الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
غادرَ محمد أحمد نور، البالغ من العمر خمسين عامًا، منزله في بلدة قُرَعْلي (Quracley) بإقليم هيران يوم 30 كانون الثاني/يناير 2023. لمحَ طائراتٍ مسيّرة تحوم في السماء، ولم يُعرْها كبيرَ اهتمام؛ فالمشهد بات مألوفًا في البلدة الخاضعة لسيطرة حركة الشباب. كان يحضر جنازةً في منطقة مجاورة حين وصله خبرُ الضربة الجوية، هرع عائدًا إلى بيته، ليواجه مشهدًا يفوق الاحتمال.
يقول نور لمجلّة فورين بوليسي في آذار/مارس: "رأيتُ أشلاءً متفحّمة لشبابٍ -بينهم أولادي- لا تزال تدخن. كانت البقايا متناثرةً حول الشجرة". ويضيف أنّ بضعة مقاتلين من حركة الشباب كانوا في المكان ساعةَ وصوله، ويبدو أنهم حاولوا التعرّف إلى هويات القتلى. وما إن اتّضح أن الضحايا ليسوا مقاتلين بل فتيانا صغارا، حتى انسحبوا.
استنجد نور بأهالي البلدة لجمع الأشلاء: "وصلَ 12 شخصًا، وأخذوا يُلْتقطون أجزاء الأجساد قطعةً قطعةً ثم نضعها في أكياس"؛ ثم يضيف "لم أستطع تغسيل جثامين أولادي وفق الأحكام الإسلامية، فقد تمزّقت أجسادهم إربًا".
أسفرت الضربة عن مقتل سبعة شبّان، خمسةٌ منهم قُصّر. ومن بين الضحايا ثلاثةٌ من أبناء نور: أحمد محمد نور (20 عامًا)، وعبد القادر محمد نور (18 عامًا)، وقيس محمد نور (8 أعوام). كما قضى ابنُ شقيقه (17 عامًا)، إضافةً إلى فتيان في الثالثة عشرة والرابعة عشرة والحادية عشرة من العمر.
تخوض تركيا حربًا بالطائرات المسيّرة ضدّ حركة الشباب في الصومال من خلال قيادةٍ مشتركةٍ مع وكالة الاستخبارات والأمن الوطني الصومالية (NISA)، كما تشارك الولايات المتحدة والإمارات العربية كذلك في عمليات المسيّرات داخل الصومال. تُنفَّذ الضربات بناءً على طلب نيسا: تزوّد الوكالةُ أنقرة بالمعلومات عن الأهداف، فتتولّى تركيا التنفيذ. وبحسب مسؤولَين رفيعَين في الاستخبارات الصومالية مقيمين في مقديشو، سارت ضربة قُرَعْلي على هذا المنوال، كما تحدّث المسؤولان بشرط عدم الكشف عن هويتهما لعدم تخويلهما الحق بالتصريح للإعلام.
منذ ضربة قُرَعْلي، يُتهم الجيش التركي -بحسب رواياتٍ محلية- بشنّ مزيدٍ من الغارات التي أوقعت قتلى مدنيين. كما انتشر استخدام المسيّرات التركية، سواء بيد أنقرة أو بيد دولٍ تدعمها، في أرجاء أفريقيا: من الساحل إلى ليبيا، وصولًا إلى إثيوبيا.
في الصومال، بدأ المسار بتدخّلٍ إنسانيّ عام 2011 لإنقاذ الأرواح إبّان المجاعة، لينتهي إلى رسوخٍ عميقٍ للحضور التركي في البنية الأمنية للدولة. ومع احتدام حرب أنقرة مع حليف القاعدة الأقوى -حركة الشباب- يدفع المدنيون الثمن الأفدح. يقول نور: "أقربُ نقطةٍ لحركة الشباب تبعد كيلومترين فقط، ومع ذلك قصفونا. أولادي لم يستحقّوا هذا".
بالنسبة إلى تركيا، كانت مجاعةُ 2011 التي أدّت إلى وفاة نحو 250 ألف شخص بوابةً إلى القرن الأفريقي ذي الأهمية الاستراتيجية؛ وما لبثت الجمعيات والمنظمات والشركات التركية أن توافدت إلى البلاد. يقول جيثرو نورمان، الباحث الأوّل في المعهد الدانماركي للدراسات الدولية: "ما بدأ قوّةً ناعمةً أصيلة، تطوّر بلا ريب إلى مشروعٍ أشدّ استراتيجيةً. فالصومال عقدةٌ واضحة في طموحات أنقرة الجيوسياسية الأوسع -ما وُصِف بطموحاتها "العثمانية الجديدة" لإعادة بسط النفوذ التركي في القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر".
ومع دعم أنقرة لحكومة مقديشو، تعمّق انخراطُها في مجهودها الحربي ضدّ حركة الشباب. ترى تركيا في جماعاتٍ مثل الحركة تهديدًا لمصالحها ولحلفائها في العاصمة، حيث تتخبّط حكومةٌ هشّةٌ -على الرغم من الاعتراف الدولي بها- في حربٍ ممتدّة منذ نحو عقدين. وردّت الحركة بشراسة، إذ قال ناطقٌ باسمها: "الناتو أكبر أعداء المسلمين، وتركيا جزءٌ منه. الناتو اتحادٌ للمسيحيين". وقد استهدفت تفجيراتٌ انتحارية موظّفي السفارة التركية، وهاجمت قافلةَ مهندسين أتراكٍ لبناء الطرق، وقتلت أخيرًا عاملَ إغاثةٍ تركيً.
"ما بدأ قوّةً ناعمةً أصيلة، تطوّر بلا ريب إلى مشروعٍ أشدّ استراتيجيةً. فالصومال عقدةٌ واضحة في طموحات أنقرة الجيوسياسية الأوسع -ما وُصِف بطموحاتها "العثمانية الجديدة" لإعادة بسط النفوذ التركي في القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر"
ترى أنقرة أنّ بقاء الحكومة في مقديشو مفتاحٌ لحماية مصالحها في البلاد والمنطقة. ففي نيسان/أبريل من هذا العام، ومع تزايد المخاوف من انهيار الحكومة مع تقدّم حركة الشباب نحو العاصمة، نشرت قرابةَ 500 جنديّ في مقديشو لحماية أصولها -ومنها أكبرُ قاعدةٍ عسكريةٍ تركيةٍ في الخارج، الواقعة في مرفأ المدينة- وشمل الانتشار عناصرَ أمنيةً تركيةً تُشغّل طائراتٍ مسيّرةً مسلّحة.
امتدّ النفوذ التركيّ إلى مختلف مناحي الحياة: افتتحت أنقرة مدارسَ عبر جمعياتها ومنظّماتها غير الحكومية، فيما تبني شركاتٌ تركيةٌ الطرقَ والمستشفيات ودور الأيتام، وقدّمت الحكومةُ التركية آلافَ المنح الأكاديمية لطلابٍ صوماليّين للدراسة في تركيا. إضافة لذلك، نالت شركاتٌ تركية حقوق إدارة بنى تحتيةٍ سياديةٍ حيوية: ففي 2013 حازت شركة فافوري (Favori LLC) المدعومة من الدولة بامتيازٍ لمدّة 20 عامًا لتشغيل مطار مقديشو، وفي 2014 حازت مجموعة ألبيرق - (Albayrak)ومقرّها أنقرة- امتيازًا مماثلًا لإدارة مرفأ العاصمة.
على أن هذا «الاستحواذ» المتدرّج يثير أسئلةً جدّيةً غير مجابة -خاصةً في ما يتّصل بتقاسم الأرباح، والتوظيف المحلي، والتحكّم طويل الأمد، والسيادة على أصول الدولة. ففي عام 2024، اتّهم النائبُ العامُ الصومالي الشركتين التركيتين اللتين تُديران المطارَ والميناءَ بمخالفة اتفاقات تقاسم الأرباح. كما فشلتا في تقديم التقارير المالية المطلوبة عقبَ تدقيقاتٍ مستقلّة، ما حال دون تمكّن الحكومة من تثبيت حصّتها المستحقّة من عائدات هذين المرفقين الحيويَّين، وأدّى -بحسب النائب العام- إلى احتمالات خسارة ملايين الدولارات الضرورية لنموّ الاقتصاد.
لا يقتصر النفوذ الجيوسياسي لتركيا على الاقتصاد؛ فهو يمتدّ إلى الشأن الأمني أيضًا. ففي 2017 أنشأت أنقرة أكبرَ قاعدةٍ عسكريةٍ لها خارج البلاد في العاصمة، ودَرّبت خلال الأعوام التالية آلافَ الجنود الصوماليّين للمشاركة في الحرب على حركة الشباب. وإلى جانب حملتها الجوية، زوّدت الحكومةَ الصومالية بمروحيّاتٍ وقوّاتٍ على الأرض -ومنها انتشار أبريل المذكور.
"تكشف عملياتُ تركيا بالطائرات المسيّرة في الصومال تحوّلًا عالميًا أوسع في استخدام المسيّرات؛ فلم تَعُدْ حربُ المسيّرات أداةَ السياسة الخارجية الأميركية وحدها، بل باتت عنصرًا متزايد المركزية في الاستراتيجية الدولية لتركيا أيضًا"
أضحت تركيا رابعَ أكبرِ مصدّر سلاحٍ إلى أفريقيا جنوب الصحراء. وبما أنّ صادرات المسيّرات تمثّل جزءًا مهمًّا من مبيعاتها، باتت طائرات «بيرقدار» و«أقنجي» في متناول حكوماتٍ في الساحل والقرن الأفريقي. لكنّ غياب الشفافية عن ضربات المسيّرات التي تنفّذها تركيا يتيح للجماعات المسلّحة المستهدَفة استثمارَ الغضب الشعبيّ وآلام المجتمعات المنكوبة.
في 2024، أصدرت «منظمة العفو الدولية» تقريرًا يزعم أنّ الحكومة التركية ربما ارتكبت «جرائم حرب» في الصومال بعد أن قصفت مسيّراتٌ تركية تجمّعًا زراعيًا، فقتلت 23 مدنيًا -بينهم 14 طفلًا. وقد عُثِر لاحقًا على ذخائر تركيةٍ في مسرح الضربة، بما يُشير إلى تورّط أنقرة في عمليات القتل الجماعي. ومع ذلك، لم تُسجّل محاسبةٌ على تلك الضربة، ولا على ضربة قُرَعْلي. ويرجع هذا جزئيًا إلى أنّ هذه الهجمات تقع غالبًا إمّا في مناطقَ خاضعةٍ لحركة الشباب، وإمّا في مناطق «لا صاحبَ لها» خارجَ سيطرة الطرفين، حيث تكاد قواعد الاشتباك تنعدم.
يقول نورمان: "تكشف عملياتُ تركيا بالطائرات المسيّرة في الصومال تحوّلًا عالميًا أوسع في استخدام المسيّرات؛ فلم تَعُدْ حربُ المسيّرات أداةَ السياسة الخارجية الأميركية وحدها، بل باتت عنصرًا متزايد المركزية في الاستراتيجية الدولية لتركيا أيضًا". ويسمّي الباحثُ ذلك «دبلوماسية المسيّرات»: تقاطعًا خطِرًا بين تكنولوجيا قاتلة وطموحٍ جيوسياسي وتجارةِ سلاح.
تمثّل هذه السياسات بالنسبة إلى تركيا ركنًا حاسمًا في استراتيجيةٍ أوسع لتنويع مصادر الطاقة، وتعزيز النفوذ الجيوسياسي، وإبراز القوّة خارج المجال التقليدي. يقول عمر محمود، كبيرُ محلّلي الصومال والقرن الأفريقي في «مجموعة الأزمات الدولية»: "بوصفه بلدًا أضعفَ ويواجه مخاطرَ أمنيةً كبيرة، يضطرّ الصومالُ إلى بذل المزيد لاستقطاب الاستثمار الخارجي، وهذا قد يعني تقديم شروطٍ مُيسَّرة".
في 1993 صاغ الاقتصادي البريطاني ريتشارد م. أوتي مصطلح «لعنة الموارد» للإشارة إلى أنّ البلدان الغنية بالثروات غالبًا ما تتطوّر ببطءٍ أكبر وبقدرٍ أعلى من الفساد والعنف. والصومال ليس استثناءً؛ إذ إن تعاظم اعتماد مقديشو على أنقرة يمنح تركيا نفوذًا واسعًا في الشأن الصومالي ويُبعد منافسين محتملين.
عام 2024، وقّعت تركيا اتفاقًا مع الصومال لاستكشاف النفط في البلوكات البحرية، ثم وقّعت في العام التالي اتفاقًا آخر للاستكشاف في البلوكات البرّية. يقول محمود: "يرجّح أن يرتبط الدعمُ الأمني التركيّ للحكومة الصومالية باستراتيجيتها الشاملة". لكنّ الحكومة الصومالية لا تحتكر استخدامَ القوّة في سائر أنحاء البلاد، ومع أنّ معظم المناطق لا تخضع لسلطة حكومةِ مقديشو المعترف بها دوليًا، فقد باتت الدولة تعتمد على حربِ المسيّرات الخارجية لمواجهة ما تعتبره تهديدات.
عبدي الواحد أبوكر- سائقُ حافلةٍ صغيرةٍ لنقل الركّاب بين بلدة مبارك الخاضعة لحركة الشباب وبلدة أفغوي الخاضعة للحكومة في إقليم شبيلي السفلى- وقع في شِراك ضربةٍ تركيةٍ بمسيّرةٍ يوم 9 أيلول/سبتمبر 2022. في ذلك اليوم، كان أبوكر بين عشراتٍ من سائقي الشاحنات والبائعين الجائلين المجتمعين في محطة الحافلات بمبارك لحلّ نزاعٍ عماليّ. ومع اقتراب الغروب، استُهدف الاجتماع -على ما يبدو- بضربةٍ جديدةٍ لمسيّرةٍ تركية.
حين انقشع الدخان، كانت الجثث ممدّدةً على التراب، والجرحى يستغيثون. قُتل تسعةُ أشخاصٍ وأُصيب 17 أخرين. واستغرق تعافي أبوكر أشهُرًا طويلة. تواصلت فورين بوليسي مع السفارة التركية في مقديشو، والمديريةِ العامة لشؤون شرق وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية التركية، ونائبِ المديرية العامة للإعلام في الوزارة، والمبعوثِ التركي الخاص إلى الصومال وصوماليلاند بشأن ضربتَي قُرَعْلي ومبارك المنسوبتين إلى تركيا -لكنها لم تتلقَّ ردًّا.
ومع ترسّخ الحضور التركي أكثر في الصومال، يُرجَّح أن تزداد ضرباتُ مسيّراته مع استمرار الحرب ضدّ حركة الشباب المرتبطة بالقاعدة، وسيدفع مدنيّون بسطاء مثل أبوكر الثمن.