تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 17 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

الطفولة في الأدب الأفريقي: سرديات الانكسار والانبعاث

25 مايو, 2025
الصورة
الطفولة في الأدب الأفريقي
Share

لطالما شغل حضور الطفل في الأدب الأفريقي حيّزًا بالغ الأهميّة، ليس فقط بوصفه رمزا للبراءة والبدايات، بل بوصفه مرآة تنعكس فيها مآسي القارّة وصراعاتها السياسيّة والاجتماعيّة والهوياتيّة. الطفل في هذا الأدب ليس مجرّد شخصيّة ثانويّة أو كائن هامشي، بل هو محور تعبيري تُبنى من حوله سرديات تتقاطع فيها الطفولة مع الحرب، والتعليم، والتمييز العرقي، والموروث الثقافي، وتشكّل الهويّة. تكشف هذه الصورة عن تعقيد التجربة الأفريقيّة الحديثة، وتطرح تساؤلات حادّة حول الإنسان والبراءة والمقاومة والذاكرة.

الطفل والرؤية من الداخل

تُعدّ رواية "طفل اسمه نكرة" للكاتب الأمريكي دايف بيلرز واحدة من الروايات التي تتناول مأساة الطفولة بتجريد إنساني قاسٍ، إلّا أنّ النموذج الأفريقي الأكثر تأثيرا في هذا الإطار نجده في رواية "قل إنّك واحد منهم" للكاتب النيجيري أوكيم أكبان التي تقدّم صورة مباشرة أكثر وهمجيّة للطفولة في أفريقيا المعاصرة. تتكوّن الرواية من خمس قصص قصيرة، تسرد أحداثا مأخوذة من الحياة اليومية لأطفال يعانون من الاستغلال الجنسي والفقر والعنف الطائفي في بلدان أفريقيّة مختلفة.

يوظّف أكبان المنظور الطفولي لا ليعزّز من صورة البراءة، بل ليُحدث صدمة أخلاقيّة لدى القارئ، إذ تتحوّل نظرة الطفل للعالم إلى مرآة تعكس الانهيار الاجتماعي والقيمي الذي يفرض على الأطفال أدوارا تفوق قدراتهم 

في قصة "وليمة عيد الميلاد السابق"، نتابع طفلاً يبلغ من العمر ثماني سنوات يعيش في نيروبي، ويعمل في التسوّل لإعالة أسرته، بينما أخته تمارس البغاء، وهي في الثانية عشرة من عمرها. الطفولة هنا تفقد معناها الرمزي، وتُختزل إلى وظيفة اقتصاديّة ضمن واقع مأزوم، وهو ما يعكس بدقّة كيف يتمّ توظيف الطفل داخل الأدب الأفريقي باعتباره أداة فاضحة للأنظمة الاجتماعيّة المختلّة.

يوظّف أكبان المنظور الطفولي لا ليعزّز من صورة البراءة، بل ليُحدث صدمة أخلاقيّة لدى القارئ، إذ تتحوّل نظرة الطفل للعالم إلى مرآة تعكس الانهيار الاجتماعي والقيمي الذي يفرض على الأطفال أدوارا تفوق قدراتهم النفسيّة والعمريّة. ما يجعل هذه التمثيلات أكثر فاعليّة هو ذلك التوتّر بين اللغة البسيطة للسرد وبين بشاعة ما يُسرد.

هذا التوتّر السردي بين شكل الطفولة وجوهر المعاناة هو ما يمنح نصوص مثل "قل إنّك واحد منهم" قوّتها؛ حيث لا تُستخدم الطفولة بكونها مجرّد ضحية بل أداة نقديّة حادة تفضح النظام القائم. يمكن القول إنّ أكبان لا يكتب عن الطفولة بل يكتب من داخلها، وهذه الكتابة الداخليّة هي ما يمنح النص مصداقيّته العاطفيّة والمعرفيّة.

الطفل والحرب

واحدة من أقوى الشهادات الأدبيّة على عبثيّة الحرب في أفريقيا وتأثيرها المباشر على الأطفال هي "رواية طريق طويل: مذكّرات جندي صبي" للكاتب السيراليوني إيشمايل بيه. العمل لا يُصنّف فقط مذكّرات، بل وثيقة أدبيّة ذات طابع سردي تعبيري، تروي تجربة طفل يتمّ تجنيده قسرا للقتال في الحرب الأهليّة التي دمّرت سيراليون في التسعينيات. الطفولة هنا تُغتصب حرفيّا، ليس فقط من حيث فقدان البراءة، بل من حيث إعادة تشكيل هويّة الطفل كقاتل قبل أن يكون كائنا اجتماعيّا.

بيه لا يعرض فقط سردا لواقع الحرب، بل يُعيد - من خلال أسلوبه اللغوي- بناء ذاكرة الطفولة كحقل صراع بين الإنسانيّة والبربريّة
يروي بيه بأسلوب شاعري مفجع تفاصيل تحوّله من طفل يحبّ الموسيقى إلى جندي يقتل دون رحمة. يفقد الطفل هنا صوته لصالح البندقيّة، وينهار الإدراك الزمني للطفولة، فلا يعود هناك فرق بين الليل والنهار، بين اللعب والموت. إنّ هذا التلاشي التدريجي للبراءة يُبرز كيف يصبح الطفل في الأدب الأفريقي ضحيّة مزدوجة: ضحيّة للمجتمع الذي فشل في حمايته، وضحيّة للأنظمة التي تستثمر فيه كأداة حرب.

بيه لا يعرض فقط سردا لواقع الحرب، بل يُعيد -من خلال أسلوبه اللغوي- بناء ذاكرة الطفولة بوصفها حقل صراع بين الإنسانيّة والبربريّة. تمارس اللغة المستخدمة في الرواية اشتغالاً مزدوجا: هي لغة شاعريّة تلامس الوجدان، وفي الوقت نفسه توثيقيّة تُربك القارئ بحقائق صادمة ترويها ذاتٌ كانت في طور التشكّل. 

قيمة النص لا تكمن فقط في التوثيق بل في قدرته على فضح الآليات التي تحوّل الطفولة إلى سلعة حربيّة، حيث يُعاد تشكيل الطفل ليتماشى مع منطق الدولة المتنازعة و"المليشيات"، مما يجعل من الكتابة نفسها فعل مقاومة.

الطفل ضحيّة عنصريّة واستعماريّة

رغم أنّ جيمس بالدوين ليس أفريقيّا بالمعنى الجغرافي، إلّا أنّ أعماله أثّرت في كثير من الكتّاب الأفارقة، وخاصةً في الأدب الناطق بالإنجليزية. في "لا أحد يذكر اسمي" نقرأ شهادات عن العزلة والتمييز، وهي ثيمات استُحضرت بقوة في رواية "الحالات العصبيّة" للكاتبة الزيمبابوية تسيتسي دانغاريمبغا. تقدّم الرواية شخصيّة تامبو، الطفلة الريفيّة التي تسعى إلى التحرّر من سطوة التقاليد والفقر والتعليم الكولونيالي. تحفر الرواية في مفارقة الطفولة الأفريقيّة الممزّقة بين الهويّة الأصليّة والمتطلّبات الحديثة التي غالبا ما تأتي عبر اللغة الإنجليزية، أي لغة المستعمِر.

في مقارنة بين تجربة تامبو وتجربة الطفولة السوداء في أعمال بالدوين نستخلص كون الطفولة السوداء عند بالدوين ودانغاريمبغا هي طفولة "مضادّة للطبيعة"، لأنّها تُجبَر على النضج المبكّر بفعل العنف الرمزي

الطفلة هنا ليست فقط ضحيّة ظروفها الاجتماعيّة، بل ضحية صراع ثقافي وجودي يضعها بين مرآتين: مرآة القبيلة ومرآة الاستعمار. يظهر البعد الوجودي في النص عبر السرد الداخلي وتمزّق الذات بين الأصالة والمعاصرة، البراءة والتلوّث، مما يرسّخ الطفولة كفضاء فلسفي معقّد في الأدب الأفريقي.

تتحوّل اللغة في الرواية إلى أداة استعمار داخليّة؛ حيث تُجبر تامبو على التفكير بلغة المستعمِر من أجل تجاوز فقرها، وهو ما يُفقد الطفولة معناها الطبيعي، ويُحمّلها صراعا لا يُفترض بها أن تتحمّله في هذا العمر المبكّر.

في مقارنة بين تجربة تامبو وتجربة الطفولة السوداء في أعمال بالدوين نستخلص كون الطفولة السوداء عند بالدوين ودانغاريمبغا هي طفولة "مضادّة للطبيعة"، لأنّها تُجبَر على النضج المبكّر بفعل العنف الرمزي الممارس من قبل مؤسّسات الدولة أو المستعمِر أو حتى الأب الذكوري، مما يجعل من الطفولة مساحة نزاع معرفي وجندري وثقافي في آن.

الهوية والانتماء: من الهامش إلى المقاومة

تطرح مسألة الطفل في الأدب الأفريقي سؤالًا جوهريّا حول الهويّة، خاصّة حين يُولد الطفل في بيئة هجينة لغويّا وثقافيّا، أو حين يُربّى في مناطق نزاع حدودي، أو يُفصل عن والديه بسبب اللجوء أو النزوح. هذه الأسئلة تتجلّى بوضوح في رواية "نحتاج إلى أسماء جديدة" للكاتبة الزيمبابوية نوفايوليت بولووايو، حيث تروي تجربة الطفلة دارلينغ، التي تنشأ في حيّ عشوائي بزيمبابوي ثم تهاجر إلى الولايات المتحدة، لتعيش أزمة الانفصال عن الذات واللغة والمكان.

في لحظة مفصليّة من الرواية، تقول دارلينغ: "أحلم بلغة لا أفهمها، وأبكي على أرض لم أعد أعرفها." هذا التمزّق الجوهري يسلّط الضوء على كيف تصبح الطفولة، لا سيما في سياقات الهجرة والنزوح، موقعا مركزيّا لتفكيك الهويّة وإعادة تركيبها. الطفل في هذا السياق لا يتمثّل فقط ككائن يتفاعل مع العالم، بل كمنصّة تعبير عن تعقيدات ما بعد الكولونياليّة، حيث تكون اللغة ذاتها محلّ نزاع.

تمثّل شخصيّة دارلينغ نموذجًا للهويّة العالقة بين الشوق إلى الجذور والانبهار المزيّف بالعالم الجديد؛ حيث تُستبدل اللغة الأم بنسق لغوي مُشوّه ناتج عن ضغط الاندماج القسري.

الطفل هنا ليس ضحيّة، بل مبادر، متمرّد على السياق، يمارس نوعا من "المعرفة البديلة" التي لا تخرج من المدارس بل من الصبر والتجريب اليومي

رغم الصورة المأساويّة التي تطبع غالبيّة تمثيلات الطفل في الأدب الأفريقي، إلّا أن بعض النصوص قدّمت الطفل كرمز للأمل والتجدّد. في رواية "الطفل الذي سخّر الرياح" للكاتب والمهندس المالاوي ويليام كامكوامبا، يستعرض الكاتب تجربة حقيقيّة لفتى من مالاوي استطاع، رغم الفقر المدقع، أن يبني "توربينًا" يعمل بطاقة الرياح، ويزوّد قريته بالكهرباء. الطفل هنا ليس ضحيّة، بل مبادر، متمرّد على السياق، يمارس نوعا من "المعرفة البديلة" التي لا تخرج من المدارس بل من الصبر والتجريب اليومي.

رواية كامكوامبا تعيد تأطير صورة الطفل الأفريقي من كائن هامشي إلى فاعل معرفي، حيث يُعاد بناء مفهوم الذكاء من خلال العمل اليدوي المرتبط بالمجتمع، وليس بالمنظومات التعليميّة الغربيّة. وتُشير إلى أنّ الطفل يصبح أداة لمقاومة الفقر لا عبر التمرّد الخطابي، بل عبر تحويل الجسد والبيئة إلى أدوات إنتاجيّة. 

تُظهر القراءة التحليلية لتمثيلات الطفل في الأدب الأفريقي كيف أنّ الطفولة ليست مجرّد مرحلة عابرة في مسار السرد، بل فضاء دلالي خصب تتقاطع فيه الأسئلة الكبرى حول الهويّة والاستعمار والحرب واللغة والانتماء. الطفل في هذه المتون ليس صورة بريئة منفصلة عن السياق، بل هو تجلٍ مكثّف للتاريخ والمجتمع والسياسة. من الطفل المجنّد في سيراليون إلى الطفلة الممزّقة بين لغتين في زيمبابوي، ومن الهامش الأمريكي إلى قُرى مالاوي الفقيرة، تكشف هذه النصوص عن مركزيّة الطفولة بوصفها مرآة للواقع الأفريقي ومختبرا للتحوّل.

لعلّ ما يميّز هذه الكتابات هو قدرتها على إعادة بناء مفهوم "الضحيّة"، ليس بوصفه موقعا للضعف، بل بوصفه إمكانا للتجاوز والتشكّل الجديد. كما تكشف هذه النصوص عن حضور واضح لما يمكن تسميته بـ"المخيال الطفولي المقاوم"، حيث يتحوّل الطفل إلى فاعل ثقافي ومعرفي، يُنتج المعنى ويقترح بديلاً، سواء من خلال اللغة أو من خلال التكنولوجيا أو حتى عبر التمرّد الساخر.

إنّ إعادة التفكير في الطفولة من هذا المنظور لا تفتح فقط آفاقًا جديدة في النقد الأدبي، بل تفرض أيضًا مساءلة جذريّة للأنساق الاجتماعيّة والسياسيّة التي تنتج هذه الطفولة وتعيد إنتاجها داخل المتخيّل الأدبي. وهو ما يدعو إلى مزيد من البحث في تقاطعات الطفولة مع الجندر، الطبقة، الذاكرة، والشتات في سياقات أفريقيّة متعدّدة.