور: على حد علمي لم يترجم روائي فرنكفوني تشادي واحد إلى اللغة العربية. وهذه واحدة من عيوب المؤسسات في العالم العربي. لأن الفجوة كبيرة جدا بين العالم العربي وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء. الترجمة اليوم ليست معرفية وعلمية فحسب، وإنما تعد واحدة من صور التواصل، ومن يعجز عن الترجمة لن يتمكن من التواصل، وسيواجه ما يشبه العزلة في النهاية.
النور: الكاتب بالعربية عموما، يمكننا أن نقول إنه تعيس للغاية، إذا نظرنا إلى عدة جوانب، فهو يجد صعوبة في النشر، حتى وإذا تمكن من النشر يجد صعوبة في الحصول على حقوقه. أشك في العثور على كاتب عربي واحد يحصل على حقوق التأليف كاملة. لأن الناشر إما أن يسرقه حقوقه، أو يقوم بطباعة أعماله في السوق السوداء، ويبيعها كذلك في ذات السوق، ثم يخبره ببساطة ألا وجود لأي مبيعات. أو أن يدفع له مقابل بضع عشرات من النسخ، لأن الناشرين لا يقدمون أي بيانات بشأن المبيعات. ومن ناحية أخرى، هناك أزمة قارئ أيضا "وهي واحدة من حجج الناشر الجاهزة".
العرب لا يقرؤون. هذه حقيقية يمكننا أن نقطع فيها اليقين إذا عدنا إلى الإحصائيات الرسمية. علاوة على ندرة المؤسسات الثقافية التي تدعم، أو تقدم منحا سخية للكاتب، بحيث يقضي سنة أو سنتين أو المدة التي يتطلبها مشروعه دون أن يحتاج إلى وظيفة تسلبه وقته وجهده وتفكيره وطموحه. إذن، وقياسا على كل ذلك، فاذا كان الكاتب في المركز العربي يعاني من كل هذا البؤس، فكيف بكاتب يعيش في هامش الهامش العربي؟
النور: مشكلتنا هي أننا أمام خيارات صعبة في كل الأحوال. فمثلما نحن نعيش في هامش الهامش العربي، نحن كذلك نعيش في الهامش الثقافي لبلدنا، بما أن الفرنكفونيون هم الذين يحركون اللعبة السياسية والثقافية والاجتماعية فيها. وبالتالي، فإن أمرنا لا يهمهم. ولماذا يفعلون ذلك، ونحن نقوّض مشروع الفرسنة، القائم منذ أكثر من قرن؟ كيف يفعلون ذلك، وهم يعدوننا بمثابة الشبح الجاثم أمام ثقافتهم الفرنسية؟ ألا يمتلكون المعرفة والوعي الكافي الذي يدفعهم إلى استبعادنا من مشاريعهم الثقافية؟ الدولة التي لم تقم ببناء المدارس العربية منذ أكثر من 60 عاما، فهل ستلتفت لشأننا الثقافي؟ أشك في ذلك. وهو أمر يصعب استئصاله في الوقت الراهن.