الأحد 16 نوفمبر 2025
تُجسّد مدينة غاريسا في كينيا نموذجًا فريدًا لتقاطع التقاليد القبلية العريقة مع موجات التحول الديمقراطي اللامركزي، حيث يتخذ التنافس المحلي طابعًا يتجاوز حدود السياسة ليغوص في عمق الهوية والانتماء. فهنا تتصارع الولاءات القبلية المتجذّرة مع محاولات بناء منظومة حكم حديثة تسعى لترسيخ المشاركة والمساءلة. هذا المشهد يكشف بوضوح عن التعقيدات الكامنة في تطبيق الديمقراطية داخل بيئات تتشابك فيها الأعراق والثقافات، ويؤكد أن اللامركزية ليست دائمًا بوابة للوحدة، بل قد تتحول -إن أُسيء توظيفها- إلى محفّز للانقسام وصراع النفوذ.
يشكّل الولاء القبلي في إقليم غاريسا محورًا أساسيًا لفهم طبيعة التنافس المحلي، إذ تتقاطع فيه العوامل العرقية والقبلية لتُصيغ ملامح النفوذ السياسي والاجتماعي. فالتكوين السكاني المتنوع الذي يضم جماعات مثل الجالوه، بوجادو، والدارود، أفرز خريطة معقدة من التحالفات والصراعات التي تتمحور حول الموارد والمناصب التمثيلية. هذه الانقسامات لا تُعدّ مجرد بُنى اجتماعية تقليدية، بل تحولت إلى أدوات فاعلة في إدارة الصراع على السلطة، حيث تُستخدم الانتماءات القبلية كوسيلة لحشد التأييد وتثبيت النفوذ في المؤسسات المحلية.
في المشهد الغاريسي، لا تزال الانتخابات المحلية تُدار في كثير من الأحيان بمنطق التحالفات القبلية لا ببرامج الأحزاب أو كفاءة المرشحين، ما يجعل الديمقراطية أقرب إلى منافسة اجتماعية منها إلى عملية سياسية مؤسسية
وقد كشفت الانتخابات المحلية خلال العقد الأخير عن عمق هذا التشابك بين القبيلة والسياسة، إذ اتسمت بموجات من التنافس الحاد، وأحيانًا بالعنف السياسي المرتبط بتوزيع المقاعد والمنافع. ففي انتخابات عام 2022 مثلاً، حصدت مجموعة بوجادو نحو 55٪ من المقاعد الحزبية في مجلس غاريسا، ما أثار جدلاً واسعًا حول تزايد حضور الهوية القبلية في العملية السياسية. هذا الواقع يعكس مفارقة واضحة بين الممارسة الديمقراطية المنشودة، القائمة على تمثيل المصالح العامة، وبين الواقع القبلي الذي يوجّه مسار القرار السياسي نحو الولاءات الضيقة بدلًا من المصلحة المشتركة للمجتمع.
اعتمدت كينيا نموذج الديمقراطية اللامركزية بوصفه آلية لإعادة توزيع السلطة، وتمكين المجتمعات المحلية من المشاركة المباشرة في صنع القرار. ويهدف هذا النهج إلى تعزيز فعالية الحكم وتحقيق التنمية من القاعدة إلى القمة، عبر تقريب المؤسسات من المواطنين وإتاحة الفرصة أمامهم لتحديد أولوياتهم التنموية. في إقليم غاريسا، انعكست آثار هذا النموذج في تحسن ملموس ببعض الخدمات العامة، ولا سيما في مجالات البنية التحتية والتعليم والصحة. وتشير البيانات الحكومية إلى أن نحو 30٪ من مشاريع البنية التحتية تُموَّل منذ عام 2018 من ميزانيات محلية، الأمر الذي ساهم في خلق فرص عمل جديدة ورفع معدلات التوظيف في القطاعات الخدمية.
هذه الانقسامات لا تُعدّ مجرد بُنى اجتماعية تقليدية، بل تحولت إلى أدوات فاعلة في إدارة الصراع على السلطة، حيث تُستخدم الانتماءات القبلية كوسيلة لحشد التأييد وتثبيت النفوذ في المؤسسات المحلية
غير أن هذا النظام، رغم طموحه الإصلاحي، لا يزال يصطدم بعقبات متجذرة في بنية المجتمع المحلي، أهمها الصراع على النفوذ والموارد بين الجماعات القبلية. ففي ظل استمرار الولاءات التقليدية، تحولت بعض المجالس المحلية إلى ساحات للتنافس على الامتيازات بدل أن تكون أدوات لتحقيق العدالة التنموية. هذا الواقع أدى إلى اختلال في توزيع الموارد وتراجع الثقة الشعبية في مؤسسات الحكم المحلي، مما أضعف مصداقية التجربة الديمقراطية ذاتها، وحوّلها في بعض الأحيان إلى انعكاسٍ آخر لمعادلات القوة القبلية التي كان يُفترض أن تتجاوزها.
ستظل غاريسا نموذجًا بارزًا يعكس تعقيدات التنافس المحلي في منطقة القرن الأفريقي، إذ تتقاطع فيها الولاءات القبلية مع محاولات بناء أنظمة ديمقراطية ناشئة. ويمكن مقارنة تجربتها بما يجري في إقليم جوبا بجنوب السودان، حيث تتكرر مظاهر الصراع بين الهويات التقليدية والهياكل السياسية الحديثة. يولّد هذا التداخل بين القبيلة والدولة حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، تجعل من التحول نحو الحكم الرشيد عملية شاقة ومعقدة. وتشير دراسات متعددة إلى أن استمرار هذه الأنماط من الصراعات يحول دون ترسيخ مبادئ المشاركة والمساءلة، ويضعف الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة الناشئة.
وفي الوقت ذاته، تكشف المؤشرات التنموية عن انعكاسات مباشرة لهذه النزاعات على مسار التقدم الاقتصادي والاجتماعي. فبحسب بيانات الأمم المتحدة، تسجّل مناطق مثل غاريسا وجوبا معدلات نمو تقل بنحو 40٪ عن نظيراتها الأكثر استقرارًا، نتيجة لتراجع الاستثمارات وضعف البنية المؤسسية. هذا التفاوت يسلّط الضوء على الصلة الوثيقة بين الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة، حيث يؤدي غياب الحكم القائم على المؤسسات إلى إطالة أمد الصراعات وتعميق الهشاشة الاقتصادية. ومن ثم، تبدو معالجة جذور الولاءات الضيقة، وتعزيز الحكم المؤسسي شرطًا أساسيًا لتحقيق تحول حقيقي في هذه المناطق.
في ضوء ما سبق، يمكن اعتبار غاريسا نموذجًا دقيقًا لاختبار مدى قدرة الديمقراطية اللامركزية على الصمود في بيئة يغلب عليها الطابع القبلي. فالتشابك بين الولاءات والانتماءات العائلية يعيد تشكيل معادلة المشاركة السياسية، ويضع مفاهيم العدالة والمواطنة على المحك. ففي المشهد الغاريسي، لا تزال الانتخابات المحلية تُدار في كثير من الأحيان بمنطق التحالفات القبلية لا ببرامج الأحزاب أو كفاءة المرشحين، ما يجعل الديمقراطية أقرب إلى منافسة اجتماعية منها إلى عملية سياسية مؤسسية. إن هذا الواقع يعكس تحديًا جوهريًا أمام فكرة "الحكم من القاعدة"، إذ يختبر قدرة النظم اللامركزية على تحقيق المساواة في ظل اختلال موازين القوى التقليدية.
هذا التفاوت يسلّط الضوء على الصلة الوثيقة بين الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة، حيث يؤدي غياب الحكم القائم على المؤسسات إلى إطالة أمد الصراعات وتعميق الهشاشة الاقتصادية
يكمن نجاح التجربة الديمقراطية في غاريسا في قدرة الفاعلين المحليين على تحويل الولاءات القبلية من أداة للتقسيم إلى رافعة للتكامل المجتمعي. فحين تُستثمر الهويات المحلية ضمن إطار مؤسسي قائم على العدالة والشفافية، يمكن أن تتحول إلى عنصر دعم للاستقرار بدلًا من مصدر تهديد له. على سبيل المثال، أثبتت بعض المجالس في مناطق شمال كينيا أن إشراك الزعماء التقليديين في لجان التنمية يعزز الثقة ويقلل النزاعات حول الموارد. وبالتالي، فإن بناء مؤسسات قادرة على إدارة التنوع بعدالة، مع ضمان تمثيل حقيقي لكل الفئات، يشكل الخطوة المفصلية نحو ترسيخ ديمقراطية مستدامة تُوازن بين الهوية والانتماء الوطني.
تشكّل التوازن بين الولاءات القبلية ومتطلبات الممارسة الديمقراطية أحد أكثر التحديات عمقًا في كينيا ودول القرن الأفريقي عمومًا. فهذه الدول ما زالت تعيش في فضاء سياسي تتقاطع فيه الحداثة السياسية مع البُنى الاجتماعية التقليدية، مما يجعل الانتقال نحو الحكم الرشيد عملية معقدة تتطلب إدارة دقيقة للعلاقات المحلية. ففي حالات مثل غاريسا أو جوبا، يظهر بوضوح أن غياب هذا التوازن يؤدي إلى إعادة إنتاج أنماط الإقصاء وعدم المساواة، حيث تظل الموارد العامة رهينة للنفوذ القبلي لا لاعتبارات التنمية الشاملة. ومن هنا، يمكن القول إن نجاح الديمقراطية في مثل هذه البيئات لا يرتبط فقط بإنشاء مؤسسات رسمية، بل بقدرتها على احتواء التعدد الاجتماعي، وإعادة تعريف الانتماء السياسي بمعناه الوطني الجامع.
إن بناء آليات شاملة للمشاركة السياسية يُعدّ المدخل الحقيقي لتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، إذ تُظهر التجارب الأفريقية أن الدول التي نجحت في دمج مكونات المجتمع المحلي في عملية صنع القرار مثل رواندا وإثيوبيا في مراحل إصلاحها الإداري، استطاعت تقليص حدة الصراعات وتعزيز النمو. أما استمرار النهج القائم على الولاءات الضيقة فيقود حتمًا إلى إطالة أمد النزاعات وتكريس الهشاشة الاقتصادية والمؤسسية، بما ينعكس سلبًا على الأمن الإقليمي ككل. وعليه، فإن تجربة غاريسا لا تمثل تحديًا محليًا فحسب، بل درسًا استراتيجيًا للمنطقة بأسرها: فالديمقراطية لا تزدهر في غياب العدالة، ولا تستقر الأوطان إلا حين تُدار تنوعاتها بوعي، وعدل، وحكمة تُوازن بين الماضي والآتي.