تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
كتب

"السُّمّ البطيء" لمحمود ممداني: قراءة مُغايرة لإرث عيدي أمين

19 أكتوبر, 2025
الصورة
"السُّمّ البطيء" لمحمود ممداني: قراءة مُغايرة لإرث عيدي أمين
Share

أصدر محمود ممداني كتابًا صادمًا؛ ليس لرشاقة أسلوبه أو ابتكار بنائه، بل لأنّه ينهض بمرافعةٍ تبريريةٍ نادرة لعيدي أمين، الطاغية الأوغندي الذي ارتبط اسمه في الذاكرة الحديثة بالدم والذعر. في "السُّمّ البطيء" (Slow Poison) يمزج ممداني تأملاته الشخصية بالسرد السياسي ليقترح قراءة مناقضة للسردية السائدة، فعيدي أمين، في نظره، ليس "جزّار أوغندا" بقدر ما هو زعيمٌ مناهضٌ للاستعمار سعى إلى تخليص بلاده من إرث الإمبراطورية البريطانية.

منذ عام 1971، حين أطاحَ بالرئيس ميلتون أوبوتي وتربّع على عرش السلطة، وحتى سقوطه عام 1979، حكم عيدي أمين (1928–2003) أوغندا بالحديد والنار. وخلال تلك السنوات حظي بدعمٍ متقلّب من ليبيا معمر القذافي، وحتى من إسرائيل التي دفعتها عزلتها الإقليمية يومذاك إلى مغازلة الرجل القوي في كامبالا. اتّسم عهده بفسادٍ مستشرٍ وانتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان، ويُقدَّر أنّ نحو نصف مليون إنسان قضوا في زمنه، وهو ما أكسبه لقب "جزّار أوغندا".

ومع ذلك، يستهلّ ممداني كتابه بدعوة القارئ إلى "التخلّص من بعض التصورات المسبقة التي غدتها وسائل الإعلام". وأول هذه التصورات، بحسبه، أنّ أمين كان "حضورًا هتلريًا في أفريقيا"، ويُصرّ على نفي ذلك، زاعمًا أنّ "التصريحات الهتلرية" التي أطلقها أمين، وأنماط "التَّهريج العلني بوصفه أداءً سياسيًا"، كإعلانه نفسه "ملك اسكتلندا" و"فاتح الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا عمومًا وأوغندا خصوصًا" لم تكن سوى استراتيجية شعبوية ترمي محو بقايا الاستعمار من المجال العام. ووفق هذا المنطق، تُبتلع فظائع النظام بوصفها "أثمانًا" لمشروعٍ وطنيٍّ وليد.

يتبدّى بوضوح عداؤه لأميركا ونفوره من الغرب ذي السوق الحرّة، وهما سمتان تطبعان أحكامه على أمين وموسيفيني معًا

ثم ينتقل ممداني إلى التصوّر الثاني الذي يدعو القارئ إلى الحذر منه، وهو الاعتقاد بأن يوري موسيفيني -الذي ظلّ ممسكًا بمقاليد الحكم تسعةً وثلاثين عامًا الأخيرة، وربما لسنوات أخرى قادمة إن أُتيح له- أنقد أوغندا. يصف الكاتب هذا الاعتقاد بأنه "رجل قش مختلَق؛ فقلّ من يخلع على موسيفيني هالة الرجل الصالح، ومع ذلك، يرى ممداني أن فتح موسيفيني البلاد أمام رأس المال الدولي خطيئة أفدح من أي مجزرة نُسبت إلى أمين. بل يذهب أبعد حين يتناول قرار أمين عام 1972 بطرد جميع الأوغنديين من أصولٍ آسيوية، وهي خطوةٌ لقيت استحسانًا واسعًا لدى الأغلبية السوداء، لكنها أفقرَت البلاد على نحوٍ هائل. يومها آلت المصانع والمزارع والمتاجر إلى حساب النظام، وكان الآسيويون عماد الإدارة الاقتصادية، فأسقطها المترَفون من المقرّبين المعروفون بالسواحيلية باسم «mafuta mingi»، وتعني "الذين يقطرون دهونًا"، ودخلت المنظومة حالة شللٍ عام، حتى نفد الحليب من الأسواق بعد ذبح أبقار الألبان طلبًا للّحم.

أما ممداني نفسه، أستاذُ الحوكمة والأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، من أصولٍ آسيوية أوغندية ومن أبناء الجاليات القادمة من الهند البريطانية التي استقرت في المحمية آنذاك، فقد تَشكّل وعيه السياسي في بيئة اليسار الماركسي في العالم الثالث، إبّان تفكك الاستعمار وما صحبه من فوضى وعنف. وهو أيضًا والدُ زهران ممداني، مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك؛ صلةٌ لا تفوّت الصحافة الأميركية عادةً الإشارةَ إليها.

في كتابه "المسلم الصالح والمسلم الطالح" الصادر بعد ثلاث سنوات من هجمات 11 سبتمبر/أيلول، يكتب ممداني الأب أنّ "علينا أن نُقِرّ بأنّ المفجِّر الانتحاري، قبل أيّ وصف آخر، يُعدّ فئةً من الجنود". محذّرًا من "وصم التفجير الانتحاري بوصفه علامةً على الهمجية". وفي كتابه "لا مستوطن ولا مواطن" (2020) يصف إسرائيل بأنها دولةً يتجلّى فيها "محو غير اليهود" بأوجهٍ متعدّدة: تطهيرٌ عِرقي واقتلاع وفصل وتفتيت ونظام أبارتهايد، وإنكارٌ للهوية، (ولا يبدو زهران الابن ودودًا تجاه إسرائيل هو الآخر).

يختزل الفارق بين الرجلين إلى معيار الحسّ الوطني؛ فأمين اختار الابتعاد عن الغرب حين أدرك أنه مُطالَب بأن يكون "دميةً ممتنّة"، فيما انصاع موسيفيني لشروط الانضباط المالي التي فرضها صندوق النقد الدولي أمام شحّ الموارد، وانتهى إلى موقعٍ تبعي

هذه المواقف تندرج في مسارٍ أوسع من سيرة المؤلف؛ فقد شارك، وهو أستاذٌ في كامبالا عام 1981، في تأسيس جمعية الصداقة الأوغندية-الكورية. وأيُّ كوريا بالتحديد؟ أخذته تلك "الصداقة" إلى بيونغ يانغ. وفي الكتاب يقتبس بلا مواربة من تقريرٍ شارك في صياغته بعد الزيارة: "ما أدهشنا منذ البداية هو التعبئة الهائلة للسكان. يتحرّك أطفال المدارس في طوابير منضبطة، ذهابًا وإيابًا، مردّدين الأناشيد"، وعند المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين سأله مرافقٌ كوري شمالي: أترغب في الهتاف "Yankee go home"؛ (يا يانكي عودوا إلى دياركم)؟ فأجاب ممداني: "لا، سأهتف بذلك في موطني، كامبالا"، هنا يتبدّى بوضوح عداؤه لأميركا ونفوره من الغرب ذي السوق الحرّة، وهما سمتان تطبعان أحكامه على أمين وموسيفيني معًا.

يمضي ممداني إلى القول إنّ أمين "يجوز اعتباره بحقّ أبَ الأمة الأوغندية"، "أمّة سوداء". ويوظّف قرارَ طرد الأوغنديين الآسيويين في خدمة سرديةِ تأسيسٍ قوميٍّ إثني، فيصوّرهم "شعبًا أسيرًا لدى نخبةٍ تجاريةٍ متضخمة الذات". كما يشير إلى أثرٍ خارجيٍّ مباشر لتلك الخطوة تتمثل في الضغط على الحكومة البريطانية التي اضطُرّت إلى استقبال ثمانين ألف لاجئ آسيوي، في وقتٍ كانت فيه التوترات العرقية آخذةً في التصاعد داخل بريطانيا.

استراتيجية شعبوية ترمي محو بقايا الاستعمار من المجال العام. ووفق هذا المنطق، تُبتلع فظائع النظام بوصفها "أثمانًا" لمشروعٍ وطنيٍّ وليد

في المقابل، يقدّم ممداني موسيفيني بوصفه من فكّك "الأمّة التي بناها" أمين حين "خضع للانضباط المالي" الذي فرضه صندوق النقد الدولي والغرب. ويختزل الفارق بين الرجلين إلى معيار الحسّ الوطني؛ فأمين، حسب رأيه، اختار الابتعاد عن الغرب حين أدرك أنه مُطالَب بأن يكون "دميةً ممتنّة"، فيما انصاع موسيفيني لشروط الانضباط المالي التي فرضها صندوق النقد الدولي أمام شحّ الموارد، وانتهى إلى موقعٍ تبعي. وبهذه المعادلة يُغدو إفقارُ أمين لبلاده "نبيلاً" بذريعة مناهضة الاستعمار، فيما يبدو سعي موسيفيني إلى إعادة هيكلة الاقتصاد بوصفها خضوعًا لرأس المال الدولي.

يفرد المؤلِّف فقرةً يتيمة لابنه زهران في الكتاب كلّه. يروي إجازةً أكاديمية قضاها بعيدًا عن كولومبيا عام 2004 في كامبالا، رافقته فيها زوجته وابنه الذي كان في الثانية عشرة. انتُزع الفتى من مدرسته في نيويورك ليلتحق بوالده في أفريقيا، وما يسهل تخيّله مغامرةً مدهشة سرعان ما يتبدّد حين يكتب ممداني أنّ زهران "انهمك في دراسة مسائل مثل "zero grazing"؛ وهو نمط من تربية الماشية تُقصّ فيه الأعشاب لتُقدَّم علفًا في الحظائر. قد يبعث هذا التفصيل على ابتسامةٍ لا تخلو من مرارة، أيُّ مراهقٍ يودّ أن يُنتزع من عالمه ليغوص في تفاصيل أعلاف المواشي؟ ورغم ذلك الانقباض الذي يساورك على طفلٍ في الثانية عشرة يدرس "التربية بالحجز" في كامبالا، قد تشعر أيضا أنك تفهم زهران أكثر: ليس سهلًا أن تكون ابنًا لرجلٍ يملك هذه الصرامة الفكريةو وهذه القدرة على إعادة تأويل العالم، وربما الأشخاص، وفق منظوره الخاص.