الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
إن الحرب التي أشعلتها قوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023، والتي ما زالت مستمرة، خلقت قدراً هائلاً من المآسي والآلام التي لا تطيق الأرض ولا الجبال على حملها؛ وحلمها السودانيون في جلد وثبات حيناً، وفي جزع ويأس أحايين أخرى. كذلك كشفت هذه الحرب عن بطولات قدمها السودانيون في مختلف الميادين. ولا يمكن أن يرى العالم هذه البطولات والملاحم ولا أن تتعاطف البشرية مع السودانيين بلا دور فاعل لوزارة الإعلام. بسبب التداخل بين الخاص والعام، الخلط بين النشاطية والموقع العام، مرت بعض البطولات مرور الكرام، بينما سُكت عن الآلام بحجة القيود الوظيفية.
مثلت مهمة إنقاذ ما تبقى من بذور في بنك الجينات الوراثية بفرع مدينة الأبيض، بعد أن دمرت الدعم السريع الفرع الرئيسي بود مدني بطولة. هذه البذور بمثابة إرث سوداني خالص، يبين أن هذه الأرض معطاءة ولو كره الأعداء. لم يكن نقل بذور، تحتاج لرعاية خاصة، أمراً سهلاً ما قبل الحرب؛ فكيف إذا نقلت هذه البذور من الأبيض المحاصرة -وقتها- عبر طرق وعرة نحو بورتسودان، ومنها إلى النرويج؟ أليست هذه بطولة!
انهارت العملية التعليمية في السودان مع إطلاق الرصاصة الأولى؛ إذ توقف التعليم بقرار اتحادي، ومن ثم عادت العملية التعليمية وفق تقدير السلطات الولائية. هذه العودة التدريجية كانت أساساً لعقد امتحانات الشهادة السودانية الثانوية المؤجلة للعامين 2023 و2024. وقف خلف هذه العودة معلمون لا يتجاوز راتبهم الأساسي شهرياً حاجز 30 دولار، وهو مبلغ يصل إليه المعلم بعد عقود من الخدمة في قطاع التعليم. بجانب هؤلاء، ساهم في العودة عمال دخلهم لا يتجاوز الثلاثة دولارات. في أحايين أخرى، كانت هذه المرتبات على قلتها لا تصل، لدرجة التهديد بالإضراب عندما طالت المدة؛ مثلما حدث في ولاية كسلا.
ولا يمكن أن يرى العالم هذه البطولات والملاحم ولا أن تتعاطف البشرية مع السودانيين بلا دور فاعل لوزارة الإعلام
نجح العاملون في مستشفى النو، من أطباء وممرضين وعاملين ومتطوعين، على معالجة آلام الذين آثروا البقاء رغم اشتداد القصف، أو بسبب ضيق ذات اليد عن التحرك خارج نطاق النيران. داوى هؤلاء المدينة الجريحة وسكانها، بضمادات من أمل، عسى أن يزول الكابوس. وقد كان بعد أن طردت قوات الدعم السريع من العاصمة في مارس/آذار 2025. ولا يذكر تحرير الخرطوم بدون التوقف عند معركة عبور الجسور في 26 سبتمبر/أيلول 2024. واجه أبطال ذلك اليوم، وكل يوم، سماء مكشوفة وخصماً متربصاً بهم، ورصاص احتمالية إصابته لهم أعلى من نجاتهم منه. كل هذه قائمة طويلة من البطولات، قد يعرفها بنو البلد وقد يجهلها البعض الآخر. لكنها بطولات لن تخلد، ولن يعرفها العالم، ما لم تقم الدولة وإعلامها دور الإضاءة على هذه البطولات.
أصدر المكتب الصحفي للوزارة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بياناً أعلن فيه أن مهام الناطق الرسمي باسم الحكومة لم تعد من صلاحيات الوزير، منذ إعادة تعيينه في حكومة كامل إدريس التي تم تشكيلها في يوليو/ تموز المنصرم. مرد البيان كان ردة الفعل الشعبية الغاضبة على صمت الوزارة عن المآسي والجرائم التي ترتكب بحق السودانيين في الفاشر المحاصرة، والدلنج وكادقلي وغيرها من المدن التي تفرض عليها قوات الدعم السريع والقوى المؤتمرة بأمرها تحت تحالف تأسيس. خلق هذا الغضب وسماً دعا لإقالة الوزير من منصبه؛ وهو ما استدعى الوزارة لإخراج البيان.
بالعودة إلى دور الوزير بعد إعادة تعيينه في الحكومة الجديدة، لم يكن سحب مهمة الناطق الرسمي من بين أيديه سبباً يحول دون التصريح في مختلف القضايا، حتى تلك التي خارج نطاق تكليفه. هنأ الإعيسر القوات المسلحة بمئوية إنشائها في بيان. ورغم أن القضايا كانت مرتبطة بشكل رئيسي حول الملفات الأمنية ومياه النيل؛ فقد علق على التكامل بين مصر والسودان خلال الزيارة التي أجراها رئيس الوزراء في أغسطس/ آب الماضي. عند تحرير مدينة بارا، في سبتمبر/ أيلول الماضي، هنأ الإعيسر الشعب السوداني بصفته وزيراً، وعاد بعدها بأيام للتعليق على العقوبات التي فرضت على مسؤولين سودانيين على رأسهم وزير المالية جبريل إبراهيم.
عبر أنه يتحدث كمواطن سوداني لا كوزير وكأنما مسألة الوزارة زي يرتدى وينزع عند الرغبة، لا منصب له التزاماته وقيوده
رغم أنه لم يعد ناطقاً باسم الحكومة، إلا أنه شارك في حوار تلفزيوني، وتحدث فيه بشكل يشبه أنه ناطق باسم الحكومة، موضحاً ما تعمل عليه وما فعلته. ومن المفارقات أن الوزير سبق أن أشار إلى حصار الفاشر في أغسطس/آب الماضي، ودعا المجتمع الدولي لكسره دون أن يحول نزع مهام الناطق الرسمي عن حديثه عن الفاشر. كذلك صرح، قبل يوم من بيانه التوضيحي حول مهام الناطق الرسمي، عن ضرورة كسر حالة الصمت عن المدن المحاصرة.
يوضح نشاط الوزير أن دور الناطق الرسمي ليس بذاك العامل المؤثر في تسليط الضوء على الجرائم التي وقعت على السودانيين. فقد تأخرت من قبل الوزارة عن إدانة المذبحة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بضاحية صالحة، جنوبي أمدرمان، أواخر أبريل/ نيسان الماضي. ورغم إقرار الوزارة بتأخرها في ذلك؛ فقد عزا الوزير الأمر إلى قلة عدد الموظفين بالوزارة، وانشغالهم بمهام أخرى. وقد كانت المهمة في ذلك اليوم استلام السودان لعدد من المعالم التاريخية بعد عملية ترميم تمت بالتعاون مع تركيا؛ إلا أن الخبر كان تثمين الوزير للشراكة الاستراتيجية بين السودان وتركيا.
ارتبطت حالة السخط على الوزير بأمر وقع في تلك الأيام. استقبل وزير الثقافة والإعلام والسياحة، في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بمكتبه إعلامياً عربياً. أطلق الوزير عليه صوتاً شريفاً في زمن كثر فيه الصمت. انطلق الصحفي في رحلته لتوثيق ما جرى في السودان من عدوان ودمار وخراب. يحكي الصحفي في أول منشوراته أنه ذاهب لاستطلاع أبشع جريمة، والذي كان مركزاً ل"رعاية المغتصبات"، وأنه سيستمع ل "آهات وأنات" الضحايا. أفرد الصحفي حساباته الرسمية والاحتياطية، منذ أن حل بالبلاد، ليصف ما جرى بحق السودانيين من تقتيل وتشريد وإفقار. وزار مصفاة الخرطوم، وعدداً من المنشآت العامة والبنى التحتية التي لحق بها الدمار.
إن مقدم صحفيين أجانب لتغطية آثار الحرب يكون في العادة لنقل الصورة لجمهور خارجي بعيد عن وصول الإعلام المحلي، أو ذو صوت مسموع ومؤثر في دوائر صنع قرار خارجية، وغربية على وجه التحديد. يأتي هذا الأمر، بطبيعة الحال، بكلفة ما. على سبيل المثال، استطاع الكاتب الفرنسي برنارد هنري ليفي أن يعكس مسألة الحرب الدائرة في السودان وحجم الدمار والصمت الدولي حوله. نشر مواده عن السودان في عدد من المواقع منها منصات فرنسية وأمريكية وإيطالية وأوكرانية وغيرها. أراد، ضمن أشياء أخرى، أن ينقل رسالة مفادها أن السودانيين الذين يموتون أكثر من قتلوا في غزة، وأن الناشطين المهمتين بوقف الإبادة عن غزة منافقون.
في حالة الإعلامي العربي، تفتح عدد من الأبواب للتساؤل. أول هذه الأسئلة ما هو الجمهور الذي يستطيع أن يصله هذا الكاتب؟ من خلال نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يبدو أنه يقدم المسألة السودانية لجمهور جديد. يسرف في استخدام كلمة " قحاطة“، التي يقصد بها قوى الحرية والتغيير التي يشكل فريق منها "صمود" و"تأسيس"، ويدخلها في جمل مفيدة حيناً وغير مفيدة في أحايين أخرى. هذه أدوار يقوم بها، دون كثير عناء، إعلاميون سودانيون، بل أحياناً ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي.
من بين علامات الاستفهام أن مواقع التواصل الاجتماعي شاهدة على مشادات كلامية بين هذا الإعلامي وبين سيدة من بلده، وصلت حد التشهير والطعن في الشرف؛ فكيف يمكن أن يكون صوتاً أصيلاً وجاداً للدفاع عن ضحايا هذه الحرب من النساء؟
ثالث التساؤلات هي موقفه تجاه المؤسسات الحكومية السودانية وأفرادها. فقد سبق أن وصف جنود القوات المسلحة بالمرتزقة. في العادة قد تراجع الدول مواقفها السياسية وقراراتها، لكن هذا لا يجعلها تفتح الباب لأن ينتقدها ويهاجمها الناس تحت راية: نحن أخطأنا، وبخونا. فكيف بالدولة أن تستقبل شخصاً أفرد صفحاته وحساباته من قبل لشتمها. التفسير الأقرب هو كلمات المدح والإطراء التي يطلقها الصحفي على وزير الإعلام، ونشر اللافتات التي تحمل صور الوزير على منصات التواصل الاجتماعي هو السبب الذي يبقي هذا الإعلامي حراً طليقاً يتصرف كيفما يشاء، ويتحدث عن تحرير المدن.
تكمن مشكلة أخرى فيما يخص وزارة الإعلام وتعامل الوزير معها. الحساب الرسمي للوزير هو نفسه حسابه الشخصي الذي استخدمه قبل الوزارة، والذي سيبقى معه بعيد خروجه من المنصب. ينطبق هذا الأمر على حسابيه في موقعي فيسبوك، والإكس (تويتر سابقاً). يتابع الوزير من خلال هذه الحسابات شخصيات وجهات ليست ذات صلة بصفته الاعتبارية كوزير للإعلام في موقع الإكس، بينما يتابع الوزير في حسابه على الفيسبوك حساباً واحداً فقط يحمل اسمه أيضاً. ومرد المشكلة ليست بسبب حظر الوزير للحسابات التي تنتقده - فهو حساب شخصي في النهاية. لكن المشكلة الرئيسية تكمن في أن عدداً هائلاً من التصريحات الرسمية لا تخرج من خلال القنوات الرسمية، بل تصدر من حسابه الشخصي، وتتحول لأخبار منشورة في وكالة السودان للأنباء. يندر خلو مادة خبرية في وكالة السودان للأنباء - مرتبطة بالوزير- من عبارة " واضاف في تدوينة بصفحته على الفيسبوك" لتتداخل الخطوط بين الرسمي والشخصي.
بالعودة إلى دور الوزير بعد إعادة تعيينه في الحكومة الجديدة، لم يكن سحب مهمة الناطق الرسمي من بين أيديه سبباً يحول دون التصريح في مختلف القضايا، حتى تلك التي خارج نطاق تكليفه
في جانب آخر من التداخل بين الشخصي والعام، تجد المواد الخبرية المرتبطة بالوزير اهتماماً خاصاً من حيث جودة الصور، وشكلها الرسمي، وهو أمر غير حاضر في الأخبار المنشورة عن بقية المسؤولين بالحكومة. على سبيل المثال، تنشر وكالة السودان للأنباء صورة لسفير السودان بالاتحاد الروسي، محمد الغزالي، وهي عبارة عن صورة مأخوذة من بث. وتحتوي مواد خبرية أخرى، علاوة على عدم جودة الصور وعدم احترافيتها، على معلومات غير مكتملة؛ وكأنها مواد غير ذات أهمية.
شارك الإعيسر في مطلع أبريل/ نيسان الماضي في حملة لرجم ما اعتبر دمية أو تمثالاً لقائد قوات الدعم السريع. نشر الوزير المشهد، وهو يرجم الدمية، مع تعليق "الشعب يرجم زعيم المليشيا"، قبل أن يعدله بعد دقائق ليشرح بصورة مفصلة مشاركته في هذه الفعالية. وفي حسابه بموقع فيسبوك، قام الوزير بنشر عدد من الصور لعناوين أخبار يقوم خلالها محتجون برجم أو حرق دمى لمسؤولين، لكن الوزير تناسى أنه هو المسؤول في هذه الحالة لا حميدتي الذي أصبح متمرداً، وإن كانت هنالك مساحة لهذا الرمي فهي لعامة الناس لا المسؤولين الحكوميين.
وقبل ستة أسابيع من البيان التوضيحي حول سحب مهام الناطق الرسمي، كان الوزير يتحدث في العاصمة البريطانية لندن خلال تجمع للجالية السودانية، ويعلن فيه أن كائناً من كان لن يمنعه من الدفاع عن الشعب السوداني. وقد عبر أنه يتحدث كمواطن سوداني لا كوزير وكأنما مسألة الوزارة زي يرتدى وينزع عند الرغبة، لا منصب له التزاماته وقيوده.
إلى حين التمييز بين المساحة الخاصة والموقع العام، وإلى حين الإدراك بأن التصرفات التي كانت تجلب المدح والإطراء في حياة سابقة ليست مناسبة لرجل دولة يعكس صورة ملايين السودانيين؛ تبقى مسألة نقل بطولات السودانيين ومعاناتهم للعالم – إن كان قادراً على فعل- خاضعاً لتقديرات ذاتية.