الأحد 9 نوفمبر 2025
أثارت تصريحات أحمد هارون، القيادي في حزب الرئيس المعزول عمر البشير، التي قدم فيها رؤية عن الوضع السياسي ومستقبل الحكم في السودان، ضجة في الساحة السياسية، حيث اعتبرت بمثابة تدشين لعودة حزب "المؤتمر الوطني" من جديد إلى الواجهة.
لم تكن هذه التصريحات الأولى، فقد سبقتها أخرى لهارون ولغيره من رموز النظام السابق منذ بداية الحرب، وقد تنوعت هذه من التنظير حول الواقع السياسي، الذي غلفته أجواء الحرب، إلى الإدلاء بآراء حول النظام المتشكل والطريق نحو الانتخابات.
بالنسبة لكثير ممن كانوا متحمسين لإقصاء "الكيزان"، وهي الكلمة المحلية المستخدمة لوصف الإسلاميين الذين كانوا يمسكون بالسلطة، فإن هذه الجرأة، التي تحلى بها رموز النظام القديم، على الإدلاء برأي حول طبيعة الحكم وطريقة المشاركة ونوع المشاركين، كانت أمراً مستفزاً، حيث كانت الدعاية، التي تم إطلاقها منذ السقوط تقول أن النظام، الذي كان يطلق عليه وصف "البائد"، لن يعود، وأنه أصبح شيئاً من الماضي.
حتى الآن هناك من يصر على قول أن عودة "الكيزان" إلى الحكم عبر حزبهم القديم أو عبر أي لافتة أخرى هو أمر غير ممكن، لكن نظرة مجردة إلى الواقع تخبرنا أن أولئك صاروا جزءاً لا يمكن تجاهله من معادلة السلطة القائمة، كما أن بالإمكان تلمس بصماتهم في نواح عدة بداية من السلطة التنفيذية المحلية ونهاية بالسياسة الخارجية.
في حين تحاول رموز "إسلامية" أن تتحدث وكأنها ممثلة للسلطة، فتقول ما يجب أن يفعل على المستوى السياسي، ولا تجد غضاضة في توزيع صكوك الوطنية أو العمالة على من تريد، فإن رئيس مجلس السيادة يسعى لتأكيد عدم ارتباطه بأي حزب سياسي، وهو تصريح متكرر يفسر على أساس أن المقصود به هم الإسلاميون، لكونهم باتوا اللاعب السياسي الأهم على الساحة.
في المقابل فإن هذه الرموز الإسلامية تضاعِف الحرج على قيادة الدولة، عبر تأكيد ارتباطها بها من مدخل "حرب الكرامة"، التي تساند الجيش فيها مجموعات من المتطوعين الجهاديين، الذين يشاركون في المعارك استجابة لدعوة قيادات الزمن البائد، التي وجدت في هذا الظرف الاستثنائي فرصة لاستعادة مكانتها.
هناك من يصر على قول أن عودة "الكيزان" إلى الحكم عبر حزبهم القديم أو عبر أي لافتة أخرى هو أمر غير ممكن، لكن نظرة مجردة إلى الواقع تخبرنا أن أولئك صاروا جزءاً لا يمكن تجاهله من معادلة السلطة القائمة
من المفارقات اللطيفة هنا ما حدث من تبدل في المزاج العام، فبينما كان الحديث يدور بعد إسقاط البشير على فتح فرصة المشاركة السياسية للجميع عدا "المؤتمر الوطني" وغيره من الواجهات المرتبطة بالنظام السابق، فإن الحديث أصبح اليوم عن ضرورة إقصاء رموز قوى الحرية والتغيير، التي تعرف اختصارا ب"قحت"، والتي كانت قد استحوذت على الفضاء العام خلال سنوات الانتقال، قبل أن تنقسم إلى عدة مسميات، أبرزها تحالف "صمود"، الذي يلعب الآن دور المعارض الأبرز.
السؤال، الذي يفرض نفسه، وسط هذه التغيرات هو: كيف حدث كل ذلك، وكيف تبدل حال "قحت" من الإمساك بالسلطة، إلى الإنزواء خارجها، بشكل جعل قادتها لا يستطيعون البقاء دون تنسيق مسموم سواء مع الجنرال المنشق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أو مع أنظمة خارجية ترغب في إيذاء السلطة القائمة، وتعمل على استغلالهم بهذا الاتجاه؟
في بداية التغيير كانت قد توفرت لتلك المجموعة من السياسيين فرصة تاريخية في التفرد بالحكم، بعد أن عملت دعاية مكثفة على إلقاء صفات كثيرة عليهم كمسمى "قوى الثورة". هذه التسمية كانت تسمح لهم بتشكيل الفترة الانتقالية وفق تصوراتهم.
كان يمكن لهذا أن يسير بشكل مقبول فيتم التأسيس لدولة حرية وعدالة، وأن تساعد تلك القوى غيرها من المنظمات المدنية في التحضير لانتخابات نزيهة في أقرب فرصة. لكن الذي حدث كان أمراً مختلفاً، حيث تفرغت القيادات الحزبية المنضوية تحت اسم "الحرية والتغيير" لتصفية حساباتها القديمة مع رموز النظام، وعملت في سبيل ذلك لتعطيل القانون، وتسييسه بمسوغ حماية مكتسبات الثورة ومنع تسلق "الفلول".
ساهمت الخطايا الكثيرة التي ارتكبتها حكومة "الحرية والتغيير" في تأليب الرأي العام ضدها، وكان من أبرزها تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب، فبعد خطاب عاطفي وصف فيه الثوار نظام البشير بأنه نظام يتقاسم فيه المقربون من السلطة كعكة الوزارات، تفاجأ المتحمسون للتغيير، بأن "قحت" تفعل الأمر نفسه، وبشكل فج أكثر، لدرجة أن أحد رموزهم قال بشكل مستفز: "نعم سنبدل التمكين بتمكين".
كانت تلك الحكومة أكبر من كل نقد، وكان يكفي أن تنعت أحد وزرائها بالفشل، حتى يتم التنكيل بك، ويتم وصفك بأنك من التابعين للنظام البائد
كان ذلك هو الإحباط الأول، حيث تبخر حلم حكومة الكفاءات، التي ينضوي تحتها أبناء السودان من ذوي الخبرة، وأولئك، الذين لم يجدوا فرصة للتوظيف خلال الفترة السابقة، واستفاق الناس على وجود محاصصة بين الأحزاب، التي تقاسمت الغنيمة بشره.
كانت تلك الحكومة أكبر من كل نقد، وكان يكفي أن تنعت أحد وزرائها، خاصة أولئك الذين كانوا دون خلفية عملية ولا علمية تذكر، بالفشل، حتى يتم التنكيل بك، ويتم وصفك بأنك من التابعين للنظام البائد.
تم تعطيل تكوين البرلمان لتحصين أنفسهم. حتى فكرة البرلمان، الذي يتم تعيين ممثليه بعد اختيار وفحص تم تجاوزها من أجل منح المسؤولين حرية التحرك بلا محاسبة. هذا مضافاً إليه تعطيل المحكمة الدستورية والتدخل في عمل القضاء وتكوين نيابات موازية كانوا يجعلون الأجواء العامة أبعد ما تكون عن الديمقراطية، بل كانت تجعل الوضع أسوأ بكثير مما كان عليه أيام البشير، الذي كان يسمح لحد معقول بالمعارضة.
لجنة تفكيك التمكين، التي توسعت في فصل الآلاف من وظائفهم وتجريد الكثير من أموالهم بحجة موالاتهم للنظام السابق، وتوجهات الحكومة الليبرالية، التي كانت تعتبر معادية للدين ومقللة منه، والتي لم تكتفي بحل جمعية القرآن الكريم، بل مضت في تحويل أحد أهم مقراتها لمكتب لرعاية النوع ودعم المثليين، كل ذلك وغيره كان يساهم في انفضاض الناس عن الحكومة، التي دعموها في البداية حماية لثورتهم.
كانت "قحت" لا تنظر للحرب إلا كفرصة للثأر من للجيش، الذي أبعدها عن السلطة، فبدت بموقفها ذاك وكأنها مجرد جناح سياسي للجنرال المتمرد
كانت المقارنة بين الواقع، الذي يسيطر عليه الفشل الاقتصادي والتخبط السياسي، وانعدام أفق المشاركة بعد احتكار المجال العام من قبل مجموعة صغيرة من السياسيين، وبين ما اختبره الناس من حياة في الماضي، تجعل كثيرين لا يخفون حنينهم لنظام البشير، الذي عارضوه في البداية، وعملوا على إنجاح إسقاطه ظناً بأنهم سينتقلون إلى ما هو أفضل من ناحية الممارسة السياسية والتمتع بالرخاء الاقتصادي.
ما سبق ساهم في انفضاض كثيرين من حول "قحت"، حيث بدأ الشوارع في الثورة عليهم وملاحقة رموز حكمهم، الذين صار من الصعب عليهم عقد لقاءات جماهيرية أو الظهور في الساحات العامة.
كل ذلك كان بالإمكان تصحيحه والتفاهم حوله، إلا أن ما أفقد "قحت" كل تعاطف كان موقفها من الحرب المشتعلة في السودان، فحين كان الشعب كله يلتف من أجل مجابهة عصابات "الجنجويد"، التي بدأت في عمليات سرقة ونهب للممتلكات العامة وتوسعت في احتلال البيوت وإخراج أهلها منها مع ما رافق ذلك من قتل واغتصاب وتخريب، كانت "قحت" لا تنظر للحرب إلا كفرصة للثأر من للجيش، الذي أبعدها عن السلطة، فبدت بموقفها ذاك وكأنها مجرد جناح سياسي للجنرال المتمرد.
في الوقت، الذي كان عامة السودانيين يرون كتائب الإسلاميين وشبابهم يقاتلون إلى جانب الجيش، ويبذلون الأرواح دفاعاً عن الأرض والعرض، كان رموز "قحت" يقفون معلنين الصمت والحياد، بل وينتهزون كل فرصة من أجل وصف أولئك المدافعين بالإجرام، وانتهاك حقوق الإنسان. كان ذلك هو كل ما يحتاجه الإسلاميون من أجل كسب التعاطف والاقتراب مجدداً من السلطة.