تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 17 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

الصوفية في الصومال: زوايا للعبادة وفضاءات للتغيير الاجتماعي

11 ديسمبر, 2024
الصورة
Geeska cover
Share

يسعى التصوف إلى تزكية النفس والارتقاء الروحي من خلال رياضة النفس، واتباع كلام توجيهات شيوخ وما فيها من الحفاظ على الأوراد. ولا شك ان التصوف، في الصومال، يُعد جزءًا لا يتجزأ من الهوية الدينية والاجتماعية، حيث تتبع الغالبية طرقًا صوفية متنوعة مثل: القادرية والأحمدية والصالحية. وخلافا لما يبدو بأول النظر، فإن التصوف لم يقتصر على الجوانب الروحية فقط، بل شمل التعليم والإصلاح الاجتماعي بل للتصوف أدوارا طلائعية في المقاومة السياسية.

علاوة على ذلك، فقد كان للتصوف القِدْح المُعَلَّى في نشر الإسلام وتعزيز القيم الروحية والاجتماعية. وتشير الدراسات إلى أن الطريقة القادرية هي أحد أقدم الطرق الصوفية، حيث أسهمت في تعليم المسلمين وتوحيد المجتمعات، تليها الطريقة الأحمدية التي تبنت إصلاحات شرعية، ثم الصالحية التي ارتبطت بالمقاومة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني والإيطالي بقيادة الشيخ محمد عبد الله حسن.

لم تكن الزوايا الصوفية في الصومال مجرد زوايا للتبتل والعبادة كما أسلفنا، بل كانت قِبلة تعليمية وتربوية، تقدّم الإرشاد الديني والخدمات الاجتماعية. ساهمت في تربية أجيال على قيم التسامح والعدل والزهد، وشكلت جناح يكتنف الفقراء والمهمشين. كما لعب شيوخ الطرق دورًا رياديا بوصفهم وسطاء في النزاعات، ومعلمين ومرشدين، الشيء الذي جعلهم شخصيات ذات تأثير واسع في المجتمع.
ومع ظهور الدولة الحديثة في ستينيات القرن الماضي، واجه التصوف نقدًا لاذعًا من قبل التيارات السلفية، التي اعتبرت بعض ممارساته، مثل التوسل بالأضرحة، انحرافًا عن الدين القويم. وتفاقم هذا التراجع خلال الحرب الأهلية في التسعينيات، حيث أصبحت الطرق الصوفية أقل تأثيرًا مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى التي ركزت على التعليم والإغاثة.

لم تكن القارة الأفريقية بعيدة عن هذا التفاعل؛ فقد كان التصوف جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلدان الأفريقية. وفي هذا السياق، سنستعرض أولاً بعض القضايا المتعلقة بأدوار التصوف في الحياة الدينية والاجتماعية لمتصوفي شرق وشمال وغرب القارة. ثم نتناول التصوف بوصفه مفهوماً إنسانياً وأخلاقياً. بعد ذلك، نسلط الضوء على النشاط الصوفي في الصومال بشكل خاص، لنتحدث في خطوة لاحقة عن تراجع دور التصوف في هذا البلد. وأخيراً، نتساءل مع محمد عابد الجابري عن مدى صحة استقالة العقل الصوفي عن الوعي الجمعي؟

أدوار التصوف في الحياة الدينية والاجتماعية

تعد المدارس الصوفية في أفريقيا، ركيزة أساسية في الحياة الدينية والاجتماعية في العديد من بلدان شرق وشمال وغرب القارة. وكان الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني من أبرز الشخصيات التي أسهمت في هذا الانتشار، إذ نشأت الطريقة القادرية بناءً على تعاليمه في بغداد. وكذلك الشيخ أحمد التيجاني الذي أسس الطريقة التيجانية التي انتشرت بشكل واسع في أفريقيا الغربية.

ترتبط هذه المدارس ارتباطاً وثيقاً بالواقع الاجتماعي، حيث كان للصوفية دور كبير في معالجة قضايا المجتمع، بما في ذلك الجهاد ضد الاستعمار والترويج لقيم وتعاليم الإسلام. وكانت الطرق الصوفية تشجع على تعليم المسلمين في الزوايا، التي لم تكن مجرد مزارات دينية تحتضن ضريح شيخ الزاوية، بل كانت بمثابة معهد ديني، وتحولت في الكثير من الأحيان إلى حصون يتحصن فيه الناس ضد كل هجوم غريب.

تتجلى أهمية التصوف في المجتمع في دوره التربوي والروحي، حيث يساهم في تزكية النفوس، ما يؤدي إلى تكوين أفراد متوازنين أخلاقيًا وروحيًا. يشمل ذلك تعليم الشيخ لمريديه كيفية الالتزام بتعاليم الدين، والتفاعل مع المجتمع بشكل إيجابي وفاعل. هذا التوجه ينعكس في تشجيعهم على الاستقامة وتطبيق تعاليم الإسلام دون التعلق بالكرامات فقط، بذلك يكون التصوف معززا للتوازن بين الروح والجسد ومسهما في إصلاح المجتمع من خلال الأخلاق الفاضلة.

التصوف بوصفه مفهوما إنسانيا وأخلاقيا

إن التصوف ليس مجرد التزام بالأوامر والأحكام وغيرها من تراتيب الأحكام؛ إنه حالة روحية شاملة تعكس الصفاء الباطني والتوجه الصادق نحو الله. إن التصوف ارتباطٌ وجوديٌّ بين الإنسان وخالقه، يجمع بين الخوف من الله والرجاء فيه. هذه الحالة تُعبّر عن "مراقبة القلب ومراعاتها" والوعي المستمر بحضور الله؛ إن ذلك انعكاس لسلوك ينبني أساسا على تقوى الله أو الزهد، الشيء الذي يجعل كلا هذين المفهومين: "التقوى" و"الزهد" محورًا مركزيًا في طريق المريد، حيث يسعى السالك إلى تهذيب نفسه ومحاسبتها وصولًا إلى مقام الإحسان.
إن التقوى ليست حكرًا على جماعة أو زمان؛ بل هي دعوة شاملة لبني الإنسان، متجاوزة الحدود الدينية والاجتماعية، ما يعكس البعد الكوني الذي يتبناه التصوف منهجا أخلاقيا وروحيا.

التقوى في التصوف، ليست فعلاً ظاهريًا فقط، بل هي حالة نفسية تنبع من الداخل وتتحقق بالإرادة الصادقة والصفاء القلبي. إنها بصيرة، وتدفع السالك للسير في الطريق الروحي بثبات.

يرتبط هذا المفهوم بجوهر التصوف الذي يُعنى بتحقيق السكينة القلبية وراحة الضمير من خلال تهذيب النفس وتعزيز الأخلاق كالصبر والعفو والعدل. وهكذا، تغدو التقوى في التصوف أساسًا للطمأنينة الروحية، وتجليًا لحالة النفس المطمئنة التي يطمح إليها السالك، وصولًا إلى مرتبة الرضا واليقين بالله.

النشاط الصوفي في الصومال

لم تعرف الصومال بدايات المد الصوفي قبل القرن الخامس العشر ميلادي؛ إلا أن من المفترض أن توسع الإسلام في البلاد عبر النشاط الصوفي أسهم في نشر الدين وتعليم أصوله، إلى جانب الحفاظ على تماسك المجتمع الصومالي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. إن الطرق الصوفية مثل القادرية، أصبحت أكثر الطرق انتشارًا في الصومال، حيث أسهمت في نشر الثقافة الإسلامية والتعليم عبر إنشاء مراكز دينية، بل وجاءت لتكون أحد أعمدة الحياة الاجتماعية في مختلف المناطق.

لقد تمكنت الطرق الصوفية من السيطرة على الساحة الدينية في الصومال من خلال تنظيماتها المختلفة. ظهر نوعان من الطرق: الأولى الطرق التقليدية مثل القادرية، التي كانت تتمتع بإدارة لامركزية، والثانية كانت الطرق الأكثر مركزية التي تأثرت بالحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل الأحمدية والصالحية. قدمت الطريقة الأحمدية التي أسسها السيد أحمد بن إدريس مثلا نهجًا إصلاحيًا، سعى إلى العودة إلى الأصول الشرعية ورفض البدع، مما جعلها تلقى قبولًا واسعًا خاصة في جنوب الصومال.

أدى شيوخ الطرق الصوفية وظائف محورية في الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث كانوا بمثابة مرشدين دينيين ومعلمين وأطباء، بل كانوا وسطاء في النزاعات. وساعدوا من خلال هذه الوظائف، في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في الصومال، حيث كانت مراكزهم الصوفية في القرى والأرياف ملاذًا للمعوزين ناهيك عن مساهمتها في نشر المعارف الإسلامية. كما تميزت بعض الطرق بتأسيس مشروعات اجتماعية مثل التعاونيات الزراعية التي ساعدت في مكافحة الفقر والمجاعة.

لعل نظرة فاحصة للقضية موضوع المقال، يمكن تلخيص أهم عناصرها في الجدول الآتي:

التأثيرات الرئيسية

 

تراجع دور التصوف في الصومال

من الأمور الحتمية أن الأشياء تعرف طيلة وجودها نوعا من النمو والتطور ثم التدهور. ولم يشذ التصوف في الصومال عن هذه القاعدة؛ حيث شهدت الطرق الصوفية في الصومال تراجعًا ملحوظًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة في المناطق الحضرية، نتيجة لصعود التيارات السلفية التي استغلت قوتها الاقتصادية والسياسية والإعلامية لتقديم خطاب دعوي أكثر تنظيمًا وتأثيرًا. هذا التراجع لم يمنع من التأكيد على دور التصوف التاريخي في نشر العلوم الدينية ومقاومة الاستعمار، إلا أن الطرق الصوفية عانت من التفريط في علاقتها بالشعب، واعتمادها على أساليب تقليدية في الدعوة، ما جعلها تفقد بريقها لصالح التيارات الإسلامية الأخرى.

ورغم أن الطرق الصوفية، مثل القادرية والإدريسية، كانت ذات حضور واسع، إلا أن افتقارها للدعم المالي الخارجي، وغياب المشاريع التعليمية الحديثة أثر سلبًا على مكانتها. كما أُضعفت شعبيتها بسبب اتهامات بمداهنة الحكام، وعدم قدرتها على تقديم حجج فكرية قوية.

في بداية الستينيات من القرن الماضي، مع استقلال الصومال وظهور الدولة الحديثة، بدأت "الصحوة الإسلامية" تؤثر بشكل كبير على مجالات الحياة الصومالية، مما أضعف من تأثير الطرق الصوفية التي كانت سائدة في المجتمع. كان التيار السلفي، بقيادة الشيخ نور الدين علي علو، هو الأكثر تأثيرًا في الدعوة للتجديد الديني، حيث انتقد بشدة العقائد الصوفية، خاصة التضرع للأضرحة وكرامات الأولياء، وهو ما رآه العديدون في الأوساط التعليمية والتحديثية غير مناسب لعصر التغيير.

مع مرور الوقت، أضحت الطرق الصوفية مجرد ظاهرة احتفالية تقليدية، لم تقدم أي مساهمات جديدة في مجالات العلم أو السياسة أو النشاط الاجتماعي، مما أدى إلى تراجع دورها في مواجهة التيارات الإسلامية الحديثة مثل السلفية التي وجدت في تصرفات الصوفية، مثل الطواف حول الأضرحة والنذر لها نقاط ضعف يمكن استغلالها في معركة الدعوة. تزامن هذا الانحدار الصوفي مع تراجع شعبيته بسبب ارتباطه بالنظام الحاكم آنذاك، مما أفقده تعاطف الجماهير، خصوصًا خلال الحرب الأهلية، حيث لم يؤد الصوفيون دورًا فعالًا في مجالات التعليم أو الإغاثة كما فعلت الجماعات الإسلامية.

تعمقت الهوة بين السلفيين والمتصوفة، مع انهيار الدولة في التسعينات، حيث اشتدت المواجهات الفكرية والسياسية بين الطرفين، واعتبر كل منهما الآخر تهديدًا للهوية الدينية الصومالية. في هذا السياق، ظهرت حركة "أهل السنة والجماعة" في عام 2008، وهي حركة صوفية مسلحة تأسست لمواجهة حركة الشباب المتشددة.

تاريخيا، ظل الفكر الصوفي بعيدًا عن العنف، لكن بعض الطرق الصوفية إلى العمل المسلح، مستفيدة من الدعم المحلي والإقليمي، خصوصًا من إثيوبيا. وقد تميزت هذه الحركة بقدرتها على جذب الدعم الشعبي ضد "إرهاب" حركة الشباب من جهة، ودعم القوى الإقليمية والدولية التي ترى فيها قوة معتدلة في مواجهة التطرف.

العقل المستقيل متى يستأنف عمله؟

يصف محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" العقل الصوفي ب "العقل المستقيل"؛ زاعما أنه عقل تخلى عن دوره النقدي والتحليلي لصالح الاعتماد على المعرفة الذاتية المباشرة والاتصال الروحي بالحقيقة العليا، مثلما تمثل في الموروثات الهرمسية والمانوية.

هذا العقل يفترض عجز الإنسان عن الوصول إلى المعرفة من خلال التأمل في الكون، ويربط الفهم الحقيقي بعلاقة باطنية وشخصية مع المطلق. ويترتب على ذلك أن المعرفة تصبح ذاتية وغير موضوعية، حيث يقتصر مجالها على التجربة الروحية الفردية بدلاً من التفسير العلمي أو المنهجي.

وبغض النظر عن مدى صحة هذا النظر، ولسنا في موضع نقدي لكلام الجابري إلا أن النظر التاريخي يوضح لنا بالملموس أن العقل الصوفي لم يكن يوما مستقيلا، صحيحا أن استقالته سببها تراجعه عن أداء وظيفته الحقيقة التي أنيطت به، بل كانت سببا في نشأته، وكذا الاعتبارات السياسية التي جعلت التصوف يؤدي أدوارا هامشية في المجتمع بل وفي عمليات الحراك الاجتماعي.