تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 12 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

التهريب في أوغندا: من نشاط هامشي إلى اقتصاد موازٍ

2 نوفمبر, 2025
الصورة
التهريب في اوغندا: من نشاط هامشي إلى اقتصاد موازٍ
Share

على ضفاف بحيرتي فيكتوريا وألبرت في أوغندا، لا تكتفِ القوارب لنقل الأسماك والبضائع القانونية إلى دول الجوار. ففي جنح الليل تتحول إلى جزء من شبكة تهريب ممتدة على طول الحدود، حيث تنقل السجائر والوقود والمعادن المهربة، متخطية بذلك نقاط الجمارك الرسمية. وبمرور الوقت، تضاعف هذا النشاط بفعل هشاشة الرقابة الحدودية، وتواطئ المسؤولين والفوارق الضريبية؛ ليتحول التهريب بذلك من نشاط جانبي يقوم به الأفراد والأسر الواقعة على الحدود إلى اقتصاد موازٍ يجني ملايين الدولارات. ليس وجهتها خزينة الدولة. بل لشبكات التهريب نفسها، وفي بعض الأحيان للجماعات المسلحة الناشطة في تلك المنطقة الغنية بالصراعات.

تغلغل التهريب على حدود أوغندا

أشار تقرير هيئة الإيرادات الأوغندية في الآونة الأخيرة أن البلاد تخسر أكثر من 509 ملايين دولار سنويًا نتيجة تهريب السلع عبر بحيرتي فكتوريا وألبرت، وهو رقم يعادل تقريبًا ميزانية قطاعي الزراعة والصحة مجتمعين في أوغندا. ما يكشف أن الظاهرة لم تعد مجرد تجاوز قانوني، بل أضحت اقتصادًا موازيًا يزاحم الاقتصاد الرسمي في تأثيره وحجمه.

يُعدّ التهريب، وفقًا لمنظمة النزاهة المالية العالمية، أحد أشكال التدفقات المالية غير المشروعة، أي حركة الأموال والسلع عبر الحدود بطرق تنتهك القوانين الوطنية والدولية. وغالبًا ما تزدهر هذه الأنشطة في البيئات الحدودية الهشة، حيث يسهل اختراق الأنظمة الجمركية وضعف السيطرة الأمنية، وهو ما ينطبق بصورة دقيقة على الحالة الأوغندية.

تُعدّ أوغندا دولة حبيسة تتقاطع حدودها مع ست دول هي: كينيا وتنزانيا ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، إلى جانب واجهتها المائية على بحيرتي فيكتوريا وألبرت. ويبلغ طول حدودها أكثر من 2700 كلم، ما يجعل السيطرة عليها مهمة معقدة تواجه السلطات باستمرار.

في المناطق الريفية الممتدة على طول هذه الحدود، لا يُنظر إلى التهريب بوصفه نشاطًا اقتصاديًا غير قانوني فحسب، بل يُعد وسيلة للبقاء، بل وأحيانًا عملاً مشروعًا وشكلاً من أشكال الحراك الاجتماعي، إذ تحوّل لدى كثيرين إلى قصة صعود من الفقر إلى الثراء في ظل تهميش مزمن يشعر به سكان المناطق الحدودية، خصوصًا في غرب النيل، نتيجة سياسات الرئيس يويري موسيفيني.

هناك، تتداخل القرى والأسواق وتتراجع قدرات الأجهزة الأمنية، فتتحول الحدود إلى ممرات شبه مفتوحة لتهريب السلع والوقود والمعادن والمنتجات الزراعية، في إطار اقتصاد حدودي غير رسمي يزداد تنظيمًا وتأثيرًا مع مرور الوقت.

تعدّ المواد الغذائية، وعلى رأسها الأرز، أكثر السلع تهريبًا، ففي يناير/ كانون الثاني مطلع العام الجاري، صادرت وحدات إنفاذ القانون في بوسيا أكثر من 500 كلغ من أرز البسمتي، وضبطت مستودعات تحتوي على 1.7 طن من الأرز المهرب و960 كلغ من القمح، إلى جانب كميات من الصابون ومنتجات الشعر.

لم يعد التهريب مجرد نشاط هامشي، بل اقتصادًا موازيًا يصعب تفكيكه بالوسائل الأمنية وحدها، ويتطلب إصلاحًا هيكليًا على المستويين الجمركي والإداري لإغلاق قنوات التهريب واستعادة السيطرة على الحدود والأسواق.

ولا يقتصر الأمر على السلع الغذائية؛ إذ تمتد الظاهرة إلى قطاعات أخرى مثل: تهريب المعادن والوقود فضلاً عن السجائر، التي أصبحت أحد أبرز أمثلة التهريب المنظّم. فبحسب بيانات هيئة الإيردات الأوغندية، تخسر أوغندا نحو 30 مليار شلن سنويًا (حوالي 7.8 ملايين دولار) بسبب تهريب السجائر غير الخاضعة للضرائب، خاصة من العلامات التجارية القادمة من كينيا وجنوب السودان. وتتم هذه التجارة غير المشروعة أحيانًا بحماية غير مباشرة من مستفيدين محليين، يسهلون مرور البضائع عبر نقاط التفتيش مقابل رشى، ما يجعلها مصدرًا لتمويل شبكات اقتصادية تعمل خارج سلطة الدولة.

تستند قدرة هذه الشبكات إلى منظومة من الأدوات اللوجستية والتحايل الإداري، منها؛ إخفاء البضائع داخل شحنات قانونية، وتزوير الوثائق والفواتير، والتمرير عبر دول الجوار لإضفاء الشرعية، فضلًا عن دفع الرشاوى لتسهيل الحركة أو تعطيل المتابعة. ومع هذا التغلغل الواسع في البنية الاقتصادية والإدارية، لم يعد التهريب مجرد نشاط هامشي، بل اقتصادًا موازيًا يصعب تفكيكه بالوسائل الأمنية وحدها، ويتطلب إصلاحًا هيكليًا على المستويين الجمركي والإداري لإغلاق قنوات التهريب واستعادة السيطرة على الحدود والأسواق.

الفوارق الجمركية في شرق أفريقيا كوقود لاقتصاد التهريب

تعود أسباب انتشار التهريب على حدود أوغندا إلى مجموعة من العوامل، منها ضعف الرقابة الأمنية في النقاط الحدودية، وانعدام الفرص الاقتصادية في القرى المتاخمة للحدود، وصولًا إلى تورط بعض النخب المحلية المستفيدة من التجارة غير الرسمية. ومع ذلك، فإن العامل الأكثر تأثيرًا يبقى الفوارق البنيوية في السياسات الضريبية بين أوغندا ودول الجوار.

تسبّبت الفوارق في السياسات الضريبية بين أوغندا وجيرانها في تحويل الحدود إلى مناطق ضغط اقتصادي يصعب ضبطها. فالنظام الضريبي في أوغندا يُعدّ الأعلى في شرق أفريقيا، ففي الوقت الذي تفرض فيه أوغندا ضرائب ورسومًا جمركية تصل إلى 18٪ على عدد من السلع الأساسية، تبقي كينيا النسبة في حدود 14٪، وبالتالي يتسبب هذا التفاوت في جعل السوق الأوغندية أقل قدرة على المنافسة، ويخلق بيئة خصبة لازدهار تجارة الظل، حيث تتجه المعابر الحدودية إلى أن تكون نقاط جذب للتجار الباحثين عن أرباح سريعة في ظل غياب التنسيق الجمركي والتكامل الاقتصادي الفعّال بين الدول.

لا تقف خسائر أوغندا عند حدود الأرقام التي تُعلنها هيئة الإيرادات، رغم ضخامتها. لكن الأثر الأعمق يتمثل في تشويه بنية الاقتصاد المحلي نفسه

في سياق آخر؛ كشفت مجموعة شرق أفريقيا (EAC) في موازنتها لعام 2025/2026 عن وجود 47 حاجزًا غير جمركي داخل دولها الأعضاء، لم يُحل منها سوى 16 فقط، ما يعني أن أكثر من ثلثي العوائق ما زال قائمًا. وعليه؛ تدفع هذه الحواجز – التي تتراوح بين تراخيص النقل البطيئة والرسوم الإضافية المفروضة على الصادرات – عددًا متزايدًا من التجار إلى الالتفاف حول القنوات الرسمية، والاعتماد على الشبكات غير النظامية التي توفر سرعة في الحركة وضمانات في الوصول للأسواق المجاورة. وفي ظل غياب آلية موحدة لتطبيق اتفاقيات السوق المشتركة، تحوّلت الحدود من خطوط فصل جغرافية إلى نقاط تسرب اقتصادي، تتآكل عندها قدرة الدولة على التحكم في تدفقات السلع.

الخسائر الاقتصادية لأوغندا جراء التهريب

لا تقف خسائر أوغندا عند حدود الأرقام التي تُعلنها هيئة الإيرادات، رغم ضخامتها. لكن الأثر الأعمق يتمثل في تشويه بنية الاقتصاد المحلي. إذ إن السلع المهربة تُباع بأسعار أقل من تلك التي تخضع للجمارك، ما يضعف قدرة التجار النظاميين على المنافسة، ويدفع بعضهم إلى الانضمام إلى السوق غير الرسمية. كما يؤدي التهريب إلى تراجع الإيرادات الحكومية التي تُستخدم عادة في تمويل التعليم والصحة والبنية التحتية.

وتتوالى خسائر كمبالا من أنشطة التهريب عبر الحدود، وتنعكس بشكل جلي على صادرتها الرسمية إلى أسواق مجموعة شرق أفريقيا (EAC)، إذ أظهرت بيانات بنك أوغندا تراجع قيمة الصادرات إلى كينيا وتنزانيا ورواندا وجنوب السودان من 1.88 مليار دولار في الفترة من مايو/ آيار 2023 إلى أبريل/ نيسان 2024 إلى 1.66 مليار دولار، وبين أبريل/نيسان 2024 ومايو/ آيار 2025. ويُعزى هذا الانخفاض إلى الحواجز غير الجمركية والقيود الحمائية والتوترات الجيوسياسية، التي دفعت التجار للجوء إلى القنوات غير الرسمية.

تشير تقديرات إلى أن حكومات شرق أفريقيا تفقد مجتمعةً ما يقارب 1.6 مليار دولار سنويًا من الضرائب غير المحصّلة بسبب التهريب، جزء منها يتحول إلى أرباح مباشرة للجماعات المسلحة، مثل حركة M23،

بعيدًا عن الأرقام، تترك أزمة التهريب آثارًا مؤسسية وسياسية خطيرة. وفقًا لتقرير التقييم الأمني لقوة الشرطة الأوغندية لعام 2024، أدى التوسع في الاقتصاد غير الرسمي إلى نشوء شبكات نفوذ موازية بين المسؤولين المحليين والمهربين، ما أضعف سلطة الدولة في المناطق الحدودية. كما تحوّلت بعض الأسواق الحدودية إلى مراكز مالية غير خاضعة للرقابة، يُتداول فيها الدولار الكيني والفرنك الكونغولي على نطاق واسع.

وفي ظل هذه التحديات، تضطر الحكومة إلى إنفاق موارد إضافية لتأمين الحدود ومكافحة التهريب، دون تحقيق نتائج ملموسة، لتظل الأزمة الاقتصادية الموازية التي يخلقها التهريب تهدد قدرة الدولة على إدارة مواردها والسيطرة على الاقتصاد الرسمي بشكل فعّال.

الامتداد الإقليمي للتهريب وعلاقته بالصراعات في المنطقة

في واقع الأمر، لا يقتصر نشاط التهريب في أوغندا على حدودها الوطنية، بل يمتد عبر شبكة إقليمية معقدة تربط شرق ووسط أفريقيا. وتُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية أبرز وجهة غير رسمية للصادرات الأوغندية، إذ ارتفعت قيمتها من نحو 318 مليون دولار بين مايو/آيار 2023 وأبريل/ نيسان 2024 إلى أكثر من 359 مليون دولار خلال الفترة التالية حتى أبريل/نيسان 2025، وفق بيانات هيئة الإيرادات الأوغندية. ورغم إغلاق كمبالا نقاط حدودية مع كينشاسا في آواخر فبراير/ شباط 2025، إلا أنَّ استمرت عمليات التهريب عبر الحدود دون توقف، ليعكس بذلك مدى توطن هذا النشاط في المناطق الحدودية. ولاحقًا أُعيد فتحها في يوليو/ تموز من العام نفسه.

في إطار آخر، تشير تقديرات إقليمية إلى أن حكومات شرق أفريقيا تفقد مجتمعةً ما يقارب 1.6 مليار دولار سنويًا من الضرائب غير المحصّلة بسبب التهريب، جزء معتبر منها يتحول إلى أرباح مباشرة للجماعات المسلحة، مثل حركة M23، التي تموّل نفسها من فرض "ضرائب" على البضائع والوقود المهرب من أوغندا، وفق بيانات مسؤولين من الجمارك الكونغولية وتقارير المبادرة الدولية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود.

ولا ينحصر التمويل على الوقود؛ إذ يشمل الذهب القادم من مناطق التعدين الصغيرة في غرب أوغندا وشرق الكونغو، والذي يُعاد تصديره من كمبالا على أنه إنتاج محلي، وفق ما أكدته "مجموعة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالكونغو". وتشير التقديرات إلى أن هذه التجارة غير المشروعة تدر مئات الملايين من الدولارات سنويًا، ما يجعلها جزءًا من اقتصاد إقليمي موازٍ يتغذى على الصراع والفوضى، ويمنح الجماعات المسلحة قدرة على الاستمرار، بينما تتحمل المجتمعات المحلية تبعات النزوح والفوضى والعنف.

في ضوء ما تقدم، تكشف تجربة أوغندا مع التهريب عن واقع اقتصادي معقّد يتجاوز فكرة الجريمة المنظمة إلى ظاهرة بنيوية تعيش داخل مؤسسات الدولة نفسها. فشبكات التهريب باتت جزءًا من دورة الاقتصاد اليومي، تحركها الحاجة المعيشية وضعف الرقابة وغياب التنسيق بين الأجهزة، بينما تتحول الخسائر إلى عبء دائم على الموازنة العامة. ومع استمرار الفوارق الضريبية وتواطؤ بعض المسؤولين، يبدو أن الحد من التهريب لن يتحقق بالإجراءات الأمنية وحدها، بل بإصلاح فعلي في السياسات الجمركية وتوفير بدائل اقتصادية للمجتمعات الحدودية التي أصبحت تعتمد على التجارة غير الرسمية كوسيلة بقاء.